محمد شيخو القادم من الآتي

 إبراهيم محمود

محمد شيخو ( 1948-1989 ) الفنان الكردي الذي عاش حياة طويلة، لحظة التدقيق في نوعية أغانيه وتنوعها، وما تتطلبه كل أغنيه من جهد وحساب زمني، وهي بفنيتها العالية، وحياة قصيرة عمْرياً، تأكيداً لمن يعنيه أمر العلاقة بين عبقرية الموهبة، وحساب العمر، كعلاقة عكسية، من الصعب مكاشفة الثراء الفني فيما آتاه صوته، وآتته أنامله، وأفصحت عنه روحه الكردية. وها هو ماثل أمامنا في يوم من أيام آذارنا الكردي بامتياز” غداً، 9 منه “، شاهد فنه بامتياز، وشهيد فنه بامتياز مرة ثالثة. يمثُل أمامنا وملؤه كرَب، ويتدفق صوتاً ولحناً وكلاماً منتقى، وملؤه طرب، ليكون أمثولة الفن الذي يؤمم له مستقبلاً خارج كل سياق قطيعي إلى يومنا هذا، وبالطريقة هذه، شأنه شأن كل من يولد وهامته في سدرة منتهى الغد الممتد إلى الأبدية، يكون الاستثناء الكردي، لمَا هو كردي، وقد مزج في صوته ما هو شعبي وثريّ، وحِرَفي، كما يشهد حصاده الهائل والمهيب من الأغاني التي تتمثل في بنيتها الذاكرة الكردية المنجرحة شأن جغرافيتها المنكوبة.
خرج من الحلم الكردي، ومن التوق الكردي، ومن الشجن الكردي المختلف الذي يمكن التحليق إلى فضائه الرحب داخلاً، صباح مساء، لأن جغرافية كاملة بنسبها الكردي، وتاريخاً كاملاً وهو في تفجعاته الكردية يتصاهران ويتشابكان ويتواجهان معاً. خرج من الحلم هذا، وصيَّره علماً في الفن الرحب بمغذياته، ولم يخرج حتى صار نسيج روحه، حتى رحل إلى الأبد وخلَّفه وراءه شاهداً عليه، وهو ما يسهل التعرف عليه إن تحركنا إلى الآتي، وليس النظر إلى الماضي.
هنا تكون المفارقة الكبرى، جهة النظر في عطاء محمد شيخو الفريد، مفارقة تعكس ما هو مؤلم في محيطه الكردي وإلى الآن، وما هو محبط ومتنام، استناداً إلى معطيات واقع المحيط هذا .
في كل مناسبة يُحتفى به، اسماً، رصيداً دالاً على مدى أصالة الغناء الكردي، ومن ثم يجري نسيانه، إنما السؤال: مَن تناول هذا التنوع في أغانيه، في دراسة جمالية، ومحتواها، وكيفية تقويم شخصية هذا الفنان الاستثناء، من خلال الحمولة الكبيرة من الهموم المودعة في روحه جراءها، وليس من معطى عاطفي، من تضارب مشاعر، ومن تقابل أحاسيس، من رباطة جأش، وشكوى  وإحباط، ورهان على المستحيل، وتخوف، إلا وله حضور في هذا الخزين الكبير الأثير من الأغاني. أي جهة رسمية، أو تعرّف بنفسها ” راعية الفن الكردي ” شددت على هذا التوجه ؟
ماالذي قُدّم من دراسات، لها عمقها البحثي، في الفن الغنائي- الموسيقي المقارن، للتعرف على حقيقة صوته، ومنبعه، وحقيقة شخصية النازف دمه حتى مثواه الأخير؟
محمد شيخو، شاهد على فجيعة الفن الكردي في أهله، الشاهد البليغ على مدى استخفاف من يعتبرون أنفسهم أولي أمر الشأن الكردي، وفي هتافياتهم، بحقيقة الفن، وبذهنية شعبهم، حين ينبرون في الصفوف الأمامية،بأناقة مناسباتية، و” رشق ” كلمات مكررة، باسمه، ليطوى اسمه فيما بعد، وهو ما يشكل إعدام الاسم، والتنكيل بالفن نفسه.
جهة الصوت الدال على الحياة، لا يتم سماعه، وإنما الإصغاء إليه في عمقه، لمعرفة ينبوعه، ليكون معلّماً ومعْلماً، كي يكون هناك من يستلهم منه ما يرتقي به، وليكون لدى من يتعمق في الفن الكردي من أهله أو خلافه، ما يعنيه الفن، بوصفه حيازة الأبدية، دون ذلك يكون نعي الفن .
في كل ما يخص محمد شيخو، وتبعاً لمتابعتي، ليس إلا التعبير الصارخ عما هو معمول في المسطح السياسي الكردي، والمفلطح الثقافي الكردي، لأن مجرد الوقوف على حقيقة فن محمد شيخو، يعني رؤية الهاوية التي يُرى فيها الواقع الكردي المتشرذم، وهي تتعمقق باضطراد.
لأن الفن الفن الفن، ثلاثاً، هو في مفهومه التراكمي، إضاءة الخلل في الواقع، والجرح النازف في الذاكرة، وكيفية ضبطه ومعالجته، لا معنى لفن هو يتيم اسمه، إن لم تتم تغذيته، الاعتراف بعظيم دوره في إضاءة أوجه الخلل في الواقع. 
إن الطريقة التي يتم من خلالها التعامل مع الفن، كما هو النموذج البليغ والملحمي الأثر هنا، لا تعدو أن تكون شعاراتية، شعبوية، لأن الذين يشرفون على كل ذلك، لا صلة البتة بينهم، وهو في تسويق الشعار، وليس تفعيل الإشعار، بالمعنى السياسي المختزل والمبتزل، والفن، وفي خانتهم جمع غفير ممن ينسّبون أنفسهم إلى خانة الثقافة، أو الفن: غناء وموسيقى، وما يتطلبه الفن من اعتراف بسلطته المثلى، وهي تظهِر الكم الهائل من الأشباح والكوابيس التي تستأثر بالثقافة القائمة .
في كل مناسبة، ويا لسرعة الزمن المخصص لها، وهي في سنويتها، يُقدِم شهيد فنه الكردي محمد شيخو، من الغد، وفيه أمل ما، بأن ما انتظره طويلاً، قد يخفف من مأساته بجمعها الكردي، سوى أنه سريعاً، كما قدِم، يمضي إلى غده، وفي كل عودة، تتعمق مأساته، ولا بد أنها في ضوء ما هو جار، ستتعمق أكثر فأكثر، وربما، ذات يوم، سننتظر قدومه، دون جدوى، دون جدوى ! 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أصدرت منشورات رامينا في لندن حديثاً المجموعة القصصية “تبغ الفجر” الشاعر السوري الكردي علي جازو، في كتاب يضم اثنتين وعشرين قصة قصيرة تتنوع بين النصوص اليومية المكثفة والمقاطع التأملية ذات الطابع الشعري والفلسفي.

