إبراهيم محمود
أنا رجل ذكَر، إذاً أنا موجود
أنا أنثى ولم أصبح امرأة، إذاً أنا غير موجودة !
تكاد هذه العلاقة البينية” كقضية منطقية، أو ما يشبهها “، تلخّص كامل معاناة المرأة التي تعتبر نفسها شرقية، شرق التخلف، شرق الرجل الذكر، وعلامته الذكورية، وما يندرج طيَّها من مشاهد دالة على ذلك.
إذ ما أكثر الحالات التي نرى ونسمع فيها المرأة تتحدث عن ” الشرق ” الذي تنتمي إليه، بوصفه شرقاً متخلفاً، وتضع نفسها في واجهته، شاهدة على ذلك، حيث تشكل الحالات التي نتلمسها في مناسبات كثيرة، وفي أمكنة كثيرة، وعلى صعيد الكتابة بالذات ظاهرة اجتماعية، لا تخفي ما يتعدى نطاق القلق والكرب والكآبة التي تتلبسها، إذ تتحدث عن سلسلة من المظالم التي تتعرض لها، وبصيغ شتى، بدءاً من وجودها في العائلة: زوجة، أماً، ابنة، أختاً..إلخ، وما يضعنا في مواجهة المجتمع الذكوري، وكيفية تصغير المرأة حجماً وقيمة إلى جسد أنثوي يتصرف به الرجل، وما ينطوي عليه كل ذلك من تهميش لكينونتها الاجتماعية، وجوهرها الإنساني.
في الإطار الأدبي، وفي القصة، يسهل تبيّن هذه الظاهرة، وما في ذلك من استفحال العنف الموجه ضدها: مادياً ومعنوياً، وفي الآن الراهن، رغم بروز مظاهر التقدم التقني، وما لوسائل الإعلام، ومواقع التواصل الإجتماعي المختلفة، من دور في مكاشفة الكثير مما يخص هذه الظاهرة، سوى أن المتابع لما يجري يجد أن سرَيان فعل العنف قائم، والأخبار التي تنتشر تشهد على ما تقدم.
في التعبير القصصي، تجد المرأة، وباعتبارها كاتباً تنفيساً لها، جهة التعبير عن هذا التمهيش، وما للتهميش من توصيف لعالمها المثقَل بالمحظورات التي تتكلم بلغة الرجل وذكوريته الطافحة.
هيفي قجو، امرأة شابة، تعيش هاجس هذا المشكل المستفحل في الواقع، لا تخفي مخاوفها، ولا تتردد في تسميتها بأنها نبْت الشرق المر، ومناخه السديمي، وأرضه السبخية، وإنسانه البائس بالتالي، ولعلها في تعبيرها الذي لا يخفي سيرورة معاناتها، وفي قصصها، تترجم حيوات لا تعنيها وحدها، وإن كانت تتكلمها، وتحيلها إلى اسمها، وما في التعبير من إشهار انفعالي لافت.
يمكن لثلاث مجموعات قصصية ـن تعيننا في مكاشفة شكاوى المرأة الشرقية، وهي ضمناً، وبلسانها الأدبي طبعاً، وما للسرد من إحالة فاعلة في إبراز انخساف القيم ” شرقياً “، وهي:
بُعدٌ آخر: هوامش سردية
أصابع العزْف أو كصوت ناي بعيد …! ” هوامش سردية
أدراج عالية…جهات عمياء ” سرديات ” وهذه لم تُسمَّ قصصاً، إنما اكتفت الكاتبة بوضع عبارة ” سرديات ” وهي تضم ما هو قصصي وما هو تاريخي ممزوق بما هو انطباعي وقصصي.
قصصها هذه يجمعها قاسم مشترك، ألا وهو انتسابها إلى شرق، ركيزته الإستبداد، كما هو المستقصى من قصص هيفي قجو، وهي وإن حاولت التنويع في الأسلوب، لكن الرؤية الفنية أبقتها في نطاق شاغلها الروحي كامرأة.
من الصعب التوقف عند قصص المجموعات كلها، لهذا، سأختبر نماذج منها، إضاءة لهذه الفكرة.
في الأولى : بُعد آخر: هوامش سردية، حيث التطرق إلى الجانب المظلم من الواقع الذي تعيشه وما يحيله إلى مادة قصصية لها، يكون الهامش السردي، بمثابة تعميق فعل قصصها.
