وحيداً فقط، وحيداً… المكان أنا !

إبراهيم محمود

هوذا المكان يضيق باسمه !
هوذا أنا، في غرفة عناية روحها المتشددة !
هي ذي القاعة تتنفس بصعوبة
هوذا أنا:
وحيداً كطائر نورس طيّ عاصفة لامرئية
مشدوداً إلى شاطىء فارقه بحره مرغماً
هجرتْه شمسه بدايةً
وحدها القواقع شاهدة على أزرق مجلَّط
وحيداً فقط كشعور يتيم في كرسي يتيم في صف يتيم في فضاء يتيم مسوَّر 
ما أكثر الصفوف المزدحمة، ما أضجَّ الكلام العصي على الفهم
الكلام متعدد المقاصد إلا من المقصد المنتظر دون بلوغ معناه
وحيداً فقط
حيث أجلس
قفرْ حولي تماماً
الكرسي مأهول بصمت اغترابيّ أنا
الوحيد الذي يقدّر وجع وحدتي
حرارة معدنه تبثني مؤاساته الكريمة
أجالس نفسي
ما أبصرها
وهي في توجعها في المكان المشغول بالضجيج المعلوم
جسدي حقل ألغام أعبره جيئة وذهاباً
وحدي من يفجرني وينتشلني ويعاود الانفجار.. وهكذا دواليك
لأحسن مداراة زمن لا أحسبه لي
ما أوجعها نفسي 
عيناي تستغرقان الجوار
لا أحد يمر بسلام مرتقب
ثمة ميكانيكية جاهرة بخطوط اتصالها إجمالاً
لا أحد يخترق صمت كراسيّ
لا أحد يحرّرني من يتم الجلوس المعدَم زمانه
أي زمان مفرَّغ من معناه المنوَّه إليه هنا وهناك
ما أكثر الحضور
ما أقل أقل الحضور
كثيرون يعبرون وسهواً يشملونني بنظرة عابرة
هكذا ألخَّص مكانياً
هكذا أقرَّر زمانياً
ما أقلَّني 
وقد أقلَّني الشعورُ باليتم إلى خارج القاعدة المتجهمة
حيث أبصر نفسي معلقة في أرجاء القاعة 
طائراً معلقاً من رجليه على سلْك كهربائي
أي رثاء مدلهم
يستغرقني في خمول الهواء
حيث قنينة الماء عاجزة عن تهدئة حرارة نبضي
الهواء المبلبل الذي يمخرني دون توقف!!
ثمة من ينظر إلي إلى حركة لا شعورية من يدي المتشنجة
ربما متسائلاً عما أكتب من كلام تتقاذفه هواجسي المتداخلة
ما أثقل الغربة الفاصلة بيننا
وحيداً كجرح دون صاحب
يئن ألماً في صمت فاغر فاه
أنا وأنا أواسيني
أصوات متداخلة تملأ القاعدة
كل كلام تلتقطه أذناي
أذناي تتوتران
وجهي يتوتر
مسام جلدي يتوتر
لساني في فمي يتوتر
أوتاري الصوتية تتوتر
بقية ظل محتجب لي تتوتر
اسمي بكامل حروفه يتوتر
البقية الباقية من روحي تتوتر
يا لدوري المسرحي الذي أقوم به !!
أتلاشى في صورة شمعة في نفَسها الأخير
جسدي شمعدان غافل عن حمّى المكان
أنا كلّي رثاء أوقيانوسي لمن جاءت هذه المناسبة باسمهم
جرح الواحد منهم أكبر من أكبر مناسبة في تاريخ أوجاعه المديدة والمتناسلة
أي صمم زماني- مكاني عصف بي
محبطاً كما لو أني أكون حيث لا أكون
فراغ سحيق عميق يتلبسني ساخراً مما أنا فيه
جسدي المشدود إلى كرسي مبتل ٍ بي
يمرّر معنَّى أصواتاً تنزف قوامها اللفظي
كراس ٍ لا تقول شيئاً
كراس ٍ تشهد على كل شيء حضوراً.. غياباً.. ما بينهما
كراس ٍ منزوعة الحيادية
كراس ٍ ألسنة
كراس ٍ مناصب ومكاسب
كراس ٍعقوبات ونوائب ومثالب
كراس ٍ قيود وتثبيت في المكان الصلد
كراس ٍ مشارب
كراس ٍ شهود عيان على تراتبيات معادن المعنية بها
كراس ٍ لا دخل لها في لونها، طعمها، أرقامها
بصوتها المعتبر
أرقامها تسمّيها
وهي تسمّي جلساءها
كراس ٍ يحذَّر لمسها
صفوف محروسة يحذر الدخول في حرمتها الحدودية
لكم أنا مستباح بكرسي وصفّي والجوار !
وحيداً فقط
ليس لي كرسي هنا
أألفه ويألفني
كرسيّ مجهول الاسم
صوتي مجهول الاسم
ثمة من يرتاب بأمري وأنا في الصفوف الأخيرة
أو مأخوذاً في صمت مثار شبهة
لكنه جرحي المتبصر
كرسي في معلومه نكرة
نظيري أنا
أنا المجهول الاسم
اسم كآلاف مؤلفة:
إبراهيم محمود؟؟؟!!
والذي بينه وبين نفسه
يسمي لسانه باسمه
يسمي قامته باسمه
يسمي ظله باسمه
يسمي صمته باسمه
يُسمي كرديته
إنسانيته
قلقه
مخاوفه
أعراض صدماته النفسية باسمه
إلى كم من الزمان
من خاصيات المكان
ليكون في عهدتي كرسي متحرك
ليسبقني كرسي
يسبقني اسمي
في صمت يواسيني كرسيي
كلانا بهم مشترك
أسمعه جيداً!
أشعر بدبيب حنوّه على يديّ بنبض مسنديه
شكراً، إذاً، لكرسيّ الذي يقدّر المجهول المعلوم فيّ
لعمري الذي يُعدَم نوعه وكمه في حساب الكراسي الدارج
مأخوذاً بالضوء والتضخيم والتفخيم الكلاميين
أنا بكامل ثروتي المقدَّرة ورقياً في
بورصة الكراسي المسجلة مجرد أذنين غضروفيتين
ويدين معلومتين بأصابعهما
وعلامتي في التصفيق المحتسب
ثروتي الكلامية التي لا تحوَّل إلى أي جهة بنكية أو نظيرتها
ما أخطرني وأهددني
لهذا…. لهذا
وحيداً فقط
وهذا الكرسي الذي تعتصره صورة وحدتي
وحيداً فقط
وبي من شغف الوجود وأطلسه الكبير
بي من عمق الوجود وبحره اللجي الكبير
بي من رحابة الوجود فضاؤه الكبير
بي من معاني الوجود بلاغته المتعددة الأصداء
وحيداً فقط
تخترقه بين الحين والآخر ومضة ضوء عابرة هي محلي من إعراب المكان ليس إلا
أنا هفوة مقدَّرة هنا
زلة اسم للاعتبار
دعوة دون تدقيق
أي لسان أفتقده ليتوسلني ضوء يبث صورتي الجسمية الكاملة في أمداء الجهات
وحيداً فقط
وحيداً كنقطة أضاعوها أو ضيَّعت أو ضيّع حرفها
وحيداً فقط
وحيداً فقط وما أكثرني
وحيداً فقط وما أحكم كرسي المجهول الاسم
من يصادرني من ظلي
وحيداً ولست وحيداً
حيث أنا تعرفني كامل المعرفة بكامل أضوائها هنا هناك
وحيداً وحيث أنا جمعاً عصياً على التفريق !
ملاحظة: هذا النص كتبته على خلفية حضوري للمؤتمر العلمي الدولي للإبادة الجماعية ضد شعب كوردستان ( الإبادة الجماعية للكورد الفيلية ) في أربيل على مدى أيام ثلاثة: 2-3-4/ 5-2023 .
ورغم تثمين مقامه، أشير إلى المميَّز فيه بوصفه سياسياً، كما هو المعرَّف به أساساً، والمفصَح عنه كأنشطة فاعلة ثقافياً، والجاري تصريفه لما هو ثقافي في المنحى السياسي تالياً.
حين حضرتُ، ولم يكن لي اسم مذكور في لائحة مودعة لدى الأوتيل المخصص لنا” أوتيل نوبل ” ليضاف فيما بعد. لم يكن لي اسم بالنسبة لمن يحملون الباجة، في حفل الافتتاح، ليضاف فيما بعد، وكانت جلستي التي أشترك فيها على وشك الإنهاء، لولا إشارتي بوجود جلسة أخرى ” بانيل آخر “. لم أُعطَ شنطة ” حقيبة ” تذكاراً للمناسبة كما هو البروتوكول، بدعوى أن الشناطي وزّعت، مع العلم أن من حق أي مشارك بباحث الحصول على واحدة. لتتكرم سيدة بمنحي  حقيبتها، حين ذكرت لها على الهامش، ما جرى، وبإلحاح ودود منها. إلى جانب السعي إلى تغيير موضوعي لتقديمه في المؤتمر، فقبلت الطلب حرصاً على المناسبة، رغم أنني تقدمت به قبل انعقاد المؤتمر بأشهر عدة.. طبعاً لا أعتبر ما جرى قصداً. هناك آخرون أيضاً، عاشوا حالات كهذه.. لكن ذلك محتسَب لحظة التذكير بذلك.  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

