إبراهيم محمود
اعتراف
نعم، أنا البغل، كل الكائنات تعرفني. أنا في حيرة من أمري. وليس من مخرج. لا أدري إلى من أنتسب أإلى الحصان الذي هو عمّي الذي ينظر إلي شزراً. فيعتبرني نقطة سوداء في تاريخه الأبيض، أم إلى خالي الحمار، الذي ما أن يبصرني حتى ينهق ويعيبني لأنني ملفوظ من عالم الحمير. رغم أنني أقوى من كائنات حية كثيرة. ولكن لا أحد يرغب في مجاورتي أو معاشرتي؟!
***
الثعلب والبغل
استوقف الثعلب البغل، وسأله:
هل لك يا بغل أن تجيب على سؤالي؟
البغل حيوان كتوم مقل في الحركة إلا ما ندر. لكنه وجد في رؤية الثعلب تسلية له:
ثعلوب، ثعلوب، وماذا لديك ؟
-فكرت في أمرك كثيراً، وأنت تتمالك نفسه، ولا تصبح كغيرك، مثلنا تماماً، تستمتع بالحياة، وتكون لديك شريكة حياة مثلنا …
أطلق البغل ضحكة من مقام بغلي، ورد عليه:
-طالما أن أمثالك على قيد الحياة يا ثعلوب، سنكون نحن البغال مشغولين بأنفسنا نعيش حياتنا البغلية بمفردنا، وملؤنا حياة لا يقدّرها إلا من أوتي إحساساً بغلياً. هل بلغك الجواب ؟
***
مصارحة
لكم سعيد أنا، أنا البغل بذاته. لا نسل لي. ولماذا النسل، ولأجل ماذا وكيف؟ أعيش مع نفسي، قوتي هي داخلي. وعالمي البغلي مرفوع ومنصوب ومجرور باسمي. لا أحد يشاركني في عيشتي. أنا قادر مذ خلِقت في لحظة عابرة، بين والديْن لا أشبههما ولا يشبهاني، ولا أنتمي إليهما، أن أفطن إلى نفسي، وأتخيل نفسي حيث أكون أنا نفسي، أصورني في عالم مليء بالبغال أمثالي، نلعب وننظر إلى بعضنا بعضاً بحب عذري، ويكون كل منا في عالمه. فمن يستطيع العيش هناءة مثلي؟
***
مجابهة
قال البغل: ذات مرة أردت محادثة الحصان الذي يُزعم أنه والدي، على ذمة والدتي الأتان، فأدار وجهه، رافضاً النظر إلي. تمالكت نفسي، وقلت له: بم تتفاخر؟ أباعتبارك حصان سباق، أم ركوب ، وعرْضك في الأسواق، وإدخالك في تجارب الآخرين، ليستغلوك هؤلاء الذين يتصرفون بمصيرك؟ وأنت تتباهى بمثل هذه العروض التي تستغلك؟
سأظل نقطة وجعك يا.. يا والدي المزعوم أو عمي المزعوم. أنا أكثر صلابة منك. لا أحد يستطيع نزع قوتي، أو عرضي هنا وهناك كما تريد. فهل حسبت حساباً كهذا ؟
كان واقفاً في مكانه. لا بد أنه كان يحلل ما قلته له. لكن غروره القاتل أحال دون مصارحته بحقيقته. هو حصان، ويؤتى على ذكره كثيراً، حباً بالوارد منه، وأنا بغل، مؤمَّن علي من هذه الشرور.
***
تناقض
قال البغل: من بين كل الحيوانات، أشفق على والدتي الأتان التي تحملت ثقلي ووزني وصلابة جسمي، وهي لا تريد أن تعترف بما أنا عليه، لأنني حالة طارئة بالنسبة إليها. وخالي الحمار، الذي هو الآخر، يلقى أشد العذابات جرّاء تعريضه للمتاعب هنا وهناك، ويُستخف به، لكنه يدرك في قرارة نفسه الحمارية، أنني أكثر هيبة منه، ولا أحد يستطيع أن ينال مني بسهولة مثله. ولكن لو أن كلاً منهما صرح بما يجري باسمهما، لما كنت أنا أنا، أو في وضع آخر. أنا البغل شاهد على تناقضهما، وعلى هذا التناقض يجتهد هؤلاء الدابّون على اثنتين ، ووضعوا حدوداً مصطنعة بيننا .
