فراس حج محمد| فلسطين
يعرف الشاعر في كثير من الأحيان بقصيدة واحدة تصبح علامة دالة عليه، أو ديواناً على أحسن تقدير، فيشيع ذلك بين جمهور القراء، فينسى شعره كله ولا يستعاد إلا في مناسبات البحث والتنقيب عن تلك الجوانب المخفية في الشعر لدراستها، طلباً للجدة والابتعاد عن التكرار. وليس بعيدا عن ذلك الشاعر بدر شاكر السياب الذي يصادف في ديسمبر هذا العام (2021) الذكرى السابعة والخميس لرحيله المبكّر، رحمه الله، حيث رحل شابّا عن عمر ثمانية وثلاثين عاماً، ولعلها مجرد صدفة قدر أن يتقارب يوم مولده في 25 ديسمبر 1926 مع يوم وفاته في 24 ديسمبر 1964، ليكون الاحتفاء بذكرى الرحيل هو استذكار لازم ليوم الميلاد؛ فالذكرى السابعة والخمسين للرحيل هي ذاتها الذكرى الخامسة والتسعين لميلاده.
لقد عرف السياب أكثر ما عرف بقصيدة “أنشودة المطر”، وجاءت في ديوانٍ، له العنوان ذاته، فنسي القراء الديوان، وعرفوا القصيدة وأشاروا إليها وأشادوا بها، واقتبسوا مقدمتها وتناصّ معها الشعراء، وذكرها أصدقاء الشاعر في أحاديثهم وذكرياتهم معه وعن القصيدة، ومنهم على سبيل المناسبة الشاعرة العراقية “لميعة عباس عمارة” التي جمعتهما علاقة حب فيما يظهر من كتابات النقاد والدارسين وتلميح الشاعرة ذاتها، فقد صرحت في أحد لقاءاتها المتلفزة أن السياب قد أطلعها على قصيدة “أنشودة المطر” قبل أن تنشر، بحكم أنه كان يطلعها على جديده أولا بأول. إذاً، ربما يصح أن نقول إن “أنشودة المطر” قد أكلت شعر الشاعر واختزلته، كما اختُزل غيره بقصائد منفردة.
خلّف الشاعر بدر شاكر السياب مجموعة من الديواوين طبعت تحت عنوان “ديوان بدر شاكر السياب- الأعمال الشعرية الكاملة”، ويضم أحد عشر ديواناً، ومجموعة قصائد أخرى لم تنشر في تلك الدواوين، وقد قام على هذا الجهد الباحث سمير إبراهيم بسيوني، وصدر في القاهرة عن مكتبة جزيرة الورد عام 2009 في (750) صفحة يضمّها مجلد واحد من جزأين من القطع الكبير بغلاف مقوّى.
تشير هذه المجموعة إلى أن الشاعر غزير الإنتاج؛ فقد كتب الشعر وهو ابن عشرين عاماً كما تشير “قصائد البواكير”، وما بين عامي 1941 وحتى 1964، أنتج في هذه السنوات الثلاث والعشرين عشرات القصائد وولدت فيها آلاف الأفكار والصور الشعرية، وعلى هامشها اشتعلت معارك التجديد في الشكل والمضمون. لقد كان شاعرا استثنائيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
في هذه الاستعادة الخاصة لأبي غيلان في ذكرى الحياة والموت لفتت انتباهي قصيدة “وغداً سألقاها”، وهي قصيدة قصيرة، لكنها تفتح الأفق على كثير من الحديث النصيّ في القصيدة ذاتها، وعلى ما تحيل إليه، وما تربط به من موضوع متشعب ومختلف، وما تومئ إليه في علاقته مع الآخرين، وخاصة تلك المرأة صاحب الضمير الغائب في النص. يقول السياب في القصيدة:
وغداً سألقاها،
سأشدّها شدّاً فتهمس بي
“رحماك” ثم تقول عيناها:
“مزّق نهودي ضمّ- أوّاها-
ردفي.. واطو برعشة اللهبِ
ظهري، كأن جزيرة العربِ
تسري عليه بطيب ريّاها”
ويموج تحت يدي و يرتجفُ
بين التمنع و الرضا ردفُ
وتشبّ عند مفارق الشَّعَرِ
نار تدغدها: هو السعفُ
من قريتي رعشت لدى النهرِ
خوصاته؛ وتلين لا تدري
أيّان تنقذفُ.
ويهيم ثغري و هو منخطفُ
أعمى تلمّس دربه، يقفُ
و يجسّ: نهداها
يتراعشان، جوانب الظهرِ
تصطكُّ، سوف تبلّ بالقطرِ؛
سأذوب فيها حين ألقاها!