مسلم عبدالله علي

قبل يومين، كنا عائدين من العمل. وقبل أن ننطلق، أوقفنا شابٌ مصريّ كان يعمل معنا في نفس البناء، فأردنا أن نوصله في طريقنا.

ما إن صعد السيارة، حتى انهالت عليه الأسئلة من كل حدبٍ وصوب:

ـ أين تقع الأهرامات؟

وقبل أن يجيب، أضاف أحدهم: هل زرتها؟

ابتسم وقال: ليست بعيدة تبعد ساعة فقط عن منزلي، أمرّ بها…

أحمد جويل

طفل تاه في قلبي

يبحث عن أرجوحة

صنعت له أمه

هزّازة من أكياس الخيش القديمة…

ومصاصة حليب فارغة

مدهونة بلون الحليب

ليسكت جوعه بكذبة بيضاء.

 

شبل بعمر الورد

يخرج كل يوم…

حاملًا كتبه المدرسية

في كيس من النايلون

كان يجمع فيها سكاكر العيد

ويحمل بيده الأخرى

علب الكبريت…

يبيعها في الطريق

ليشتري قلم الرصاص

وربطة خبز لأمه الأرملة.

 

شاب في مقتبل العمر،

بدر جميل،

يترك المدارس…

بحثًا عن عمل

يُجنّبه الحاجة إلى الآخرين

ويختلس بعض النقود

من…

إدريس سالم

تتّخذ قصيدة «حينما يزهر غصن الألم»، موقعاً خاصّاً، في الحقل النثري الوجداني المعاصر؛ لما تنطوي عليها من إعادة تعريف للعلاقة بين الذات والأنوثة والحياة؛ إذ تقدّم الشاعرة والمدوّنة الكوردية، ديلان تمّي، نصّاً يتأسّس على ثنائية الاعتراف والتمرّد، ويتراوح بين الحنين والجرأة. ليغدو الألم في تجربتها هذه مادّة جمالية قابلة للتشكّل، وغصناً يُزهر بدلاً من…

إبراهيم محمود

“الذاكرة هي أولاً وقبل كل شيء عملية انتقاء حيوية بين الذكريات والنسيان ، بين ما يجب أن يحتفظ به الوعي وما سوف يتجاهله أو يُعاد قسريًا بشكل مؤقت أو نهائي”. إنه “يؤسس انتقال الأجيال ، بنى البنوة ، الروابط الأسرية والاجتماعية لأنها جزء من جماعة”

هنري روسو

تحرّكٌ

في الذهاب إلى الكتاب، نمضي إلى التاريخ بكل تأكيد،…