غريب ملا زلال
” فرحي خجول،
وأكابر على الحزن
كيف للفرح أن يتنفس في عالم الموت أيها الحمقى . ”
هذه الكلمات، أو هذا البوست الذي قرأته للفنان التشكيلي رياض الشعار ( السلمية 1966 ) يكاد يختزل كل ما يود أن يقوله في أعماله الفنية، الأعمال التي تجعلك بالضرورة تبحث عما يساعدك لتفتيت الحدود بينك وبينها، لتستجيب للغتها غير المألوفة والتي تجعلك أكثر قدرة على تقبلها مهما كانت غارقة في شعريتها، فالذي يقترب منها يدرك مدى الخبرة الجمالية التي يتصف بها الشعار في مجمل الحالات التي يواصل التفاعل معها إن كانت بمتعة وإرتياح، أو بقلق وإكتشاف، فهو في حالة من الإندماج والإستغراق وإن بدرجة معينة منه، ولهذا يشعر على نحو دائم بأنه جزء من العمل والعمل جزء منه، فبينهما حالة من التقمص الذي تتم معايشته على نحو تلقائي،
فاللجوء إلى نسق خاص يتطور من خلاله هو، والمخطط عبر أنظمة خاصة به والتي تكاد تشكل مرآة دواخله إلى حد التداخل بينها، وعلى نحو خاص بين الذات المنقسمة خارج المرآة وداخلها، خارجها بوصفها حضور للواقع الذي لا يجد غير لغتها دالة عليها، وداخل المرآة بوصفها القوة الحالمة والراغبة في الإكتشاف للحاجات التي ستتحول في النهاية إلى موجودات في المشهدية ذاتها، المشهدية التي يحرص الشعار على حيويتها فهو يهتم بتحرير قواها الخاصة بالإنفعال والخيال، وبما تنبغي أن تكون عليها، فهو يعرف أن تلك التصورات الجمالية التي تتدفق منها ما هي إلا نواتج لحوارات حادة بين مفرداتها ولحقب زمنية غير محدودة، والتي ستجعلها تميل إلى تكوين حساسية فائضة خاصة مصحوبة بالدهشة بها يؤكد على إدراك الإحتمالات الفنية وتحالفاتها مع ما يبذره من أفكار تتفق بدورها مع معاييره الخاصة التي تهب المشهدية الروح، فتتلاعب المتغييرات بصفة دائمة وكأنها تلح على حضور الذات المبدعة لا كنقيض لقيم الحقيقة، بل لكشف المزيد منها بإشاراتها السليمة المعافى، فالشعار يصور التاريخ الغائب إن كان ينتمي إلى الحاضر منه أوالماض فالحجة تبدومشتركة بينهما والقوة المتسلطة في الكبت والإضطهاد هي ذاتها فلا بد له من إنعطافة عابرة في نقل ذلك فنياً وتوثيقه مهما كان الموقف من ذلك موجعاً ومحصناً فالجرأة التي يتحلى بها الشعار تبدو أنها ليست هينة، والدائرة التي يمارس فيها حريته ليست صغيرة قد تكون بوسع السماء وهذا ما يفرضه الفنان ودون ذلك لا يمكن أن تتم الولادات الإبداعية، فالإستعصاء كبير ولا يمكن أن تتم إلا بعملية قيصرية وفي ذلك الكثير من المواجع والتشوهات، وهذه الفرضية تكاد تكون متجذرة في تفكير مبدعينا الحقيقيين على نحو كبير، بها يخصبون الحياة ويثيرون العواطف، ومنها يستمدون قدرتهم في التوق للحقيقة والمعرفة، التوق الذي يسمح لهم بإيجاد أسلوب من الجدل الديالكتيكي بحكمة في مواجهة الخدع والجهل وكل المزاعم التي قد تعترضهم .
رياض شعار يتدخل في منجزه من داخله أولاً، يحاول أن يرسم الفظيع والفاجع، يفتتح مجراه وفق نسق يفي تحقيق حاجته التي تشي برموزه ودلالاته وبكل ما تشي بمبتغاه، فهولا يشير على نحو صريح بمكنوناته، بل بتوظيف تلك الدلالات مع مجموعة من ملفوظات أخرى تومىء بها إلى الوجود غير الثابت بل المتطلع إلى النور الذي سيتحكم بكل ما يظهر على السطح، دون أن ننسى تعالق تلك الملفوظات فيما بينها لتبني صوراً موغلة في القتامة والحلم الحزين، ثم يتدخل من الخارج يربت عليها بإستمرار سعياً إلى إبراز الضرورة التي تجعل ما يراه الفنان ذو علاقة بالذي لا يراه، يوزع الضوء والظل لا كما هي أو كما يتطلبه العمل بل بما يقوم على الضعف والقوة فيها فيؤسس لها ما يمكن أن نسميها نقطة الإنطلاق أو البداية نحو إستراتيجيته هو، فلا يبدأ بسوء الظن ولا بتعميم الشك بل بالإثارة الحذرة للقوى المناهضة لدلالاته داخل العمل ذاته، فهو يقوض الخارج كإحدى الطرق للهيمنة على ما سواها، وهذا يعني بالضرورة أن العمل المنجز ينتج دلالاته بأكثر من طريقة وبدرجات متفاوتة وما قراءتنا هذه إلا دغدغة لإحداها لا كطفرة في الرؤية بل كتطوير لدورانها فكرة وتحسباً بما يتوافق مع خطابه .
الإنتظار، الحيرة، الدهشة، الضياع والهروب من الذات والبحث عنها مراراً وفي أمكنة أخرى، الشجن، إضافة إلى الأمل، الحلم هي مفردات أونقاط مفتاحية يمكننا تتبعها في مجمل منجز الشعار متكئاً في ذلك على وجوه كاحلة غارقة في الوجع، أوفي إمرأة تبدو في وضع لا تحسد عليه فكل ما فيها من حركات وإيحاءات تدل على الزمن الطويل وهي في هذا الإنتظار المر، القاتل، وما تنتظره قد لا يأتي، تخرج هي إليه باحثة عنه في الحانات أوفي شفة نبيذ قد يقربه إليها، ويقربها من حلمها، هذا الحلم الذي قد يكون حلم الجميع، فالمغادرون باتوا بحراً، والغائبون محيطاً، و”كريفونة الغياب ” حسب تعبير الشاعر فائز العراقي باتت الفاكهة الأكثر إنتشاراً وتداولاً، ليس هناك من لم يذق منها حتى باتت مسألة لا يمكن الإمساك بها بجرة قلم أو بضربة ريشة، فهناك منهجية ما في إنتاجها، وكأن أسطورة ما عادت لتكتب بها، وكأن الشعار يقتفي أثرها محاولاً تحصينها من نفسها ضد كل إزاحة قد يراوغها في لحظة ما، وهو يعمل في الوقت ذاته على إنتاج حركة جديدة بها يقدم ورقته، حركة يمكنه اللعب الحر لعناصر البنية يختزلها بإعطائها مركزاً وحضوراً، وهذا يحمل مفهومه غير التقليدي للبنية والإطاحة بحدودها كاسحاً كل ما تنطوي عليها من معان تدل على سياق العملية في صورتها المختزلة، فهو لا يحتفظ بالمترادفات ولا يجعل منها هدفاً، ولا يمارس بها مجازاته اللونية، بل يمضي بها بتعبيريته التي تعطي الأولوية لإنفعالاته وهي ترشق الفضاءات وأشيائها بروح الومضة حين تشرق من حقل مهجور .