الغرائبية …. اسقاط لرؤية (الذات ـ الانا) على موضوعية الحدث. (قراءة نقدية سريعة في كتاب الدكتور ناجي كاشي)

 شاكر رزيج فرج 

  ـ   1  ـ
لايمكن الارتكان الى الرأي الذي يقرن رواية ـ الغريب ـ للبير كامو بانها اقرب والصق بالادب الغرائبي (هراري بلقندور) اقترانا بالحقبة الاستعمارية وعلاقات الغرب المستعمر(يكسر الميم ) بالشرق ، بما فيه افريقيا كبلدان مستعمّّرة او ان هذا  المصطلح يدل على كل ما ينتمي الى بلد غريب وكما هو وارد في المعجم اللاتيني ، او فيما ورد من آراء وتفسيرات قاموسية أخرى مع الميل الى الاخذ بما اورده ( الجرجاني ) من تفسير متقارب وآراء الكاتب ، باعتباره ناقدا متقدما على عصره ص 28 ، رغم انه لم يفصل الشكل عن المضمون .

لذا نجده ، ينطلق بدءا ، من بدايات الفن البدائي ، الذي يعتقد انه يعكس اسطورة ما في محاولته للسيطرة على الطبيعة عبر تفسيرات هي بالتأكيد لا تتسم بالعلمية ـ لقصورموضوعي وذاتي في مستويات الوعي ـ  مع عدم قدرته على معرفة المسببات بسبب عجزه عن التحليل ومن ثم الاستنتاج ، وهذا بالتأكيد نتاج طبيعي لعجز ـ الذات ـ عن ايجاد حلول منطقية للظواهر والاشياء ، اي ان  ـ الذات ـ تقوم بمواجهة كل هذه الظواهر ، مواجهة تنحو ( منحا غرائبيا …. ص 31 ) ، لذا فان د. ناجي كاشي ، اعتقد ان : الجذر الذي قامت عليه التراجيديا الاغريقية ، هو جذر غرائبي .
 ورغم اننا ندرك سعة تناول هذا الجانب ـ نظريا ـ تطابقا مع التشكيلات الاجتماعية التأريخية وتطور الوعي اثناء وخلال التمظهر الطبقي ، ارتباطا بالانتاج وادواته ، كان لابد من التطرق الى بدايات الوعي المتمثل بظهور مفهوم ـ الفتش ! ـ حيث يجد الفرد نفسه داخله كما يجد الجميع ذواتهم متمثلة فيه ، والذي اخذ بالتطورليكون في مرحلة ـ ما ـ مرجعية لكل آصرة سببية ، يمكن ان تشكل قاعدة مقبولة للتحليل والتفسير والى حد كبير ميدانا ـ للحل! ـ ولا غرابة ان نجد في يومنا هذا آثارا له في اعتقادات الكثير من الناس ( يورد غاتشيف في ـ الوعي والفن ـ وجود شجرة في لندن يتجمع حولها الناس ومن حفيف اوراقها واصوات الطيور، تراودهم اخيلة وافكارشتى ، بل وان بعضهم يعتقد ان روح الالهة ـ زيوس ـ كامنة فيها ، ان لم تكن الشجرة هي ـ زيوس ـ نفسه !) .
ولا ريب ان ـ الفتش ـ افضى الى تخليق واتساع الفضاءات لحكايات ـ الخرافة! ـ وتوريد الاساطير والسحروكل ما حوته ـ الميثيولوجيا ـ من اخباروقصص ، دون بعضها واخرى تناقلتها الاجيال شفاها وثالثة ذهبت مع اسرارها الى الابد ، والشئ الذي لابد من ذكره هنا ، هو ان تلك الحكايات ، قد انسنت بهذه الدرجة او تلك ،كل شئ الحيوان والجماد والماء والرياح وحتى الاحلام والكوابيس…. الخ ، حيث بات من الممكن ، ايجاد جواب لكل ظاهرة طبيعية ، حيث اخذت ـ الذات الانسانية ـ تلعب دور محورالرحى! لما يجري حولها ، هذا الدور الذي اتسم بالتصادم والصراع .