***
سخرية
يذم الداب على اثنتين سواه أحياناً بأنه بغل، يا لك من بغل، مثل البغل..ومن يكون هو؟ ليته أبصر نفسه، ليرى أي خراب يحمله معه، وينشره حوله. لو عاش شعوراً بغلياً لبعض الوقت، لأفزعه جنسه ونوعه وسوء معدنه وتفاخره بأصله. إن رفسة مني قادرة على إنهائه في الحال. وكم نلت من عصي وكرابيج من جهته، دون أن أرد عليه. أنا حيوان لاعنفي، وهو مصدر العنف هذا .
تمالك البغل زهو ذاتي وهو يقول ما عن على باله، وشعر أن الطبيعة تثني عليه أكثر من سواه .
***
حديث فضفضة مشتركة
قالت البغلة لشقيقها البغل:
هل حزنت يوماً يا شقيقي على الوضع الذي يعيشه كل منا دون أن تكون له خلفة ؟
رد البغل: وكيف أحزن يا شقيقتي، والحزن لا يكون إلا بسبب الخلفة وباسمها تكون المشاكل؟
سألت البغلة شقيقها مجدداً: ألم يبلغ بك الشوق يوماً إلى وصال بغلة ما ؟
أطلق البغل رفسة في الهواء، ورد بانزعاج: لقد أخطأت؟ كيف لك أن تقولي مثل هذا الكلام. يمكننا أن نترافق سنوات عمرنا كلها، دون أي اشتهاء لأي منا تجاه الآخر. أليست هذه نعمة متوقفة علينا وحدنا، هل حسبت لهذا حساباً ؟
بدت البغلة وكأنها فرحت لجوابه: يبدو أن خالقنا نزع هذه الشهوة الخبيثة منا، وأنعم علينا بما لا ندرك، ليمنحها لسوانا، بحيث يعانون من مصائب كثيرة لا خلاص منها أبداً !
***
مناداة
ذات يوم نادى البغل الأتان بصوت مسموع:
يا خالتي الأتان دعيني أكلمك لبعض الوقت !
انزعجت الأتان مما سمعته، وردت بعصبية:
يا وليد السوء، وماذا يصلني بك، وباسمك المكروه ؟
رد البغل وهو يقترب منها: ليتك تقولين الحقيقة. انظري إلي ولو لبعض الوقت، أنا أكثر قوة منك ومن ذكَرك الحمار، أستطيع بركلة واحدة أن أن أرميك أرضاً، ولكنني أرثيك. وأنت تعيشين بلاء هؤلاء الدابين على اثنتين، وهم لا يكفون عن إيذائك، وربطك بعلاقات خارجية تزيد في أعبائك، ووضعك أنت الذي لا يكون محل أي حيوان آخر.
***
غلطة عابرة
كان البغل مغموراً بضوء القمر في ليلة صيفية.
سمع أصواتاً كثيرة.
أحس بالوحدة لأول مرة في حياته البغلية.
في لحظة خاطفة: عبرته رغبة لو أن بجانبه بغلة تؤنسه، ويمضيان الليل الجميل هذا معاً.
انتفض البغل سريعاً، وهو يقول: أي غلطة هذه التي ارتكبتها، وأنا بعفَّتي البغلية هذه ؟
***
بين البغل والفرس
سألت الفرس للبغل وهي في أوج اكتمالها الحياتي:
غريب أمرك يا نظيري الحيوان، ألا تشتهي أنثاك ؟
نظر البغل إلى الفرس الجموح ورد بسخرية لا تخطئها العين:
شهوتي موزعة في كامل جسمي، ولهذا أراني ولا أراني، فلا أرى داخلي سوى بغليتي خلافك وحصانك ومن لف لفكما، فشهوتكما تقودانكما إلى الخارج، وتلقي عليكما أثقالاً لا مهرب لكما منها، وعالمي داخلي، هل تبيَّن لك الفرق بيننا أيتها المشتهية لغيرها المشتهاة من غيرها؟
***
انتحار البغل
حدّث البغل نفسه قائلاً: لكم هم مزعجون هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم أسياداً علينا، وهم مغلولون من الداخل، ونظرتهم إلينا سيئة، تعكس سوء تقديرهم لأنفسهم وللعالم من حولنا. ويستغربون لماذا ينتحر البغل منا إلى الانتحار. ذلك لأنهم ناقصو الرؤية . البغل لا ينتحر إلا في أصفى حالاته الجسمية، ليعلن احتجاجاً على ما يفعله به هؤلاء. لو أخذوا من بغليتنا عبرة عابرة، لتعلموا الكثير فيما يقولونه عن أنفسهم، ويقومون به، ويمضون عمراً طويلاً بين حرب ونزاع وضغينة.
