ماهين شيخاني
كانت الاحتفالات والمسيرات بين فترة وأخرى من المناسبات الحكومية إجبارية ، بالرغم من أنف الموظف للخروج ورفع شعارات أو لافتات داعمة للنظام الحاكم ، كتب عليها من قبل الجهات المعنية و رؤساء الدوائر المرغمون خوفاً أو تملقاً للنظام في الدولة ولا يعفى أحياناً حتى المريض منها،الجميع ملزمون بالحضور وإثبات وطنيتهم حسب المفهوم المخابراتي .
باستثناء إحداهن وهي زوجة أحد الشخصيات الغير مرحب به من قبل الأمن فاسم” آراس ” كان كافياً لإعفاء والدته المربية من المشاركة الإجبارية .
ذات شتاء، وفي الفرصة الأخيرة اجتمع المدير ” العميل ” مع المدرسين وبكلمة مقتضبة حماسية عن الوطن والوطنية وبأسلوبه الخطابي المميز باحترافيه والمتمكن بضخ كميات هائلة من الطاقة الثورية ، لحثهم بالتحضير للخروج إلى المسيرة بانتظام وعدم التنصل و الهروب أثناء المسيرة بعد عدة خطوات والاختباء بين الواقفون على الأرصفة. والانسحاب خلسة من بين الجماهير إلى البيت ، وأن عليهم الالتزام بالأوامر الصادرة من الحكومة الرشيدة، وأية ملاحظة أو غياب سوف يتحملها الشخص وقد تصل التحقيق إلى عقوبة السجن والفصل من الوزارة التربية.
– أعيد وأكرر ، عليكم أيها الرفاق ،ايتها الرفيقات ،البقاء إلى نهاية الإحتفال ، وأنت أم آراس بإمكانك التريث قيلاً ، ريثما يحين استعدادنا، يمكنك الانصراف بهدوء ، فأولادك صغار وهم بحاجة إليك ، أدار بوجهه الى جهة ثانية وهو يعدل نظارته السميكة قائلاً:
الإهتمام بالصغار ايضاً من صلب رسالتنا ، يصب في خانة النضال ضد التخلف والاستعمار ، علينا جميعاً النضال بشتى الطرق والوسائل ضد الاستعمارية والإمبريالية، ثم ادلق كأس من الماء .
انتصبت أم آراس لتتحرك نحو الباب للخروج، استوقفتها زميلتها وطلبت منها المعطف الذي ترتديه ..وهي تلوك اللبانة التي في فمها قائلة:
-الجو في الخارج لساعات لايحتمل ، زمهرير ،انا لا أطيق البرد ، لو سمحتي لي بارتداء معطفك ، أنت محظوظة على ما يبدو مدعومة من قبل المدير ، اما نحن المساكين ملتزمون ، نحن في جبهة واحدة كما تعلمين ، قالتها بابتسامة: يعني غصباً عنا….؟!!!!.
– تكرمي ، أيتها الرفيقة المناضلة والمشاكسة ، قالتها ضاحكة ، لقد أخرجته من الخزانة و ارتديته اليوم ، ثم خلعت المعطف على عجل وسلمتها لها ، استودعتها ملوحة بيدها …ثم أخذت دربها واتجهت صوب الدار …
اما الباقون بعد لحظات خرجوا الى الشارع يصفون التلاميذ للتوجه والوصول إلى المسيرة حسب التوقيت …كان الضجيج والهتافات التي القنوها للتلاميذ تشق عنان السماء في المدينة ، بالرغم من الجو القارس و ترافقه صفير الهواء كموسيقى صاخبة تتراقص أسلاك الكهرباء بعشوائية والسحب تتسابق ، تظهر الشمس بين الفينة والأخرى باستيحاء ثم تختفي ، الشوارع موحلة وبرك المياه منتشرة ، تتسلل البرد إلى جوف الحضور والمارة ، الهواء تلسع الوجوه فتحمر الخدود وتخرج من الأفواه والأنوف أبخرة تشكل سحابة على رؤوس الجميع…
لا شعورياً دست ( الرفيقة المشاكسة) يديها في جيب المعطف لتقي يديها البضتين من البرد وهي تسير بخطى ثابتة ضمن صف منتظم …كانت محط الأنظار لدى الذكور ، لخفة دمها وحلاوة كلامها وروحها إضافة إلى جمالها الأخاذ ، كانت بيضاء البشرة ، كنسمة لطيفة في قيظ ملتهب ، تكسو خديها صبغة وردية ، ناعمة ، ملامحها في الغاية الدقة ، صنعت بأنامل فنان بارع ،
تلمست بوجود ورقة في الجيب الداخلي للمعطف ، سحبتها بفضول وحين فتحت الورقة ، وبدأت تقرأ المضمون ، تنحت جانباً ، اضطربت ، تغيرت ملامحها الى الصفرة ذابت الحمرة من خديها بلحظات ، نشفت ريقها ، ارتجفت خائفة وجلة ، تسرب الرعب في اوردتها …
– يا للهول ، ما هذه المصيبة التي بين يدي ، كيف أنقذ ذاتي من هذا المازق …نشرة حزبية معارضة ، ومن جهة حزبية كوردية …سيتهمونني بالعمل لصالحهم ، ربما يتهمونني مثلما يتهمون الكورد التحريض على اقتطاع جزء من الدولة وإنشاء كيان منفصل ، عليَّ بتمزيقها فوراً وإلا التحقيق و السجن لا مفر منه….لكن كيف امزقها بين هذا الحشد الجماهيري…فلو مزقتها لقطع جد صغيرة ، سيأتي ابن حرام ما وما أكثرهم و يتلقفها ، ظناً منه بأنني مزقت رسالة غرامية ، ولو رأى كلمة مناهضة للنظام سيكون التهلكة الحتمية من مصيري…عليَّ الخروج حالاً من الصف والولوج بين الناس باية ذريعة،ثم التوجه الى إحدى الشوارع الجانبية ، وأن رآني أحدهم او سد طريقي مخبر ما ، ساتجنبه وأن اضطررت للوقوف والمسائلة ، سأقول بأنني ذاهب إلى بيت قريب من هنا لأداء حاجتي ، وامري لله…
تسللت شيئاً فشيئاً وبخطى راجفة وخرجت ، لكن كان حدسها صادقاً فهناك عين تراقبها….
راقبها من حارة إلى حارة ومن شارع إلى شارع، ومن منزل إلى منزل ومن ثم تأكد على اي باب تدق .
– هزَّ ” الرقيب ” رأسه منتشياً، بالصيد التي وقعت بالفخ.
سوريا