ولعل د. ناجي كاشي قد تفادى الخوض عند هذه الزاوية بالشكل التفصيلي واكتفى داخل المتن باشارات وامضة اليها ، وانشغل بالاجابة عن سؤاله المركزي : هل الغرائبية ، فلسفة ؟ ودون تسرع باطلاق حكم قاطع ، ساح اولا في وجهات نظر المثاليين وكان ـ كانت ـ ابرزهم  ، والتي تمثلت اطروحاته / اختصارا/ الذي قال بالجمال الحر الذي لا يفترض مفاهيما قبلية وانه ، اي الجمال، لا يتمثل الا في الشكل وان الحدس يقوم قبل ادراك الموضوع ، اي ( ان يقوم فينا قبليا ص 45 ) واهمية الخيال في العمل التركيبي وان الذات الانسانية ، هي ذات موضوعية محملة بالوعي والقيم والعادات وكل التراكمات ، هذه الاراء التي تندرج / تنطوي / تحت ما يمكن ان نسميه بـ ـ ( التفسيرات الميتافيزيقية ) .
والمثاليون ، امثال هيجل وبرغسون وشوبنهاور وكروتشة ، يلتقون بهذا القدر او ذاك بعضهم مع البعض في جميع الطروحات ، لاسيما (.. على الافتراض بوجود شروط قبلية ص 46 )
    واذا ما اخذنا نظرية الجمال ( الاستطيقا ) على مختلف اتجاهاتها والتي هي في الاساس كانت جزءا من الفلسفة ثم انفصلت عنها ، انما تتخذ من ـ العلاقات ـ محورها التي تدور حوله / العلاقات التي تقوم على مبدأ الادراك / وباعتبار ان هذه العلاقات هي التي تحدد فكرة الجمال /وعلى الاقل وفق رأي مخلقها ـ بومجارتين ـ/ مبتعدين الى حين عن الفهم الماركسي له /ولذا ترتب على هذا الفهم ، الرأي بان الفنان والاديب واي مبدع لاي جنس ادبي انما هو خالق غير مقلد ، والتخليق وفق هذا المنحى يعني في النهاية ، الشكل والمضمون ،(..) وهذايعني وفق الرؤية الكانطية ، ان الجمال لايمكن ان تتوافر شروطه داخل المضمون(..) اي المنجز الابداعي كاملا وكأنه وحدة غير قابلة للتجزئة ، وهو ايضا يعني ـ الى حد ما ـ وحدة التورية والتحليل والاستنتاج والتأويل على مستوى ـ الفرد ! ـ المتلقي ، بعيدا عن المؤثرات الاخرى ، لاسيما ما يتصل بالتأصيل الايدلوجي ، لكي تتيح ـ تشكيل صورة ذاتية عن الاخر، هي بمثابة الغيرية الذاتية الفاعلة !! والتي بدورها تكون الدال على الغرابة بالنسبة للاخر في مقابل ـ الانا ـ وازاء هذا الفهم المثالي ، تنجلي حقائق ، تحفر في وجهها اخاديد ، في مقدمتها ، ان الذات انما تعطي الظواهر معانيها ، لانها موضوعية محملة بالوعي والقيم والعادات
وكل ماهو قبلي ـ اي ما حدث سابقا ـ بما فيه ، التطور التأريخي بكل جوانبه ، الاجتماعية والاقتصادية / اي اوضاعه المادية والروحية الموضوعية /.

ورغم ان المثاليين مجبرين على قبول ( القبلية ) والاتكاء عليها ، الا انهم يقلبون المعادلة ( العالم فكرتي عنه ـ شوبنهاور ) واضعين العربة امام الحصان ، وعلى اساس اسبقية الفكرة ـ كما هو معروف ـ .
