كمال جمال بك
هل الصمت نقيض الكلام؟ وأيهما أبلغ؟ وكيف تكون الحكمة في الصمت، “والصامت شيطان أخرس”؟ ومن نطق المثل: “إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب”، بعدما استأنس شخصاً في عزلته ووضع مجالسته بين السرد والصمت في مكيالين؟
ووفق أي مقاييس يتدرج الصمت في أعماقنا، لننسل خيوط شبكته الإنسانية من دون أن نخرج عن صمتنا؟ وإلى أي فضاء سينفتح هذا المدى على مشهد مسرحي في الإيماء في قاعة فنية للرسم والتصوير عن طبيعة صامتة؟ ترى هل من مجاهل الكلام ألا يتوقف الصمت عن الجريان، صمتاً مطبقا، أو إيجابياً، أو اختيارياً، أو الذي يعني الموافقة، أوفي لغة العيون كشكل من أشكال التواصل الغامض؟ في الصمت قوة، وفي الصمت ضعف، وفي الحالين معاً واقعاً ومجازاً، عزلة ووحدة يبقى جرح الكلام في صمت القبور.
هذه الأسئلة وغيرها حوار أولي مع مجموعة “الصمت الذي لا يتوقف عن الكلام” للصديق الشاعر السوري الكردي لقمان محمود، الصادرة عن دار ابيس فورلاغ حديثا، ومنذ مجموعته الأولى وحتى هذه المجموعة الجديدة لا تخرج كلمات لقمان إلى مستقرها بين دفتي كتاب إلا وهي مغمسة بنهر الحزن ومعجونة بالألم.
ومنذ 1990 إلى 2022 صدرت له عشر مجموعات شعرية ونصوص، وأحد عشر كتابا في الدراسات والبحوث والقراءات النقدية، بينها كتاب “كسر العزلة الثقافية” في جزأين.
يأتي “الصمت الذي لا يتوقف عن الكلام” بين مقدمتين الأولى تمهيدية للشاعر نفسه، والثانية تحليلية انطباعية للشاعر الكبير شيركو بيكس توّجت الغلاف الأخير، انفردت مئة وخمسون صفحة وعليها خمسة وعشرون نصا بأسلوب قصيدة النثر العربية. وفيها تنويعات على تشكيلات فنية وجمالية مختلفة، بعضها يقسّم إلى مقاطع بفاصل مربع وبعضها بمقاطع إما مرقّمة أو حسب الأحرف الأبجدية مثل (السواد- بينما الحرب مستمرة- أتخفَّف من حياتي…) وهناك تشكيلات مغايرة مثل (حزن يحرسه الألم و كتاب الموتى).
في مقدمته يتحدث الشاعر محمود عن المأزق النفسي والجمالي بين الفرض والحرمان لجهة الوعي والتفكير بين اللغتين العربية والكردية، مؤكدا أنه “يكتب بهما كأي سبّاح لا يستطيع الإستغناء عن إحدى يديه” مع أن لغة الضرورة فرضت الصمت على والدين لا يعرفان منها سوى الفاتحة والدعاء. ترى هل ساهمت تلك الأجواء في أن تحمل المجموعة الأولى وشم “أفراح حزينة”؟! ومع نهاية قوسها في البلاد البعيدة بعد الحرب شكّلت صمتها الوجودي في أدراج المنفى:
“سأنسى حتى أفقد ذاكرتي
الآن
وحدي الذي يشيخ
ووحدي الذي يعود طفلاً
الآن
شيء ما يصرخ في أعماقي
شيء يشبه الأسى
في ركن بعيد ومظلم
أتفقد الصمت
فكل صمت هو ضجيج
في الذاكرة”ص44
أما كلمة الشاعر شيركو بيكس فهي مختزلة ومقطّرة، وتنساب من العام إلى الخاص، ومن العناوين العريضة إلى التفاصيل، قابضة على جوهر النار الشعري وفراشته معا، يقول بيكس:”طاقة هذا القلم تكمن في طاقة الحب الهائلة لديه، أو لأقول لولا الحب لما كان هناك شعر لدى لقمان”.
إنها طاقة الوجدان التي لولاها لظلت رواسب الموت والحرب والمقبرة والأب عالقة في حبال الصوت التي لا تتوقف عن الاختناق:
“ثمة موتى يتجولون في صدري
يوغلون في ألمي
كي أتخفف من حياتي”ص142
لقمان محمود مواليد (1966) في عامودا شمال سورية، عضو اتحاد الكتّاب السويديين، عمل محرّراً لمجلة “سردم العربي” و “إشراقات كردية”، كما عمل محرّراً ثقافياً لجريدة “التآخي” وغيرها.
عناوين مجموعاته ونصوصه الشعرية: أفراح حزينة – خطوات تستنشق المسافة: عندما كانت لآدم أقدام- دلشاستان – ترويض المصادفة – القمر البعيد من حريتي-
أتابع حريتي – من السراب إلى الماء – وسيلة لفهم المنافي – مجد سكران –
الماء الأسير- زعزعة الهامش.