في قصتها ” سكاكين ” وما في العنوان من عنف متخيَّل، سكاكين التهديد، وليس المطبخ، ومنذ البداية ( فجأة وجدت نفسي أقدّم عمري قرباناً لتخلف الشرق.
في المساء الذي ارتفع عويل الفاجعة انكشفت حقيقة العدل المتواري منذ عهود سحيقة.
فكيف لشاب تزوج منذ خمس سنوات أن يصبح ضحية تصرفات أخ أكبر يخطف فتاة تصغره بأعوام، ويتوارى عن الأنظار مخافة انتقام أهلها.
ولكن هنا في الشرق تختفي القيم ويزول المنطق ، فقط تسود عادات القبيلة والعشرة . ص 32 )
وغسل العار يكون بقتل من يقرب للفاعل، وكان أحد أخوته وهو متزوج، وأب. لتقول بلسان الساردة ( تلك المفارقة في غباء الشرق جعلتني أرملة..ص33).وفي النهاية ( أنظر نحو المستقبل وأتحسر على كل أنثى تعيش في الشرق حيث القضاء الذي حكم عليها أن تكون دوماً الضحية . ص 34) .
طبعاً، كتابة القصة، وفيما تُعرَف به من تقدّم جهة الأسلوب ليست كذلك على الإطلاق، ففي القصة الآنفة الذكر، يغلب التوصيف والحكم القيمي بناءَ القصة، فتتراجع هذه تحت وطأة ما هو إنشائي، لتفقد تلك قيمتها كقصة، إذ لا ينبغي أن يكون هناك شرح، أو إطلاق حكم، حيث سرد القصة عينها، وبوجود سارد أو أكثر، هو الذي يقدّم للقارىء ما يحثه على التفكير، ومن ثم مكاشفة العالم الذي تنفسته القصة، وأرضيتها الاجتماعية، إلى جانب أن المقدّم مألوف جداً، وما في السرد نفسه من تقريرية ومباشرة، تعبيراً عن غلبة الجانب العاطفي المخل بالقصة كمفهوم.
في الهامش السردي، ما يبقي المشهد ماثلاً للعيان، من باب المتابعة للحدث المتخيل، فنقرأ في الهامش ” 9 ” ( هو الآن يراقص أنثاه، على أنغام الأغنية التي كان على نشوة لحنها يلتقيان في السر، وعلى مرمى الأصدقاء يسرقان قبلة الحب، إلا أنها فجأة غدت ضحية، لتجد نفسها قابعة في ظل وجوده…ص 35 ) .
في هذه، يكون الجاري بالتوازي مع الأولى، إذ لا يطلَب من كاتب القصة أن يضمّنها أي عبارة توحي بحكم قيمة أو بما هو إنشائي، إذ بذلك، يكون المسرود محكوماً بما هو آني واجتماعي وليس بما هو فني، يمتد بقارئه إلى المستقبل .
وكذلك في قصة ” قمره.. يا قمره ” حيث يتم استدعاء مشهد لطهور ” ختان ” النساء ، فهناك تسليط الضوء على عادة متَّبعة وفظيعة، من هذا الجانب، وذلك العذاب المرافق لعملية الختان هذه ( كانت تمشّط شعر دميتها الذهبي حين دخلوا عليها في غرفتها على حين غرة، والدتها وجارتهم المسنَّة ورجل غريب يحمل حقيبة صغيرة … كان الخيال يأخذها إلى أماكن كثيرة، ترى نفسها حيناً أميرة، علىحصان أبيض يسير بها بين الحقول…” وبعد تحكم فيها وصراخها” وبلمح البصر بتروا جزءاً من أنوثتها. عويل الفتاة الصغيرة شق السماء. الدم بات ينزف من الجرح دون توقف، أغمي على الفتاة الصغيرة، صرخت الأم: قمر.. قمر…ص 78 ) .
وما يحيل إلى مشهد يخص الرجل في الهامش ” 19 “: ( جلس ينفث الدخان بطراوة ، من تحت شاربه الضارب إلى الصفار، يستحضر أرواح من ذهبوا قبل مئة عام ..ص 80 ) .
هذه العادة قدّمت حولها دراسات مختلفة، ومن ذلك ما اشتهرت به ” نوال السعداوي ” في قصصها وكتاباتها ذات الطابع الاجتماعي، وما سعت إليه القاصة هنا، هي أنها في الوقت الذي بذلت جهداً لوصف مأساة طفلة بريئة، إلا أنها بإدخال صيغ إنشائية وأحكام ، خفضت من قيمة القصة، بمقدار ما أخرجتها من سياق الفني الذي ينمذج حقيقة الموضوع .