لذا زخرت الاطروحة بمجموعة من الاسئلة ، يمكن اجمالها على نحو افتراضي ، هو :ـ لم يلجأ المبدع الى التغريبية لعرض رؤاه ؟ ذلك ما نجده في جميع الاجناس الادبية المعروفة لدينا الان ، والمسرح منها ، رغم ان السينما هي من اكثر الفنون تواصلا  واستئثارا واغترافا من هذا الفضاء ، والتي يمكن الرجوع ( تأكيدا على هذا الرأي ) الى افلام المغامرات وافلام ـ طرزان ـ في حدود معينة ، ومن ثم  ـ الخفاش ـ وانتهاءا بـ ـ سيد الخواتم ـ والذي كان ممعنا في الغرائبية التأريخية ، والتي لم تعد نزوعا فنتازيا ، بل بناء سردي و فكري وجمالي ـ طاهر عبد مسلم ـ.
ان الاجابة على هذا التساؤل ، لابد ان يستبق بمقدمات ـ يغلب عليها الجانب النظري ـ لتشكل ـ الى حد ما ـ قناعات تتصل بالمحيطين ، النصي والتركيبي والفعاليات اللصيقة الاخرى من قبيل بعض المفاهيم ـ الواردة في متن الاطروحة ـ كـ ـ تقريض الذات ، الازاحة ، نفي الذاكرة ، الذات المحايدة ، القرصنة ، وصولا الى الاستنتاج الاهم والاكثر مثارا للجدل ، وهو ما نعنيه بـ ـ التصادم ـ بعد ان جرى من الغاء او تأجيل او تركين ، حقيقة ـ الصراع ـ الذي هو من اساسيات علم الجمال الماركسي ، بل والمثالي ايضا .
ان هذه القناعات لايمكن ترسيمها في حدودها الابستيمولوجية وجعلها الى حد ما ، قناعات مطلقة ،دون تحديد نقطة الافتراق ! مابين السائد وما بين ماهو مقحم تنظيري جديد ، قد يكون مفروضا من قبل ـ الكاتب ـ ليمرروجهة نظره بشكل ما ، ويبدو ان ناجي كاشي كان مدركا لذلك ، لذا وضع ـ دون لبس ! ـ مسألة ـ الغاء القبلية ـ للتعريف عن قرب لمفهوم ـ الغرائبية ـ ممسكا بدورـ الذات الفاعلة ـ ودورها الاساس في تخليق ، النص الغرائبي ، أو ما يمكن ان نسميه الاشتغال الغرائبي الخالص او الذي يمكن ان يستوعب اشتغالات اخرى كالعجائبي / السحري / الرومانسي … الخ   وناجي كاشي ، بهذا التمنهج الفلسفي ، افترض ـ ذاتا ـ غير ملوثة بالماضي ، ولا تخضع الى جدلية الذاكرة ، بل لايمكن لها ان تمد جسورا الى الخلف ولا تستسقي بذورها من وقائع واحداث ومحددات قبلية ، بل هي ـ ابنة اللحظة الراهنة ـ التي بدأت حركتها على التو، باتجاه صناعة وصياغة الحدث والفعل بعيدا عن موضوعيتها ، حامية نفسها من الارتداد والوقوع ثانية في يم الواقعية الموضوعية واشكاليات العلاقات القائمة سلفا ، انها ـ في تصوري ـ ذات طفل يولد توا ، لكنه لا يحبو ، بل يقف متعملقا ليواجه عالما شديد التعقيد ولديه القدرة على استيعاب حركته والتجانس والتفاعل معه واغناءه والاستغناء منه والتأثر به والتأثيرفيه ، وهو بهذا ـ التمنهج !ـ قد ظفر ببغيته ، ليحدد بشكل دقيق فهمه للـ ـ الغرائبية ـ مستهدفا اقناعنا بانها هي ، هكذا !! ، ميدانا خرج من تحت عباءة الفلسفة لتؤسس كيانا فلسفيا جديدا ، شأنها شأن علم الجمال ، ولتمضي مبتعدة عما يمكن ان نتصوره قريبا منها ، كالواقعية السحرية ، الفنتازيا ، العجائبية .

