يا مطر…يا مطر


إبراهيم محمود

يا مطر 
أيها المنبسط، المتعالي، الممتد، المرن، الخشن، الهادىء، المتشنج، المحتشم، العاري، البطيء، السريع، المألوف، البرّي، البسيط، المركَّب، البصير، الأعمى، الحاضر، الغائب ، الأعزل، المسلَّح، الطائش، الوديع، الهائل، المؤطر، الرهيب، الهش، العاصف، المهتوك، المفكك، المحْكم، الأعزل، الأهلي، المتقلب، المكابر، المتواضع، المطعون، الرحالة، المهلوس، المهموم…..
غريبٌ أمرك وأي غرابة فيما أنت فيه وعليه 
أي خلف لأي سلف سماوي تكون
كأنك فقدت ذاكرتك التي ننتسب إليها
كأننا لم نتعاشر يوماً أبداً
لماذا أنت مجافي غيومنا
تقيم في عزلة صخرية
تائهاً على وجهك
تاركاً غيومنا في سواد حالك
دون أن يمخضها برق
وهي تعيش عسْر انفراج إلى أجل غير مسمَّى؟
يا مطر
لماذا تحترس من أرضنا
ولا ذنب لأرضنا حين تستباح ممن يسوسها ليل نهار
لا ذنب لشواطئنا حين تصادَر من بحارها بعقود محلية
لماذا أنت جفول مخطوف الرواء
وأنت بالكاد يمشط الهواءُ وجهك الندي
لامبال بالأرض التي تتحشرج لاهثة
تنقلب صلباً وأنت المعهود بنعومة ملمسك
غير عابىء بالوجوه البريئة التي تزدان ابتسامات بفضيلة منك
الأرض .. الأرض التي تعرفها كامل المعرفة
وها هي مغمضة عيونها خوفَ آتيها الرهيب
يا مطر
لكم اشتاقتك ينابيعنا
اشتاقتك أحلامها التي تنبت طي أنفاسها
التربة التي تحتضنها 
ولا تكف عن كيل المديح إليك
الفراشات التي شاخت أجنحتها 
وخسرت ألوانها تحت شمس خرجت عن طورها
ارجع إلى أصلك الكريم يا مطر
يا مطر
لماذا أنت كتوم تتجنبنا
وأيدينا نمَّلتها أدعيتنا
وعيوننا تكاد تغور حدقتها انتظاراً
وشفاهنا تكلست
فإلى متى تشملنا بنظرة مندَّاة منك ؟
يا مطر
أطفالنا يطلبون عطف رطوبتك
هداياك المغلَّفة بماء السماء
وقد فسختَ عقدك بأثداء أمهاتهم 
لقد لفظت أثداؤهن أنفاس حليبهن الأخيرة
فأي معنى لنا إن سُمّينا آباء وأزواجاً
فلا تكابر يا مطر
يا مطر
لكم نحن مصدومون بعنادك هذا
الأرض لم تعد تتحملنا
وأنت في غفلة غير مسبوقة عنا
لقد أتلفْنا مظلّاتنا منذ زمان زمان
وتجرَّدنا من كامل ثيابنا
في انتظار حمّام منك في الهواء الطلْق
وأشجارنا باتت عارية بالكامل
فارفق بنا يا دمع السماء
يا مطر
با الله عليك كن جدّياً معنا
يرضى عليك لا تعبث بمزاجنا
فنحن لا نتحمل المزاح الثقيل ولا الخفيف كذلك
ولا تشمت بنا وأنت خالي الوفاض
فكن كما أنت في معهودك المندَّى
ولا تقابل السيئة بالسيئة يا مطر
يا مطر…يا مطر… يا مطر
معروفون هم من يطلقون السموم في مائك
من يركلونك بسخافاتهم وقاذوراتهم
من يهزون مؤخراتهم في وجهك
من يكذبون باسمك دون أي اعتبار
ويقطّعون في أوصال البلاد بعروضهم الخلبية
من ينسبون إلى أنفسهم ألقاباً في كتاباتهم لا قبل لها بهم
لكن ذلك ليس مبرّراً لأن تؤلّب علينا السماء
وتهدّد الأرض بكل ما يحيلنا أضحوكة الزمن الماضي
يا ….مطر
لأجل الذين يقسّمون بكل قطرة منك بصدق
لأجل الذين يلمسونك بوقار كامل
لأجل الذين يضيئون الجهات بمشاعل من مائك النمير
لأجل الذين يهتدون بك ليل نهار
لأجل الذين يصلّون وسجادتهم مجنحة باسمك
لأجل الأب الطاعن في السن وقد لفظه ابنه الوحيد
لأجل الأم التي خسرت ابنها الوحيد في جهة مزعومة بالجبهة
لأجل الفتاة التي يستبد بها أخوها الوحيد
لأجل الزوجة التي يعبث زوجها بقلبها
لأجل النملة التي تهوّي التربة
لأجل الدجاجة المغلوبة على أمره
لأجل الغنمة  المغلوبة على أمرها
لأجل حمار الراعي المتروك في البرّية القاحلة
لأجل الشاعر الذي سخَّر كامل عمره متغنياً بمآثرك
لأجل كل مقطوع من شجرة
وهائم على وجهه حباً مثمراً
اغمرنا بمهديّك المنعش قبل فوات الأوان
يا مطر… يا مطر…!
يا مطر… يا مطر
إن غار الأمل في عيوننا
إن انطفأ الرجاء في قلوبنا
إن حمل الشجر جذوره إلى جهات نائية
إن توقفت الينابيع عن التنفس
إن بحثت ضفافنا عن أنهار أخرى
إن بحث القمر عن سماء أخرى
إن بحث الموتى عن قبور أخرى خارج حدودنا
إن بحثت المروج عن أغان أخرى
إن حملت طرقاتنا حقائبها إلى بلاد أخرى
إن قرَّر الهواء اللجوء إلى فضاء آخر
مالذي يبقى منك يا مطر
فأرحنا وأرح نفسك
ارجع إلى أصلك المأمول
يا….مطر !

