خالد إبراهيم
عندما كانت أمي تعاني من مرضٍ عضال، كنتُ لا مُبالياً، ممارساً حياتي الطبيعية، هذا لا يعني أنني لم أفكر بها قط، على العكس تماماً، هي لم تغب عن مخيلتي وفؤادي طيلة وقوعها بالفراش، منذ تاريخ 26- 12- 2022، إلا أن واقع الحال الذي كنتُ أعيشه كان يفرض علي الالتزام بالصمت أحياناً، لقد عانيت الإرهاب يا أمي كما أنتِ عانيتيه.
سأحكي عن الإرهاب بكل تفاصيله يا أمي، ليس فقط العرصات ممن منعوتي لعبور دجلة ذات يوم نسميهم إرهابيون، حيث لا يمكن لي إلا القول:
منظمة حزب العمال الكردستاني من جهة هم ليسوا حزباً بقدر ما هم منظمة ارهابية، مافيوية، وبندقية رخيصة للإيجار، ومن جهة أخرى هم أبعد عنم الكرد وأحلامهم، هذه المنظمة القذرة اليد واللسان، حرمتني من إقامة حفل زفاف أختي المشلولة، لأني منعتهم ذات يوم من تجنيدها بحربهم القذرة، وشعاراتهم الممجوجة، وهم يدفعون شباب وشابات الكرد بعيدا عن كردستانهم، وها بعد عشرة أعوام، أقفُ عاجزاً من أن أرى أمي لمرةٍ واحدة، ومن ثم أُمنعُ من لمس قبرها الطاهر لأكون فريسة لهذا المنفى وهذا الشعور بالعجز، يكفي أنكَ لا تستطيع أن تعبر دجلة وأمامكَ زبانية للجريمة، فتكون بذلكَ بعيداً عن سوريا التي تتمزق، وعن كردستانكَ التي تُرهب فكرة قيامها الدول.
الإرهاب له أشكالٌ وألوان يا أمي، ( الحرب، الارتزاق، الفقر، الحزن، الوحدة، الخيبة، الضغط النفسي، الإرهاق، القلق، الخوف،) كل شيء ليس بمحله الصحيح، ويؤذينا بقصد أم بغير قصد، يحق لنا بتسميه إرهاباً.
كيف حالكِ الآن وأنتِ مزنرة بالتراب والخيبة يا أمي، كيف حالكِ وأنا الذي لا زلت أعاني من الشعور بالذنب اتجاهكِ واتجاه نفسي قبل وبعد موتكِ الذي لا يُصدق!!
هل ما زلتِ تنتظرين غياب أبي مساءاً لترسلي لي صوتكِ بالخفاء يا أمي؟ هل تحبينني؟ هل رحلتِ وأنتِ لستِ راضية عن كل ممن حولكِ يا أمي؟
الكثير من الأسئلة التي لا أجوبة لها ولكن قد فات الأوان
أقبل العيد وعلى أبوابه وجوه مرصّعة بالفقد والغياب، هذا أول عيدٌ يُشعرني أنني وحيد ويتيم يا أمي
ولعل موتكِ هو أخر امتحان كنتُ أشد به خاصرتي المصفحة بالحديد وضعف أنهك حيلتي ذات يوم، لم يبقى في دُفّلة الأيام ما يستحق يا أعز الناس.
أحياناً أقول:
سأتلف هذه الصور المعلقة وأولها صوركِ يا أمي، لأنني لم اعد أرغب بالحزن أكثر من هذا، لقد أنهكني كل شيء، ولم أعد أقوى على الحركة والدفاع عن النفس، وتقديم المبررات التافه هنا وهناك، وأحيانا لا أتجرأ حتى بالتفكير أن اخفي هذه الصور في أرشيف حياتي المتعب، وأغلب الاحايين أقرر بغلق النافذة والباب، ودلق المازوت على هذه الأخشاب وهذا السرير، والإعلان بصمت عن ارتكاب أكبر حماقاتي بنسف هذه الغرفة والتي تحتوي الكثير الكثير، أحياناً أتسللُ إلى سيارتي وحيداً، وأحلُّ زائراً إلى أعشاش أطفالي الخمسة خلسة يا أمي، أرقبهم من بعيد، أنظر إلى النوافذ والأبواب المرصودة بالسلاسل ورصاصات الاغتيال والاغتياب، عائداً منهاراً إلى الأوتوستراد الذي يحاذي مدينة دوتموند و لونن باتجاه مدينة هيرني، وفي مكان ما أقفُ لساعاتٍ يا أمي، أنظر يميناً، والتفُّ يساراً، وكلما أرى سيارة سوداء أرتعش يا أمي، أحياناً حزناً وأخرى فرحاً وأخرى غضباً، لأعود من جديد إلى حيث انطلاقي الأول في ذلك البارك والذي يعود ذكراه إلى شتاء 2017، هكذا تكون النار ملتهبة وحيداً مع بعض الذكريات التي لا تخمد، وأحياناً أخرى أحمل الغاز وابريق الشاي قاصداً تلكَ البحيرة، وتحت تلك الشجرة، أمارس طقوس العبادة المبعثرة على الجثث، وينزُّ من بين أصابعي دم الأطفال والأحفاد وعصارات كل هذه السنوات يا أمي، قائلا في قرارة نفسي: مِثل نسمة تأتي وترحل، لا بقاؤها يُشفي ولا رحيلها يقتل هذا القلب.