                            ـ 2 ـ
 يضع د. ناجي كاشي ،جملة من المفاهيم الارتكازية لتأسيس رؤية معرفية لمصطلح الغرائبية ( كمفهوم !) مستعينا ببعض المقولات والافكار التي تقع على مقترب من بغيته ( لاويا !!) بعضها لتكون مطواعة لتوجهاته ، دون ان يقوم بعملية طمس / محو/ ازاحة / الغاء / لاي فكرة كانت ،بل على العكس ، فهو يعتقد ان العديد من هذه المقولات والمفاهيم انما تصب بهذه الدرجة او تلك في جدوله المنطلق جاريا نحو هدفه ، غير خاف عن القارئ الدارس ، اي معلومة قد تبز في منطقه الفلسفي بذرة الشك والريبة والتوجس ، فهو يؤكد ، ان الفلسفة الحديثة تحمل ( محوريا ) اهتماما واحدا يتصل بالذات الانسانية من اجل تحريرها من ربقة العالم الموضوعي الطبيعي هذا الاهتمام الذي لايمكن ان يتم بالاماني والاحلام ، بل لابد من انزياحها ( قسريا ) عن عبودية ـ القبليات ـ التي اثقلتها وقيدتها ، اي ان الفلسفة الحديثة ( لكي تكون حديثة فعلا) عليها ( وهنا يكمن التعارض ) ان تتخلى بشكل ما مما يثقلها ، اي تحويل الذات المشبعة ( بما مضى ) الى ذات ( محايدة) تقف على جادة جديدة مرتهنة بـ حاضر آني قائم ـ ، ذات تقوم بعملية ـ تصادم !ـ بالعالم الموضوعي القبلي / تخلخل بناءاته الشكلية لتعيد تشكيله من جديد ،حينئذ يمكن لهذه الذات من الوقوف على اعتاب الظاهرة ـ الغرائبية ـ من خلال تخليق ـ صورة ماـ ووفق عملية ـ تسامي ـ يسهل من خلالها التعرف على الواقع الموضوعي ـ راهنا ـ ومتخيلا ـ قلقا ـ للمستقبل القائم اصلا في الحاضرـ تخيلاـ  ( الزمن واقع محصور في اللحظة ، معلق بين عدمين ـ باشلار ) والذات الانسانية هذه ( الداخلة ) ضمن عالم الاشياء( والتي تبدو غير فاعلة ) تقوم بعملية ـ تحييد ـ قصدي بعد ان تسقط كل ما علق بها ، اي بتعبير آخر تقوم ـ بنفي الذاكرة ـ وتفكيك الزمن ، ومخالفة المنطق الواقعي ، البيئي للظواهر، لصالح سيادة الوهم ، اي خلق حالة من التردد والشكوك (..) بما مضى وما هو مختزن في الوعي ، شرط ان يكون ذلك ـ التصادم ـ فعلا معرفيا لغرض الكشف .
ولم يكتف ـ الباحث ـ باسطره افكاره عن ـ الصورة ـ على نحو منقطع ومحدد بالزمن الآني ، بل لجأ الى ـ العهد البدائي ـ لفرض قناعات معينة لدينا حول صحة استنتاجاته تلك ، فاشار: الى ان الصورة ( لدى الانسان القديم ) هي الشكل الذي لايمكن فصله عن الفكر ( الصورة ـــــــــــ الفكر ) اي ان الصورة ( هي الشكل الذي اصبحت التجربة فيه واعية بذاتها ص 64 ) وعل اساس ان الرجل البدائي يتعامل مع مظاهر محسوسة ـ صورـ وان الذات تقوم بعملية اسباغ المعاني على الاشياء من خلال عملية ـ نفي لهذا العالم ـ من خلال الاصطدام به ـ اي الاصطدام بالعالم الموضوعي ـ وان الاسطورة لدى ـ البدائي ـ قد وفرت له فرصة لـ ـ تعطيل العقل ـ وتحرير الذات ( التعطيل ، الذي لايعني به ـ ميكانيكيا ـ كما اعتقد ) وتحرير الذات عبر خلق علاقات ذهنية بين الاشياء التي تتشابه والتعامل مع هذه العلاقات على انها قائمة فعلا في الواقع ، وان عملية التخليق هذه تتم عبرما اسماه بـ ـ التأمل الحرـ ( الذي هو الرغبة في التعليل ) ، وباختصاروتبعا لهذا – التوصيف – فان الذات المحررة قد صادرت كل ماهو ـ قبلي ـ لتكون ذاتا ـ بيضاء !! ـ ان اسطرة هذه الاستنتاجات الفلسفية ـ وان كانت تستهدف الوصول الى امريرغب فيه الباحث ـ الاانها ـ في اعتقادي ـ الى تجسير اعمق ، خاصة ما تطرحه ـ الماركسية ـ من افكار بهذا الصدد ، وباختصار شديد يمكن القول: ان الانسان القديم في ظروف المجنمع البدائي لم يكن يفهم الا بواسطة علاقات القربى ـ لوسيف ـ  وان ـ وعيه ـ كان يقوم باسقاط ضمني للعلاقات الاجتماعية على الطبيعة ، اي بتعبير آخرـ اسقاط الـ ـ انا ـ الاجتماعية للفرد على العالم المحيط به الاـ انا ـ وان هذا ـ الوعي ـ يتمظهر وكأنه في وحدة وتداخل سيال مع الطبيعة ، ولانه ( اي الوعي ) لازال يضع اقدامه على درجات سلم التطور الاولى ، فانه يتأصرمع محيطه دون عذاب او ارتكاسات ممتلكا حرية اكبر اتساعا في فضاءات تكاد ان تكون مفتوحة للتأمل وليس للاستنتاجات ، لذا فهو لايحتاج الى سلسلة طويلة من التعقيدات للوصول الى امر ما ولان ـ قبلياته ـ لازالت في المهد يانعة خفيضة الصوت ، فان  ـ ذاته ـ لم تكن ملوثة بقدركاف على ـ الردع !ـ او التحجيم لذا كان ظهورالحكايات والخرافات البديعة والاساطير ، امرا طبيعيا بل ومتطابقا لوعي الذات آنذاك ، لذا كان لظهورـ الفتش ـ ايضا ،ككيان متميزـ جسم مادي / جزء خاص / اسبابه الحقيقية تتمثل اساسا بـ ـ المغزى!ـ الذي يختفي وراءه / مضمونه الروحي ـ الاجتماعي / ، هذا المغزى الذي جرى ـ تصنيعه !! ـ من قبل ـ ذات / ذوات / ما كان بمقدورها الوصول اليه لولا ـ الحرية ـ التي كانت احدى مكوناتها الاساس ، حيث يمكن ان نطلق عليها ـ الذات الخالصة ـ او ـ الذات النقية ! ـ .
 واذا ما وضعنا ، مقارنة بين هذه الذات الخالصة ، والذات المحايدة ـ التي اطلقها د. ناجي كاشي ، نكتشف ان قاسما مشتركا يشدهما ، هو انتفاء ـ القبلية ـ وهيمنة ـ التأمل بهدف الكشف وترسيم صورا لاتخضع للعالم الموضوعي / لا تنتمي اليه اصلا/ رغم وقوعها في براثنه ،ثانية لتشكل قبليات جديدة ، عوالمها التي لاتشبه ما يوجد في المحيط رغم انهما يتنفسان هواءه ويستسقيان منه ، الا انهما يفترقان ـ جوهريا ـ في مرتكزات عدة ، اهمها ، ان  ـ الذات الخالصة ، البدائية ـ لم تلد ـ قيصريا ! ـ فهي ابنة العالم الموضوعي ، تمتلك حراكا يتناغم / ينسجم / ومتغيرات العلاقات الاجتماعية التي تتصل اساسا بطبيعة الانتاج وادواته ونموذج التشكيلة الاجتماعية ـ التي تقوم ـ حيث تدخل حلبة ـ الصراع ـ على مستويين ، ( ذاتي ـ ذاتي )  حيث يغتني بالجديد الذي يهز القناعات القائمة سلفا ليتأسس على ركامها قناعات جديدة ( تزايد فعاليات الوعي ) بسبب ـ التراكم المعرفي ـ حيث تؤدي على مديات طويلة الى خروجها ( اي الذات ) من عذريتها الى ـ ذات ـ تنوء بالقبليات ( الخروج من الخروفة الى العلم ) وبالتالي شحوب  وتضاؤل ومن ثم اختفاء ما سمي ـ بالوحدة والتداخل السيال للوعي مع الطبيعة ـ ، حيث تتضاءل تأثيرات الحكايات  والاساطير والخرافات ،داخل ـ الوعي الجمعي ـ ايضا لصالح المعلومة العلمية ، وبالطبع فان مستويات التراكم المعرفي داخل ـ الذات ـ يختلف من تشكيلة اجتماعية الى اخرى ، مع الاخذ بان هذا ـ التراكم ـ هو في تعاظم وتكاثف وازدياد هائلين وغير قابل للتوقف ابدا .