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إعداد وسرد أدبي: خوشناف سليمان
(عن شهادة الراوي فاضل عباس في مقابلة سابقة )

في زنزانةٍ ضيقةٍ تتنفسُ الموت أكثر مما تتنفسُ الهواء. كانت الجدران تحفظ أنين المعتقلين كما تحفظ المقابر أسماء موتاها.
ليلٌ لا ينتهي. ورائحةُ الخوف تمتزجُ بالعَرق وبدمٍ ناشفٍ على أرضٍ لم تعرف سوى وقع السلاسل.
هناك. في ركنٍ من أركان سجنٍ عراقيٍّ من زمن صدام…

صدر مؤخرًا عن دار نشر شلير – Weşanên Şilêr في روجافاي كردستان، الترجمة الكردية لرواية الكاتبة بيان سلمان «تلك الغيمة الساكنة»، بعنوان «Ew Ewrê Rawestiyayî»، بترجمة كلٍّ من الشاعر محمود بادلي والآنسة بيريفان عيسى.

الرواية التي تستند إلى تجربة شخصية عميقة، توثّق واحدة من أكثر المآسي الإنسانية إيلامًا في تاريخ كردستان العراق، وهي الهجرة المليونية القسرية…

حاوره: ابراهيم اليوسف

تعرّفتُ على يوسف جلبي أولًا من خلال صدى بعيد لأغنيته التي كانت تتردد. من خلال ظلال المأساة التي ظلّ كثيرون يتحاشون ذكرها، إذ طالما اكتنفها تضليلٌ كثيف نسجه رجالات وأعوان المكتب الثاني الذي كان يقوده المجرم حكمت ميني تحت إشراف معلمه المجرم المعلم عبدالحميد السراج حتى بدا الحديث عنها ضرباً من المجازفة. ومع…

مروى بريم

تعودُ علاقتي بها إلى سنوات طويلة، جَمَعتنا ببعض الثَّانوية العامة في صفّها الأول، ثمَّ وطَّدَت شعبة الأدبي صحبتنا، وامتَدَّت دون انقطاع حتى تاريخه.

أمس، انتابني حنينٌ شبيهٌ بالذي تقرّحت به حنجرة فيروز دون أن تدري لمن يكون، فوقه اختياري على صديقتي وقررتُ زيارتها.

مررتُ عن عمَدٍ بالصّرح الحجري العملاق الذي احتضن شرارات الصِّبا وشغبنا…