تتّسم قصص المجموعة بأسلوب سرديّ دقيق، يبتعد عن الزخرفة اللغوية ويميل إلى الكتابة من الداخل. الشخصيات تتحدّث من دواخلها لا من مواقفها، وتُركّز…

خوشناف سليمان ديبو

 

يُعد الأديب والفيلسوف الروسي فيودور دوستويفسكي من أبرز وأعظم الروائيين في تاريخ الأدب العالمي. فقد أدرِجت معظم أعماله ضمن قوائم أفضل وأهم الإبداعات الأدبية وأكثرها عبقرية. وتكمن أعظم ميزات أدبه في قدرته الفذة على سبر أغوار النفس البشرية، وتحليل خفاياها ودوافعها العميقة. قراءة رواياته ليست مجرد متعة سردية، بل رحلة فكرية وروحية تُلهم…

غريب ملا زلال

شيخو مارس البورتريه وأتقن نقله، بل كاد يؤرخ به كسيرة ذاتية لأصحابه. لكن روح الفنان التي كانت تنبض فيه وتوقظه على امتداد الطريق، أيقظته أنه سيكون ضحية إذا اكتفى بذلك، ولن يكون أكثر من رسام جيد. هذه الروح دفعته للتمرد على نفسه، فأسرع إلى عبوات ألوانه ليفرغها على قماشه…

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…