يونس السيد يحاصر السطوح لينتقل إلى غورها

غريب ملا زلال

بعض الأسماء تلد كبيرة، لا تحتاج إلى مرحلة الكمون لتعلن عن ذاتها، نعم بعض الأسماء رغم تجربتها القصيرة ورغم الظروف السيئة التي تمر عليه، والتي ولدت فيها تلك التجربة الفتية إستطاعت أن تثبت ذاتها، ومقدرتها على الفعل، الفعل الذي يأتي إغناء لخطاب جمالي كإندفاعات للحظات أكثر رهافة وأشد خطراً، لا يكل ولا يهدأ، وحالماً في حضرة الصراع الكوني الشامل وبما يلهب خياله لإستخراج كل ما يؤرقه من ترسبات في قاع ذاته، ولعل يونس السيد أحدهم، فهو الخارج من الحرب جريحاً قبل سنوات قريبة، ليكون ذلك منعطفاً في حياته، فيدير بوجهه نحو قلم الرصاص بداية وهو مازال ممدداً على السرير في مشفى ما، باحثاً عن طريق جديد تلون حياته الجديدة وتمنحه عبق وجود جديد، وحين يجد ذلك مطواعاً بين أصابعه وكان قد أصر أن يكون فناناً بدأت الألوان تجذبه أكثر، 
وبدأ يمنح ذاته الحرية المطلقة في نقل رسومات لأسماء معروفة وأجاد في ذلك جداً، وهو يدرك بأنه إن إكتفى بذلك فلن يتحقق حلمه ولن يكون فناناً حقيقياً، عليه أن يدير الدفة إلى ذاته، إلى الكشف عن تخيلاته وما يتسلل إليها من رؤى فيستيقظها ويكرسها في منجزه، قد يلقفها من نشيده حتى تمتثل لمقولاته وشروطها الفنية، عليه أن يضيء مصابيحه لا بالمدرك المتعارف عليه، بل بما يتجلى في دواخله وفضاءاتها أولاً، وبما يصطبغ به محيطه من علاقات بين مفرداته ثانياً، عليه أن يقرن نصه / منتجه بأشد العناصر إحياء له ولكائناته لإبعاده من التلف الذي قد يلاقي طريقه إليه وتطهيره من الأدران التي كانت قد تظهر فيه لتميته، أقول يونس السيد منها، من الأسماء التي ولدت قبل أوانه، قبل أن تكمل دورتها التسعوية، ولد من رحم وجع، من ركام ألم أهداه مكاشفات بدايتها مفتوحة ونهايتها أيضاً، وتتسم بإبداع يرتقى بحركاته التي تحول مدركاته من مغادرة الحنين المفتون بالتوغل في مداراته، ولد وفي ولادته يوجد مفعولات السحر لكل ما يوقظ في نفسه من آمال وحضور ورغبات كلها تجزم بأنه قادر أن يرسم قوله ويعلنها على الملأ بعيداً عن الوهم وكل المنزلقات الأخرى، وحدها ثقته بريشته وما تنبض بالحياة هي خصاله في أعلى قيمها . 
لم تمض من الزمن إلا القليل، وهو يعوم بين ألوانه وفضاءاته البيضاء، عازفاً عليهما بِرِيَشِهِ حتى تبدأ إيقاعاته ومجازاتها بإرسال تصوراته ودلالاته كأحلام تسحب من ضلوعها ويفرشها على حبال روحه وقلبه، أقول لم تمض من الزمن إلا القليل حتى دعته صالة أدونيا بدمشق لإقامة معرضه الفردي الأول والذي سيكون البذرة الأولى في رحلته الفنية حسب تعبيره، وبذلك يكون قد أشعل فانوسه الأول ليهديه للطريق الذي سلكه، وليكسر بها ظلمات هذا الطريق وقتامتها، فهو بذلك يفتح مجراه الخاص في دائرة الجمال التي فيها سيصب كل روافده برِحاب تفاصيلها وبتعالقات لحظاتها وتشابكاتها، وستلح عليه بخلق علاقات من التوازن