هكذا وردت القصيدة في المجموعة الشعرية الكاملة، وتحتل الصفحة (644) من المجموعة، ومؤرّخة ومؤمكنة في “لندن 27/2/1963″، وجاءت في الديوان العاشر “شانشيل ابنة الجلبي” (1964-1965)، وبذلك تكون القصيدة من شعر السياب المتأخر، وهي قصيدة شعر حرّ، لم تحفل بالرموز ولا بالأساطير كعادة السياب، بل جاءت قصيدة سلسة سهلة واضحة، قائمة على المشهدية الموقفية التي يحكمها التمني والفعل في المستقبل. فالقصيدة لا تتحدث عمّا تمّ فعله، وإنما عمّا سيتم فعله في الغد، وهو يوم اللقاء، إذاً، فالقصيدة بنت الأحلام والتمنيات في فكرتها وليست بنت الواقع المعيش والتجربة الحية. فقد كتبها وهو مريض، ولم يكن في كامل صحته. فما الذي يجعل الشاعر يقول مثل هذا النص في ظرف عصيب صحي مرضي مثل هذا الظرف؟
بدت صورة الشاعر في القصيدة صورة الشاب الممتلئ صحة وقوة وعنفواناً وذا قدرة جنسية مجنونة، فقد رسم صورة مشهدية متصورا للقائه بتلك المحبوبة حيث الاتصال الكامل بين حبيبين ينعمان بكل المتع الجسدية المتمناة بين رجل وامرأة. إذ تميل القصيدة في لغتها إلى العنف الجنسي، وليس إلى الرقة والعذوبة والرومانسية الهادئة، ففيها كثير من الثورة والصخب الجنسي اللافت للانتباه بما قد يذكر ببعض مشاهد من روايات الماركيز دوساد أو مشاهد جورج باتاي فيما كتبه من شعر أيروتكي في “القدسي وقصائد أخرى”، أو بعض مشاهد قصصه في “حكاية العين”.
لا أظن أن السياب كان في هذه القصيدة القصيرة متأثرا بأيّ من هذين الكاتبين (دوساد وباتاي)، وإنما هي نزعة فطرية غريزية أحسّ بها فجسدها في هذا النص، متعالياً على مرضه، ومتحدياً ما يمرّ فيه من ألم وتوجع على صحته، فأراد أن يقهر تلك اللحظة بلحظة مشتهاة يفصلها في أحلامه وتمنياته. ولكن هل كان مرضه بالفعل عائقاً أمام إمكانية الاتصال الجنسي مع النساء؟ جاء في وصف مرضه في موقع “الويكيبيديا”: “وفي سنة 1961 بدأت صحة السياب بالتدهور حيث بدأ يشعر بثقل في الحركة، وأخذ الألم يزداد في أسفل ظهره، ثم ظهرت بعد ذلك حالة الضمور في جسده وقدميه”. إن دراسة النص على هَدْيٍ من حالة الشاعر الصحية أمر ضروري للغاية.
يتحدث في النص صوتان (الشاعر والمرأة صاحبة اللقاء)، وتميل القصيدة في بنيتها إلى التقنيات السردية، وجملها في أغلبها جمل نثرية لا صور بلاغية جزئية فيها، وإنما اكتسبت شعريتها من كليتها القائمة على التصوير المشهدي لذلك اللقاء المرتقب الذي تخلله عدة مشاهد تصويرية تصوريّة.
تبدأ القصيدة بتحديد موعد اللقاء، وكيف سيكون اللقاء، إذ سيكون عنيفاً، وسيشدّها شداً، صورة أولية، لا تحمل سوى الشبق والعجلة، وكأن الشاعر سيلقاها في بار. وستكون من بنات الهوى المتعجلات، هو يريد منها متعتها الحاضرة، وهي جاهزة، وجاء مستعداً، فتناولها أول أن أرأها. هكذا يقول المشهد المتصور. إنها أحلام الشاعر في اليقظة، يتخيل كيف سيكون لقاؤه، إنه سيعد له، ويرسم له سيناريوهات. لا يترك اللحظة تصنع نفسها بعفويتها إنما يريد أن يرسمها مسبقا، فيتجاوز عن كثير من المقدمات.
هل لهذا التصور الشبقيّ المسبق علاقة بحالة الشاعر ومرضه. ربّما حمل المشهد شيئاً من ذلك، فما زال قادرا على أن يكون “فحلاً” مع نساء “لندن” على الرغم من حالته التي سبق ووضحتها أعلاه، أم أنها مجرد أمنيات لا تحمل أي واقع ولا تشير إليه، فالقصيدة تعتاش على أفعال مضارعة مُسوّفة مستقبلية، وخاتمتها تحمل ملمحا من العجز يكاد يشعر به القارئ في قوله “حين ألقاها”. إنها جملة تحيل النص إلى رثائية مستكينة في النص يداريها الشاعر بهذه اللغة الصاخبة الصارخة.