في مجموعة ” أصابع العازف أو كصوت ناي بعيد ..! ” وخاصية البديل، ما يحث على الإصغاء، وثمة هوامش سردية بالمقابل.
القصص القصيرة جداً هنا، لا تخفي قدرة الكاتبة على نسج صوتها السردي، وتحديداً، ناحية التصوير، وتكثيف اللحظة، مثل ” يا للذل “دون أن تتخلى عن غواية الوصف كثيراً ( الدموع كانت تتسابق ، لتحظى بملامسة خديها الورديين، حين علمت أنه سيتركها ويذهب لغيرها، لم تحسم الأمر، بل كل كل ما تفكر به هو رجوعه لحضنها، وترى نفسها بالقرب منه، يا للذل حين يتعلق الأمر بالحب. ص 19 ) .
إنما هو مشهد قصصي، ربما نسمع به يومياً كثيراً هنا وهناك، والمزج بين السرد الذي يسمّي القصة، والسرد الذي يخص الكلام اليومي، يفقِد القصة توازنها، إلى جانب أن القاصة، وهي تشهر في الشرق، بوصفه شرق ذكورة، لا تظهر نقدها، ومن خلال القصة، لسلوكية المرأة نفسها، ودورها في تحفيز الرجل، الذكر، في أن يتمادى، وينظر إليها مقصَد لذة، ومنبع متعة وشهوة له .
وهو ما نتلمسه كثيراً في ” كصوت ناي بعيد “، العنون البديل للعنوان الرئيس للمجموعة القصصية، هناك الاحتفاء به، إلى جانب الافتتان، ولا تدخر الساردة جهداً في وصف ما هو إيروسي، دون ارتقاء به كمفهوم يحمي القصة من لغة الإنشاء، والدخول في التعبير المجاني، وتناسي أن القصة وهي بمحتواها الإيروسي، لا يُقصَد بها مجرد الإيروس، وإنما توظيفه ليتلمس القارىء ما يأتي به الإيروس، وليس ما يشغله شهوياً( كطفلة تغفو على حرير صوته، يهدهدها ويتغلغل في روحها كأنين ناي بعيد. شجراً شجراً يعزف بأصابعه على منحنيات جسدها ومنعطفاته أسرار رغبة جامحة… تبتسم بنشوة: أحبك… وتتابع الصعود معه، تطارد الغمام منتشية ، تصرخ باسمه… وميض نجمة يعانق ليلها اليتيم. ص 20 ) .
وفي السياق نفسه، ربما أمكن تبيّن ذلك، من ضمن ” أقواس الحيرة والألم ” وهي تضم قصصاً قصيراً جداً، تعلمنا ” فتى الأحلام ” بالمألوف ( يحس بنشوة غامرة تغزو مفاصله حين يتعرف على وجه أنثوي جديد. يسرع إلى أخذ رقمها ويبعث لها طلب صداقة على الفيس بوك… تتخيل الفتاة أنه بدأ يحبها، ومع مرور الوقت، يخبرها عن رغبته في علاقة معها، لكن الفتاة ترفض ذلك وتخبره بأنها تفكره رجل أحلامها، لتبدأ مشوار الحياة معه، يستشيط الشاب غضباً، يشعل سيجارة ، كردية متخلفة . ص 48 ) .
العبارة الأخيرة لافتة ” يشعل سيجارة كردية متخلفة ” إحالة إلى قفزة في المتخيّل، والتفنن في الكتابة،في الوقت الذي تظل هذه العبارة في حيرة من أمر نفسها في الموقع الذي عرِفت به، أي ما يخص السؤال عن مغزى ” سيجارة متخلفة ” وما يقابلها جهة ” سيجارة متقدمة “.
وفي ” خطوات ” هناك إضاءة لعالم طفلة كردية نازحة، خرجت مع أهلها مقهورة مع أهلها حيث احتل ” أوغاد الخليفة ” مدينتها ( وهم يكبّرون ” الله أكبر”، سالت دمعة على خدها الصغير المتقشب، مسحتها بظاهر كفها، وبخطوات منكسرة ، منكسرة عادت إلى خيمتها الباردة. ص 98) .
وهي تعبّر عن عميق الألم في مأساة قائمة، جهة واقع الكرد، إنما إلى أي درجة يمكن للمسرود أن يؤكد انتماءه إلى عالم القصة الفعلية، وهو بحمولته المدرة للمشاعر والأحاسيس وليس الخيال الفني الذي يدفع بنا إلى النظر بعيداً عما يجري، وليس بلورة المشاعر وحدها واستثارتها.
