قراءة انطباعية في رواية «أرواح تحت الصفر» لأفين أوسو

حاتم الأطير
أحياناً يخطر لي أن الحكاية ظل الفطرة، وأن الرواية ظل الخبرة، وأن الأدب ماشٍ في أروقة الفن والعالم – مندهشاً وجميلاً – على قدمين: الفطرة والخبرة!
أفين أوسو حكت ببراءة لا تخلو من معرفة، وروَت بمعرفة لا تتعالى على البراءة، بل تجعل منها عنصراً بطلاً في عالمها العارف بالنار والحديد.
ديستوبيا أوسو واقعية، وهو ما يجعلها أكثر رعباً، خطرها على أي قارئ ذي عاطفة حيّة جسيم! لأنها تورّطه في مشاعر لا فكاك منها ولا خلاص، حدَث مثلاً أن قضيت ليلة كاملة في وجدٍ كامل بعد ما تعرضت له الطفلة شام (إحدى شخصيات الرواية) في دراما تعصف كابوسيّتها بالعقل والروح.
كاميرا المشاعر – وأتمنى أن يكون تعبيراً دقيقاً – بدت لي وكأنها من وجهة نظر صفرنا البشري كطفولتنا النائمة تحت الغطاء الدافئ في ليل قارس بغرفة مظلمة: رومانسية وأشباح… أحلام وكوابيس… دفء وأرق… خدر وجوع… واللامتناهي من الأمل والتوتر. ربما العنوان «أرواح تحت الصفر»، وهي رواية صادرة عن دار ببلومانيا للنشر والتوزيع، يتفق معي حول هذا الشأن فهو بنفسه قد وضع الكاميرا تحت هذا الصفر الملقى وحيداً.
سترى وتبكي سواء كنت في البر مع أفيستا أو في البحر مع جيان (بطلتا الرواية)، البر المسعور والبحر السادي ثنائية الهلع التي تُعَنْون بها أوسو أحداثها على طول الرواية «أفيستا، جيان» فليعرق قلبك وهو يهرول يمنة ويسرة في هذا العالم المجنون المهووس بالمفاجآت المؤلمة.
حتى رجل عربي مثلي يعيش في مصر ويشتري الرواية مصادفة من القاهرة لا بد وأنه سيقع في نفسه شيء من حماس شفان الثوري وآماله، فهو صورة نفسية ودرامية من غالبية شباب الربيع العربي ومآلات تصوراتهم وتجربتهم على اختلاف الأحداث والنتائج في كل بلد من البلدان، كذلك والد أفيستا، فهو بدا صورة من جيل لم يفلت جيلنا كله من تعنته وغطرسته وأحادية نظره، إن صراع شفان ووالد حبيبته أفيستا هو صراع بين جيلين شرقيين من الآباء والأبناء لا صداقة بينهما ولا عداوة بل مكاشفة ومحاكمة وقد نطق جيل بأكمله حين قالت أفيستا لوالدها:
«أنت موبوء بالحرب يا أبي».
لأفين أوسو لغة تميل إلى الشاعريّة، وإن كانت لا تُفَرّط أبداً في الروائيّة واختيارها للغة العربية كي تكون لغة أول أعمالها الروائية أعتقد كان تحت تأثير خفي من شاعرية هذه اللغة الجميلة ولا تجد أوسو عائقاً في اختيار مستوياتها اللغوية داخل الرواية فهي ترتفع هنا وتنخفض هناك ارتفاع وانخفاض أبطالها وأحداثها فأنا لا أشعر باضطراب حين أجد الفعل الحداثي «وضَّبَ» أو اللفظ التراثي «الجوى» في مطلق سردها.
سبق وأن كتبتُ قصيدة بعنوان «بكائية على مقام الكرد» كانت مهداة إلى روح بارين كوباني في العام 2018 ولاقت صدى طيباً عند كثير من الأصدقاء قرّاء القصيدة العربية، لكن أن يصلنا أدب الروح الكردية الأصلية فهذا شيء حسن، أما أن يكون هذا الحسن عابراً بأدبه إلى ما ليس كرديّ الهم والموضوع فهذا شيء عظيم، وكتابة أوسو لديها كل المقومات لتصبح أدباً إنسانياً لا محدوداً بالعرق واللغة والهم، كما أنه أدب قومي ينتصر للروح الكردية بجماليات الخيال والفن.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أصدرت منشورات رامينا في لندن حديثاً المجموعة القصصية “تبغ الفجر” الشاعر السوري الكردي علي جازو، في كتاب يضم اثنتين وعشرين قصة قصيرة تتنوع بين النصوص اليومية المكثفة والمقاطع التأملية ذات الطابع الشعري والفلسفي.

تتّسم قصص المجموعة بأسلوب سرديّ دقيق، يبتعد عن الزخرفة اللغوية ويميل إلى الكتابة من الداخل. الشخصيات تتحدّث من دواخلها لا من مواقفها، وتُركّز…

خوشناف سليمان ديبو

 

يُعد الأديب والفيلسوف الروسي فيودور دوستويفسكي من أبرز وأعظم الروائيين في تاريخ الأدب العالمي. فقد أدرِجت معظم أعماله ضمن قوائم أفضل وأهم الإبداعات الأدبية وأكثرها عبقرية. وتكمن أعظم ميزات أدبه في قدرته الفذة على سبر أغوار النفس البشرية، وتحليل خفاياها ودوافعها العميقة. قراءة رواياته ليست مجرد متعة سردية، بل رحلة فكرية وروحية تُلهم…

غريب ملا زلال

شيخو مارس البورتريه وأتقن نقله، بل كاد يؤرخ به كسيرة ذاتية لأصحابه. لكن روح الفنان التي كانت تنبض فيه وتوقظه على امتداد الطريق، أيقظته أنه سيكون ضحية إذا اكتفى بذلك، ولن يكون أكثر من رسام جيد. هذه الروح دفعته للتمرد على نفسه، فأسرع إلى عبوات ألوانه ليفرغها على قماشه…

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…