قالت: ما بالُ هذه الندبة في ظهرِ كفّكَ اليسرى
لا أدري قلتُ، وأحياناً تؤلمُني وأخرى أتناساها
” لا تخف، سآخذكَ للطبيب، وسنستأصلها” قالتها، وبينما تمسحُ كفي، كانت أصابعُ قلبها، تعزفُ نوتةَ الحبّ على مساحة الموسيقى في قلبي!
حينها_أي قبلَ خمسةِ أعوامٍ من هذا التاريخِ_كانَ الحبُّ أجمل، وكنتُ أنا الاجملُ والأقربُ إلى نفسي.
عندما يعاديكَ حتى الهواءُ الذي تتنفسُهُ، اخنقْ نفسكَ بعيداً، كما تخنقُ صغارَ أحلامكَ، ولا تكترث للنسلِ أو النصلِ أو المقولاتِ الناقصة.
أعترفُ: كنتُ صامتاً إلا إنّني لم أكن أعمى
هنا وقبل عامٍ منذ الآن الذي يضيقُ عليّ، وفي المدينةِ( البندقية)، وتحتَ وطأة يقينٍ مشلولٍ، و حنينٍ سكران، وفي مقهى يحاذي ضفةَ وجعي والذي يطمرُ رصيفَها الماءُ، وكظهرِ عجوزٍ محني، كان ذلك الجسرُ الملتوي يحيطُ بكلّ تساؤلاتي، ويقذفني مثل قاربٍ ورقي بين ريحٍ وماء!
هناكَ_حيثُ لكلّ شيءٍ معنى وصورة_دفنتُ أخر الاحلام.
كان هناك ألقاً ظننته ألق الحب يا أمّي
كُنّا في أول عيد يا أمي، نزور أهل الفقيد، نواسيهم، نقف إلى جانبهم، سأنتظر طويلا يا أمي، كما انتظرت وقوف هذه الدموع ونزيف هذا الألم، هكذا كنّا، لأننا من جيل تربى على تقبيل الأيادي احتراما وتقديراً وليس خوفاً أو ضعفاً، ولم نكن ندري أننا جيل الهزيمة الكبرى، والمذلة والمهانة، هكذا ينظرون بعض السفهاء، في واقع الحال المُعاش.
سيموت الجميع يا أمي وسأبقى متفرجاً وفي فمي سيجارة، وبيديَّ هاتين كأس من الكحول، وهذا حقي ولن أتنازل عنه، أصرخ بملء صوتي:
كل هذا الحريق، الحزن، الألم، والفرح أمّي
المطر، الثلج، حريق الصيف، الغبار، الحنين، الأنين، والذكريات أمّي
أمّي أحد
وهذا العالم المزدحم بالأمّهات لا أحد
ولكن؟
ربما سأموت قبل هذا العالم المسخ، هكذا ومنذ أن كنتُ في العاشرة من عمري، كان لمنظر المقابر رهبة لدي، كنتُ ولازلتُ أحترم الأموات، وأخافهم بشدّة، لقد حان الوقت أن أكون آخر زوّاركِ الأبديين يا أمّي، أفتحي ذراعيكِ، ودثريني بحضنكِ الذي أشتهي، لم يبقى للحديث إي معنى.
إذا متّ بينكم، أو بعيدا عنكم
فلا تقرؤوا الفاتحة وياسين وأعوذ برب الفلق
ولا تنصبوا الخيام وفتح الصّالات ولا دور الدعارة والقمار
واتركوا خزائن الأحزان في قبري
وابحثوا على تخوم قبري عن نظرات العشاق
ولا تمنعوا القطط والكلاب مِن التبول على ضريحي
ولا تزوروني فليسَ لدي ما استقبلكم به غير خيباتي
ولا تذّروا على تخوم قبري بذور التين واليقطين
أنني أخافُ طيور السماء
19.06.2023