اما المستوى الثاني ( ذات الجماعة / الآخر) والذي هو تعبيرعن قاسم مشترك لرؤية الجماعة داخل التشكيلة الجماعية الاجتماعية ، كنتاج موضوعي للتركيبة الطبقية في فترة تأريخية معينة ، وعليه فان مقولة ـ لوسيف ـ فيما يتصل بـ ـ بعلاقات القربى ـ البدائية ، تعني ان التماسك لوحدة / الاسرة / القبيلة / لاتعني آصرة الدم تحديدا ، بل مصلحة الشريحة الاجتماعية ـ النفعية !ـ والتي لها قابلية التطورـ ضمن السياق التأريخي لتطورعلاقات الانتاج بفعل تطور ادواته ، حيث تتراجع تأثيرات ـ آصرة الدم ـ وتأخذ بالتفكك لصالح الطبقة ( الكبرى) لمجموعة بشرية ، هي اكبر من الاسرة/ القبيلة ، غير مشروطة بتلك ـ الآصرةـ ( حيث لايعقل ان تكون طبقة الفلاحين مثلا ، اقرباءا في العهد الاقطاعي ).
والاختلاف الآخر، بين ـ الذات الخالصة ـ والذات المحايدة ، هي ان الاولى تتخذ من الصراع ، امتثالا لموجوديتها ،تعمل ( كعامل مساعد !) في تحريك ( تسريع)  المفاصل جميعا ( للعوامل الموضوعية ) ودفعها الى الامام ضمن السياق التأريخي (الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية ، مثلا ، ودور الحزب ) ،بينما ـ الذات المحايدة ـ تقوم وفق رأي ـ د. ناجي كاشي ـ بعملية اصطدام بالواقع الموضوعي وهو ما عزاه الى ما يسمى بـ ـ القرصنة ـ او تقريض الذات ـ هذه الحيادية التي تساعد على مخالفة القوانين الطبيعية التي تتحكم بالاشياء ومخالفة المنطق الواقعي البيئي للظواهر والتفكك الزماني ( لقيامها في الزمن الحاضر) وهذه كلها من مميزات الغرائبية .