إن بين السياب ومحمود درويش فارقا كبيراً في رسم هذه اللحظة، درويش الذي كان حريصا على الهدوء والرومانسية المبالغ فيها، وغير الواقعية، إلا لشخص قد يوصف أنه “عنّين” أو يعاني من الارتباك في لقاءات النساء. فدرويش في قصيدة “درس من كاموسطرا” يوصي العاشقيْنِ بالانتظار إذا ما جن الليل عليهما، وأصبحا غارقين في هدأة الليل وجمال لحظته:
إلى أَن يقولَ لَكَ الليلُ:
لم يَبْقَ غير كُما في الوجودِ
فخُذْها، بِرِفْقٍ إلى موتك المُشْتَهى
وانتظرها
أما السياب فلم ينتظر؛ فثمة فارق بين عاشقٍ حقيقيّ وطالب متعة متعجل أو طالب متعة متمنٍّ، لعلّ موقف السيّاب هذا أشبه بموقف عمر بن أبي ربيعة طَلّاب المتعة العابرة مع النساء، ففي مقطوعة قصيرة يقع ابن أبي ربيعة في المشهدية ذاتها، إذ يقول:
قالت وعيش أبي وحرمة إخوتي لأنبهنّ الحي إن لم تخرجِ
فخرجت خيفة قولها فتبسمت فعلمت أن يمينها لم تحرجِ
فلثمت فاها آخذا بقرونها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
يتشابه المشهدان، مشهد بداية قصيدة السياب والبيت الثالث عند الشاعر عمر بن أبي ربيعة، في أنه لا انتظار، ولا طقوس، وإنما متعة عابرة، إضافة إلى الناحية السرد قصصية لدى الشاعرين والصورة القائمة على التخيّل.
هذا المشهد الافتتاحي عند السياب لم يطلْ كثيراً، فتنتقل القصيدة إلى صوت المرأة، صاحبة اللقاء، عدا أن الشاعر السياب منحها صوتا للحديث، فإن القصيدة ترسم صورة شبقة لتلك المرأة، وجاءت هذه الشبقية متسقة مع المقدمة المغلّفة بالعنف منذ البداية، شبقية مفضوحة واضحة في العينين ولغتها، فما طلبها للرحمة من الشاعر ما هو إلا محض مراوغة أنثوية؛ تمهيديا لإعلان الصخب والعنف الجنسي الذي طالبته فيه، من “تمزيق نهودها، وطيّ ظهرها، وضم ردفيها”، إنها صورة مهدت للشاعر أن يكمل الفعل التخيلي الجنسيّ فيما يأتي من سطور شعرية، وصولا إلى الكناية اللطيفة بانتهاء المشهد بقوله: “وتلين لا تدري أيّان تنقذفُ”.
وهنا يغلق الشاعر النص بعلامة الترقيم النقطة، هذه العلامة التي توحي بانتهاء المشهد الكليّ للقاء من الوصل صاخبٍ، مع أنّ الشاعر جعل خلفيّة هذا المشهد طبيعيّة، حيث النهر والقرية وأجواؤهما. هذه القرية “جيكور” التي لم تفارق شعر الشاعر وظلت تتردد في أشعاره، حتى وهو في آخر البقاع، بُعدا عنها، إلا أنها هي الحاضرة دوما في وجدانه ولب لباب أشعاره.
تتحول القصيدة بعد ذلك إلى الإيقاع الهادئ، وهي ترسم مشهد ما بعد “القذف”، بعد انتهاء الالتحام المتخيّل بينهما، في هذا الجزء من النص، أو هذا “التخيل الاستباقي”، سيلتفت إلى أفعال أخرى أقل صخباً ودرامتيكية؛ فيهيم ثغره وينخطف، ويجسّ نهديها بلطف وهما يتراعشان، وصولا إلى قوله “سأذوب فيها حين ألقاها”.
هذه الجملة- إذا ما تم غض الطرف عن تفسيرها النفسي السابق- منحت النص بعدا روحيا، ورفعت شعرية القصيدة في خاتمتها، بعيدا عن الشبق العابر الذي أوهم به الشاعر قراءه في البداية، فكأنه يعيد إلى أذهان القارئ كثيرا من المقولات الفلسفية حول علاقة الجسد والجنس بالروح والمتعة الروحية المتأتية من العلاقة الجسدية الكاملة، فالجسد حامل للروح، بل هو وعاء للنفس، ولن تولَج الروح إلا من بوابة الجسد.
