إبراهيم محمود
داخلي تنبض روحُ حبَّة القمح الكردية. خارجي تتنفس سماء الكردية الرحبة، بيني وبيني ثمة ابتسامة لكردي يشتهيني، فيشدني يقيني إليه، وأقول متى أتحول إلى عصارات هاضمة داخله .
**
داخل حبة القمح التي يعنيني أمرها، ثمة التربة التي احتضنتها أرواح ألوف مؤلفة من الكرد رجالاً ونساء، صغاراً وكباراً. خارج التربة يتكفل الهواء ببث مشاعر مَن رحلوا إلى الأعماق، وصعدوا إلى الآفاق، ملأوا الفضاء أهازيج أرواح خالدة في فردوس آفستا الكردي. فيطربني شوق إلى من أبثه هذا الحنين التليد، وتحيات هذا النهر الهادر والعميق المجرى من الأرواح، عبر أيد حالمة بي.
**
في نسيجي العضوي، أنا الخبز، الرغيف الكردي، تترجم الحرارة المحفوظة عراقة أنامل النساء الكرديات اللواتي أسهمن في إرضاعي أنفتهن، من زاخو إلى هولير، من دهوك إلى السليمانية، وما بينهما. كم هي الطرق قائمة بواجبها في الوصل بين الجراحات، كم هي الأنامل ضالعة في تحويل المسافات إلى طعوم مودعة في نسيجي العضوي الحي، أنا رغيف الخبز الكردي. أنا أنا.
**
في الحرارة التي وُهِبتُ إياها من كرَم راحات النساء الكرديات اللواتي يؤرخن في باطنهن ما يصل اليوم المقاوم بالأمس المقاوم، إلى الغد المقاوم، في الحرب على الجوع وأضرابه، ثمة ما يخرجني عن كوني خبزاً. أنا لوحُ وجع الكردي، رسالته إلى العالم، مشارفته للجهات، حيث يمتد ظل الكردي، حيث يكون فمه أكثر من كونه بوابة تلقي الخبز ومرفقاته، إنه للغناء، للصياح، لإشعار السماء بعلو صوته. الحرارة التي أودعنني إياها، هي أنفاسهن، أنفاسهن وهن أمهات، مرضعات، حوامل، نساء لا يتقاعدن، إنما يودن الحياة واقفات، بنات يذهلن خالقهن بكسوة ملامحهن المتفجرة بهاء، وفي كل حركة يد، وبصمة إصبع مبللة بطعم مختلف، أزداد ثراء طعم، وشوقاً إلى من ينتظرني هناك .
**
أنا الخبز الكردي، رغيفه الحي القيّوم المدخر عافية، المتبصر بكامل دورانه، المتنفس طيَّ أكياس تحتويني، ممتلئاً بالرغبة العارمة، هنا من خريطة تعد الكردي بالمرتجى كثيراً، مرحلاً إلى حيث الأفواه المصدومة بأوجاع الهزة الأرضية، إعلان حرب مشروعة على جوع، لطالما كان بيني وبينه مواجهات، سحالات، تحيّن الفرص للالتفاف عليه، والدفع به جانباً، في النهارات الثثقيلة بساعاتها، والليالي الضاغطة بثوانيها. أنا الخبز الكردي مرسال حب قومي خالص للذين انحدروا خوفاً من موت وشيك من أعالي دورهم، أو تدفقوا قهراً خارجاً، وهم ينتظرون لقائي بعمق.
**
أنا الخبز الكردي، رغيفه الذي لا يخطىء في أمر تعريفه لسانان، ولا يختلف على طعمه لسانان، طعم الرغيف الكردي الذي ما أن يذاق حتى يستزاد منه. ففيه ما فيه، من نكهة مضافة من ذلك الدفق الروحي الجمعي لنساء انصهرن في وحدة الاسم، ورجال في وحدة الاسم، سطوعاً إلى لحظة واحدة، زمنية، مكثفة، كما لو أن المسافة انعدت على وقع هذا الوهْب الحراري والمغذي .
**
أنا الخبز الكردي بامتياز. لا شيء يشبهني إياي إلاي، لا شيء يجاورني سوى نسَبي الكردي، الأيدي الغفل من الاسم، فما أكثرهن في فيض عطفهن، حنانهن، حليب سخائن في اتقان الطعم، لأفواه جديرة به، مستحقة له، ما أكثر قوة القرابة في الأوجاع حيث الملمات والنوائب. هناك، في عفرين، جنديرس، وفي الجوار، ثمة العيون التي تبث الجهات أوجاع أرواحها المنكوبة، الأيدي التي تبث الجهات آلآم الصلات المهتزة تحت وقْع الزلزال الشامت والمغز. ثمة الأفواه من دون حساب، لأن ليس من حساب في إحصاء المواجع ونوعية الكارثة.
تتلقفني الأيدي التي أقض الانتظار مضجعها، وأوجعها مدُّ النظر إلى جهتي. ما أسعدني كردياً.
**
أنا الخبز الكردي، سليل اسمه التليد، ذاكرة جماعية لأمة تحسن التعامل مع المآسي كثيراً جداً، وهاهوذا أنا في جانب حي من هذه الذاكرة. يدفع بي الفم الكردي الذي بلغته بعد طول انتظار إلى الداخل، لكم هو بارد، يعصف به الجوع، القلق، الألم، وأثيره من الداخل، فتطرب الحياة داخله .
**
هوذا أنا الخبز الكردي. أعلاي حرارة، وأسفلي حرارة، ووسطي حرارة، وفي كل حرارة سريان فعل حياة كردية، تمد المقهور زلزالياً بما هو مغذّ، ومعجّن ومحبوك بقول: صحة وعافية من ألوف مؤلفة من أيدي نساء كرديات يأبين أن يذكرن أسماءهن، يكفي أنه خبز كردي يصل بين عموم جهاته!
دهوك