بين كل ذلك، علاقات تحكمها مروج من المناحات التي يرعاها السيد على شكل توالدات بقصد الوصول إلى التكثيف الذي يؤدي به إلى إستنهاض حركات نصه بما يرتقى إلى التمكين المنغرس فيه بكل كلماته وصوره ورموزه لا إلى الإبانة والإيضاح، إلى الذرى التي سيرتادها السيد بحماس وإحتجاج، أو إلى اللمح وقصف الحكايات بأسرارها عدولاً من الوقوع في الرتابة أوفي نوع ما من اللبس الذي لا يرى، فهو يتبنى أحداثاً حقيقية تعلن عن ذاتها بكل طقوسها وسلوكها، يتبنى خطاباً بمكوناته الذاتية، منتشلاً منتجه من الوهن الذي قد يظهر بين ملامح تجربته إذا تركت في حشدها بإيقاع قائم على التماثل لا التغاير، إذا لم يلجأ إلى فتح مجراه الخاصة ويستند إليها في كل إستحضاراته التي بها سيشرع نحو تأسيس قواعده في ورطته الجميلة، ويتكىء عليها في المضي نحو منتج طافح بالشجن، فهو يسلم بأن مفاتيح الوصول لا تكمن في الإيحضاح بل في الإيحاء، وبأنها لا تملك أجنحة نسر بل جسارتها، ولا قوائم غزال بل رشاقتها، فثمة إبانة تتراءى فيها على نحو متزامن تُمَكِّن منتجه بالتشكل والتعاضد وفق نسق بموجبه يتضح الحيز الواهي الذي فيه تتقاطع البدايات مع النهايات مشكلة زمن منتجه وقد ابتناه بإندفاعاته المليئة بهدوئه وصخبه، بصمته وصراخه حتى كادت تصبح نبوءة توغل في المجيء .
يونس السيد يحاصر السطوح لينتقل إلى غورها، يندس في الترحال بين خباياها منتشلاً منها الموجودات والكائنات الطافحة بالحياة رغم غرقها في الفوضى، يمنحها أشكالاً لا متناهية ترد الروح للهب ألوانها الذي كان يحتمي بالصمت، يبدأ الشروع بإحضار البعد الغائب وفق النهوض بالدلالة ومقدرتها على التسلل إلى داخل المنجز وإرغام مفرداته على التجاور والتعايش حرصاً منه على إبهار المتلقي بالغريب من تصاويره وفق ما تمليه عليه استيهاماته، ويقف في حضرة مآزقه علّه يلامس جوهره ويكسر أقفاله الصدئة كلها، ويُهرّب ما يعثر عليه في اللحظة الحاضرة / الهاربة خوفاً عليها من الإكتواء بنار الحدث وقسوته، وعلّه يتعثر بهدير البقاء، فالفناء صاعق في كل حدب ودرب، ويطيح بتداعياته الهشة كي يشرع في إنجاز ما يجعل منجزه متميزاً، فيدعو إلى هدم الصور المكدسة بين الأحابيل ليروج بمجازاته وإستعاراته لإقامة عالم ينكر كل ما يتولد عن الخراب، مركزاً على جانب تقني يجعله لا يكف من إرتياد لحظة المكاشفة وتمثيلها في حضرة منجزه، متعمداً الإلتفات إلى الواقع المدرك أولاً، فثمة رغبة ستعلن عن موتها، وإلى الواقع المتخيل قانياً فثمة غرسة ستأتي يجب أن تهيأ الأرض لإستقبالها، فهذا الإنتقال الجميل بينهما، بين الواقع والمتخيل يكشف له حركة النزوح من كل منهما بإتجاه الآخر، فينجح السيد في رسم الهول بينهما دون أن تخذله مفرداته، أو تعطله نحيب التعاقب بينهما، دون أن تطفىء الريح شموعه، التي على ضوئها سيقتفي أثر فراشاته .


شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…