ويبقى السؤال الهام ، ان ذاتا لها هذه الامكانات المعرفية والقدرة على الخلق والتأسيس ، وهي / خالية / بيضاء/ عن اي شئ ـ قبلي؟؟ ، لابد ان تكون ذاتا ( ما قبل البدائية / ذاتا خالصة ـ ان صح الاستنتاج ) وهذا يعني من زاوية اخرى ، ان جذر ـ الغرائبية ـ يعود اساسا الى ـ الوحوشية ـ كاستنتاج منطقي ( قابل للنقاش ! ) ،
                          ـ3 ـ
يشيرد. ناجي كاشي الى اننا يمكن ان نلمس جذور الغرائبية في آداب الكلاسيكية الاغريقية ، و برأي هذا استنتاج يتوافق ـ على نحو ما ـ وطبيعة العالم الذي كان قائما ، حيث ان ـ العلم ـ لازال في مهده ، اي ان العقل لم يعطل بالمعارف وبـ ـ حرفية العلم التي تكبل انطلاق ـ الذات ـ في عوالمها التي تصنعها وفق رؤى منفلتة من اسرالتراكمات المعرفية ، اي ان القبليات المختزنة هي من الهشاشة بحيث يمكن من اختراقها ، او ازاحتها او النأي عنها ، الا ان من المفيد ـ القول ـ ان الغرائبية لم تكن  آنذاك، خالصة وذات ملامح واضحة , بل كانت  تتداخل وبنى اخرى كالعجائبية / السحرية / اللا معقول …. واذاكان  د. ناجي كاشي يتخذ من مسرحية ( اوديب ملكا ) اساسا لرؤيته تلك ، فانه حاول تعزيز هذه الرؤية بافتراض ، اسقاط الجانب الغيبي / القدري من الصراع ، اي وفق ما يذكر ، هو تجريد ـ الشخصية ـ من اثقال التراكم التأريخي وكذلك محو القبليات من الذاكرة ، وبتعبيرآخر ، تحوله الى ـ ذات محايدة ـ وهذا هو هدفه المركزي! ، وقد يعتقد البعض الى ان ـ الكاتب ـ كان راغبا الى جرنا قسريا الى منطقته ، وان استناجاته تهويمات مضببة لفرض رأي ، الا ان من المفيد ان ننظر الى هذه المسألة من زاوية اخرى ، ومن خلال وقائع واحداث ـ مركزية ـ قامت على اساسها البنية النصية كاملة ، الا وهي : ان اوديب كان بلا تأريخ وان ذاكرته تكاد ان تكون قاصرة على استعادة الماضي ، وألا لم قتل الاب وتزوج من الام ، اي انه بدأ حياته ـ ذاتا محايدة ـ لتصطدم بالواقع الموضوعي  ، هذا الاصطدام الذي قاد الى الكارثة ومن ثم الشعور بالفجيعة ، وهي بحق من سمات ـ الغرائبية ـ كما انها تتوافق وآراء الكاتب .
لقد حاول  د. ناجي كاشي ان يعزز من رؤيته الفلسفية باستعراض افكارالعديد من ابرز كتاب المسرح وفي مقدمتهم ( سترنديرغ ) مستعرضا افكاره عن المسرح ، مؤكدا ـ بانه ـ اول من وضع اللبنات الاولى لمسرح السريالية الحداثوي باعتماده على اسلوب الاحلام ، بما فيه من تفكك ومنطقية وكيف انه حاول ان يحجب الصراع الى ادنى حد ممكن ، معتمدا على مبدأ الديمومة في طرح وتجسيد الشخصيات المسرحية وهذا بالتأكيد ، مبدأ سحري / غرائبي ، حيث تبدو الشخصية وكأنها تمربدور( استحالة!!) ساعدها على التحول ، ولعل مسرحيته الثلاثية الشهيرة ( الى دمشق ) خير شاهد على ذلك .
اما ( الفردجاري) فقد سلك في مسرحيته ـ الملك اوبو ـ مسلكا باتافيزيقيا قائما (على اساس من العدمية العمياء ص 94) وهذا بالطبع ما يضعها على مقربة من الغرائبية بوصفها مفهوما عاما ،مؤسسا على انقاض السائد واليومي .
اما ( ارتو) فقد نأىبمسرحه عن تصوير الواقع الخارجي والداخلي بحثا عن الروح في قداستها البدائية المنفلته والهائمة في دنيا العرض المسرحي وهذا ما يقربها من مسرح ـ اللامعقول ـ وطروحاته ، اي ( نستخلص الهدف الاساس الذي يقوم عليه عمل ـ ارتو ـ وهو الوصول الى العرض ـ الفيزيولوجي ـ السحري الذي يضج بالغرائبية ص 115) .
كما اشار الكاتب الى مسرح اللامعقول وآراء صاموئيل بكت ويوجين يونسكو وآخرون وضم الجزء الثاني من الكتاب افكارا ورؤى فلسفية عن النص المسرحي الغرائبي والشخصية الغرائبية ومواضيع حيوية اخرى تحتاج الى دراسة نقدية موسعة لاحقا .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…