وفي مجموعة ” أدراج عالية… جهات عمياء “، وما يعنيه التعبير الآخر” جهات عمياء ” من تجسيد لما هو مقلق وصادم، يحال على ” أدراج عالية ” ويمكن ملاحظة توسيع لنطاق قصصها، جهة بعض الموضوعات، وهي تتمحور قصصياً حول أسماء أعلام ورموز كردية. دون نسيان ما يشغلها نفسياً، في إطار مفهوم الحب، ومن ذلك ما ورد في إطار” أنا أحبّك، بالكردية : Ez ji te hezdikim “، كما في ” 1:آخر الليل ” حيث نقرأ:
( يقترفني لذةً في الكلام:
سرٌّ ما يشدني إليك…!
لا أعلم على وجه العشق ما هو؟
لكن ما أنا على يقين به أن ضحكتك في روحي، لهي ينابيع تكسر ظمأ الظامىء، لهي أشجار أغفو في ظلها الوارف.
عاشقان بأجنحة من نور ..!. ص 6 ) .
هذه السردية، لحظة السؤال عنها، ماذا تمثّل في نسيجها الكلامي: قصة، وأي نوع، حكاية، وكيف؟ أم تراها سردية انطباع يتوافر بكم لافت من الأوصاف، وما في ذلك من سلبية تمثيل للفن المتقدَّم به من جهة الكاتبة، وهي تدفع بساردتها إلى أن تعيش حمّى الانصهار الشبقي معه.
ووربما هكذا الحال في “2: التئام !! ” ( أمس تمزَّق قلبها، كلما أرادت أن ترتقه بحنان الأنثى وصبرها، لا ينفك القلب يتمزق عميقاً، كما لو أن الياسمين النامي على ضفافه يكاد يفقد بريقه يوماً بعد يم!!. ص 7 ) .
وفي إطار أعلام الكرد، ثمة حضور لأسماء لافتة في مجموعتها: حامد بدرخان، رشيد كرد،قدري جان، عبدالرحمن قاسملو، نورالدين زازا، أحمدي خانيه” الصحيح : أحمد خاني “.
نتلمس متابعة وجدانية، لا تخفي بُعداً قصصياً، ولكنها ليست قصصاً، وتاريخياً، وهي ليست تواريخ، إنما ما يبقيها في نطاق الإنطباع الأدبي، كما في الأخيرة حيث نقرأ ( أربع لغات، بحار من الأسرار والأنوار، كان يغوص فيها الكردي أحمدي خانيه. أي لغة سيختارها لاصطياد الخيال شعراً؟ حليب الأم عسلي المذاق، لم يخطىء الهدف، سرَح الكلمات الكردية على إيقاعات صهيل دجلة ثم صقَّلها بورق أشجار الجوز ليصطاد عاشقين في وقدة العشق…أحمدى خانيه هدية الوجود للكرد ينشد حكمته على إيقاع مياه دجلة ولما…!. ص 83).
ذلك وصف جميل، ولكنه الوصف الذي يرفع من شان الشاعر خاني عاطفياً، عبر وصف متسلسل بالعديد من عبارات الوصف، كما لو أن الإكثار منها، تعميق لأثر الاسم، وارتقاء بمستواه، وبالتالي، فإن السرد مقلق هنا، وهو يتواجد مع جملة المقدَّمة قصصاً في البداية .
لازمة
ربما أثقلتُ على كاتبتنا القصصية هيفي قجو، ولكنها قراءتي، وتقديري لجهودها في معاناتها تجاه واقع المرأة، وشعورها بالانكسار الداخلي، إنما هو حرص يعنيني، حيث أنشغل به، وأسمّيه، وهو يتمثل في كتابة قد تصدم وهي ترى نفسها قاصة بكل معنى الكلمة، أو في وسط يثني عليها، وثمة حاجة إلى المزيد لتعيش عالماً قصصياً، بعيداً عن لغة الإنشاء، وإطلاق أحكام قيمية .
ملاحظة: أنوّه إلى أن المجموعات الثلاث التي توقفت عندها، تخلو من تاريخ الإصدار ” لا أعرف ما إذا كانت مطبوعة أم لا “، كما وصلتني من القاصة نفسها، وأشكرها كل الشكر على هذا التقدير، أولاً وأخيراً .