إن العاشقين جميعا، بل الرجال كلهم، والنساء كذلك، لا بد من أن يكون الجسد حاضرا في العلاقة المركبة المربكة بينهم، ويجب ألا تتحول إلى “شيء” أو “موضوع” مسكوت عنه أو “تابو” محظور الاقتراب منه، ولذلك فإنني أرى أن ما أعلن عنه الفنان اللبناني مارسيل خليفة عام 2019 في إحدى حلقات برنامج “بيت ياسين” أن هذه القصيدة سيلحنها ويغنيها من بين مجموعة أعمال أخرى- لغير السياب- تحتفي بالجسد، لهو أمر في غاية الجمال والأهمية، ولعل أجمل ما يهدى شاعر في ذكراه أن نحيي شعره ونحيّيه بهذه الالتفاتة الفنية التي يتضافر فيها الشعر مع الموسيقى، تحقيقاً عملياً لمقولة “الشاعر لا يموت برحيل جسده”، إنما هو باق ما دام هناك قراء وفنانون يستعيدون شعره، قراءة وبحثاً وألحاناً.
إنّ في دراستي لهذه القصيدة محاولة للإضاءة على جانب مخفيّ من شعر كثير من الشعراء، ويتحاشى كثيرون الحديث فيه، وأعني بذلك الشعر الأيروسي أو الشعر الحامل لإيحاءات جنسية، إنني معنيّ- على نحو خاص- برصد هذا الجانب لدى كثير من الشعراء، وخصصت له فصلا كاملا في كتاب “بلاغة الصنعة الشعرية”.
هذا أمر، والأمر الآخر الذي يدفعني إلى قراءة السياب واستعادته بقصيدة “هامشية” ذات إيحاء جنسي وغير مصنفة على أنها من عيون أشعاره أن بعض أشعار السياب تدرس للطلاب في المدارس في مناهج اللغة العربية، وبلا شكّ فيه فإن المعلمين والنظام التربوي برمته لن يضيء هذا الجانب في حياة الشعراء وأشعارهم، ولن يدفع الطلاب إلى البحث فيها، ولذا ستظل مخفية، ولن يتعرفوا إلا على “أنشودة المطر” و”غريب على الخليج” و”هل كان حبّا؟”، كما حاصل عندنا في فلسطين، حيث تدرس هذه القصائد للطلاب؛ ما يعني تقديم صورة منقوصة ومشوّهة للشعراء.
على الرغم من أنه لن يجرؤ أحد على تجريم السياب، كما لم يجرؤوا على تجريم نزار قباني أو محمود درويش اللذين يُدرّس شيء من شعرهم أيضاً في مدارسنا. ولكنهم بكل وقاحة وصلافة وقلة أدب يجرمون ويشيطنون شاعراً معاصراً يعيش بينهم، منتمياً إلى المنظومة التربوية ذاتها؛ لأنه قال مثلما قال هؤلاء الشعراء أو أقلّ. لكنّ هؤلاء الشعراء في نظر المسؤولين مبدعون، وهو عاهر ونسونجي وقليل أدب.
لذلك كله- أخلاقيا وجماليا وفكريا- لا بد من استعادة بدر شاكر السياب في هذا النوع من الشعر ومحمود درويش ونزار قباني، كما يجب استعادة كل شعر عربي يحمل هذا الموضوع من امرئ القيس إلى عمرو بن كلثوم إلى أبي نواس والاحتفاء بشعر الشاعرات أمثال ولادة بنت المستكفي ولميعة عباس عمارة وعاتكة الخزرجية، وكل شعر خارجيّ النزعة يحتفي بالجسد، وخارج عن المألوف، ولا بد من كسر هذا “التابو”، والانفلات من هذه الحلقة التي وضعَنا في سياقها الجهلة والمزيّفون، وأوجدت عند طلابنا نوعا من الاغتراب عن حقيقة الشعر والشعراء، وحقيقة النفس الإنسانية التي لن تشعر بالأمان إلا وهي تحقق حاجتيها: الحسية والروحية، بل يجب أن يفهم “التربويون المتكلسون” أن الجسد وإشباعه ليس خطيئة، وأن الكتابة النقدية فيه وتدريس أدبه؛ شعرا ونثراً ليس جرماً، وأن كتابته، خلقا إبداعيّاً، كذلك ليس جريمة مطلقاً، ولا يستحق عليها “الشاعر الموظف” تهديده بعقوبات الفصل من الوظيفة أو التشهير به، ومحاصرته ونبذه والتنمر عليه على صفحات “الفيسبوك”، وفي الرسائل البينية في “الواتساب”.
إنها محاولة لكسر دائرة الصمت المطبق؛ لعلّ بعض الضوء ينفذ إلى هذا الجدار، فيخلخل حجارته وأساساته، ويحلحل تلك العقول السابحة في محيطات من الظلام، وهي تحسب أنها من دعاة التنوير والحداثة والمعاصرة. أو ربما أنها تحسب أنها تحسن صنعاً.