***
أنا البغل
نعم أنا البغل، ولست أخجل من التعريف بنفسي بغلاً، وأنا أشير دون تردد إلى والدتي الأتان، ووالدي الحصان، وإن كنت أحياناً في حيرة من نسَبي، وفيما يفعلانه. لا حيوان ينافسني في قدراتي ومسلكي ووحدتي العظيمة. أنا بغل، وهناك أعباء كثيرة أقوم بها، وإذا حمَتْ بغليتي، أقلب كل شيء رأساً على عقب، مفاجئاً المزعوم مالكي بما يندم عليه، فوحدتي أهم من كل هذا الذي يقول عنه مجتمعه. سعيد أنا مع نفسي، لا شريك لي في مأكلي ومشربي. لا حلم لدي، فما لدي مفتوح ومرئي، ففم أخاف إذاً؟ وزهدي في الحياة لا يجارى. بغل أنا بغل، وصراحتي تتقدمني أنّى توجهت، شديد الإخلاص لاعتباري بغلاً حتى الرمق الأخير.
****
على هامش ” حيرة البغل بين عمه الحصان وخاله الحمار ” قصص قصيرة جداً ”
بغل الجاحظ
ورد في كتاب الحيوان، للجاحظ “776- – 868 م ” تحقيق عبدالسلام هارون، ج3، ص 166، من ضمن ماورد عن البغل، وأنا أختصر الفقرة وهي طويلة:
..أن البغل خلاف جميع الدواب وقد نال منه التعب والإعياء: ليس عليه عمل إلا أن يدلي عضوه الذكري يضرب به بطنه، وهو يحطه ويرفعه.. وهذه خصلة يخالف بها البغل جميع الحيوان..وقيل عن أنه يلتمس بذلك الراحة ويتداوى به..
” ينظر حول ذلك، ما أثرتُه في كتابي:الشبق المحرم” أنطولوجيا النصوص الممنوعة “، منشورات رياض الريس، بيروت،ط1، 2002، كشكوليات مختارة، ص324، الطبعة القاهرية،316، ص 395.
هنا أتساءل عن نوعية هذه المعلومة التي حصل عليها الجاحظ، وهي حال جل مصادره في كتبه التي تعدَّت كما يقال الـ ” 360 ” كتاباً، في حقول معرفية مختلفة، حيث لم يبق علم إلا وكتب فيه، أو كان له بصمة فيه.وما يمكن قوله يكمن في سؤال عن وجه الشبه بين البغل والجاحظ الذي قارب المائة عام في عمره، وأنه كان ضحية قراءاته وكتاباته، حيث سقطت عليه مكتبته سببت له شللاً حتى مات، ولم يتزوج كما يرد في مجمل الكتابات أو الروايات عنه، أي كان معتكفاً في بيته، معتزلاً الناس، مأخوذاً بعالم خاص به. وبم كان يسلّي نفسه أو يؤنسه في وحدته. وليس الربط بينهما من باب تشبيهه بالبغل حرفياً، وإنما بسلوك مميز للبغل، في اعتباره ” خلطة ” جنسية ” أو حالة هجنة، والهجنة عملية تطعيم معروفة، تنمّي النبات وغيره وتكثِر إنتاجه وتزيد في قوته بقاء، فلا هو هذا ولا ذاك. والجاحظ لم يتزوج، لأنه اختار عالماً توقف عليه وحده. وقارب قرناً كاملاً في عمره، كما هو البغل حيث ورد بلسان الجاحظ أنه يعمّر كثيراً، وفي كتاباته يكون هو وليس هو، ولكنه عالم قائم بذاته، وفي ذلك ما يبعث على الحيرة ، لمن يتقصى حقيقته العميقة ..