الرّسالة المثيرة إلى حدّ الدّهشة

صبري رسول

وصلتني رسالة عزاء بعد يومين من وفاة أخي في منطقة ديرك، قرية ملامرز، من كاتبة كردية عفرينية مقيمة في سوريا، سأنشرها هنا للقراءة والتأمّل، وهي واحدة من عشرات الرسائل المكتوبة كبرقيات تعزية، ومواساة لنا من أصدقاء وأحبّة. 
الرّسالة عبارة عن نصٍّ امتزجت فيه الفلسفة والفكر والدّين والمواساة، ما أثار في نفسي قلقاً وجودياً ينتاب الكثيرين في لحظة التّفكير عن وجودنا البشري، وأيقظت مشاعر الحبّ للإخوة والأهل، وللإنسان ككائنات تمتلك ذاكرة مرعبة.
الرّسالة مدهشة في التّحليل النّفسي، وفيها بحثٌ عن الموت كحقيقة مطلقة.
نصّ الرّسالة:
الإخوة نياطُ القلوب
«الإخوة نياط القلوب، جسورٌ طريّة، لا تتذمّرُ من فلترة الأوكسجين، وتمريره من الرّئة إلى المِضخّة الحمراء القانية، التي يفتكُ هديرُها النّاعم بصدورنا.
 بينما نحن منهمكون في تقميط نصوصنا ببتلات الزنبق الأبيض، وننسّق الزّهور في مزهرياتنا الحزينة، نرقبُ عبور الأحبة إلينا من عقارب الساعات، يُفسد نزقٌ طارئٌ عجينة المعجزات بين أيدينا، ولا أحدَ يأتي، نتضوَّر شوقًا للبعيدين، ونشتبك مع فيضان الوقت في معارك ضارية.
يتأهّب الموت ويندسٌّ بيننا خلسةً، ويتسرّب من أقرب ثغور الحياة إلينا، ويرْشَحُ مرّاً إلى أكوابنا، كالماء الذي يمكر بصلصال الخوابي ليهرب منها،  ويُغِير مع صعاليكه على مرابعنا الآمنة.
لكلٍ منا ناقوسٌ زجاجيٌ أوحد يا عزيزي، يُقرع مرّة واحدة ليعلن النهاية، ويسقط من عليائه، مخلفًا مع كل شظيّة أنَّة مؤلمة رغم لامرئيته.
لن نستطيع فهم الموت، ولسنا منوطين للإحاطة بأحابيله، مهما قمنا بتشريحه ورصدنا التّيار الغامض في دارته المربكة، سيباغتنا بهيئة مختلفة، لذلك نستسلم له دون حيلة، ونطعمه أرواحنا إقرارًا منّا بطبيعته النّهمة، في التهام خزانات بشرية، لخلق حالة متزنة، فكما تناقصُ أعداد قنديل البحر، يتسبب بالجلبة والهلع في عمق البحار، والتّدفق الزّائد للمياه العذبة، يخلُّ بملوحة مزاج المحيط، عدم الإقرار بضرورة الموت وتقبله، يصيب كمالَنا النّفسي بالجُذام.
صديقي الأستاذ صبري:
هذه ليست عِظة، إنما محاولة تحريضية لعشب يناير، كي ينبثق وسط أرصفة الحزن القاحل ومرارة الفقد، وتفنيد الغياب الأبدي لأحبتنا.
 إنهم هنا معنا بالتفاصيل، هم فقط اختاروا طريقاً أخرى لمواصلة الحياة، وصاروا كالنّسمة تزور نوافذنا المترقّبة خلف السّتائر، نأنس بوجودها رغم عجزنا عن رؤيتها.
أجاركم الله في مصابكم الجَلَل، وتغمّدَ فقيدكم بواسع رحمته.
ولترقد روحه بسلام في مهده التّرابي المبارك المقدس.
أنْ نُوارى الثَّرى في مساقط رؤوسنا، هو فضيلة الموت الوحيدة في مِحْنة الإغتراب القسري».
09.01.2023
صديقتك: مروى بريم

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…