الارض الجريحة.. الحلقة الثالثة عشر

زاكروس عثمان

 
مرت الشمس من فوق شنگال، اعتصرت صدغيها بشدة، تذرف على الافق بقايا شعاعها الهزيل، تحاول التخلص من اوجاع رأسها، قبل ان تذهب الى المغيب، حتى لا يصاب الليل من بعدها بالحمة، لكنها حتى بعد المغيب ظلت تتأوه من الصداع، شاهدت صورتها المنعكسة على دموع گولي، لاحظت بان مَيلٌ اصابها ومنذ ذاك الوقت اصابها المرض، تبا لذاك الكون الذي يستمد النور من شمس معاقة.
هز الوجع صورة الكوردي الميتافيزيكي في خاطر سپاسکو، الليل المدفون في صدره يقهقه، والرماد يمسك بجدائل الصباح يجرجره خلفه من شنگال الى كوباني، والكوردي كأنه لا يشبع من جَلد الاخرين له ليقوم بجلد نفسه وجلد اخاه، قطيع ميتافيزيكي يهوى الثغاء، يعود من المراعي جائعا، دون ان يسأل الرعاة عن اسباب جوعه، الحمار يهز ذنبه من ألم الخيبة، والطريق يسد اذنيه لا يريد ان يسمع مزيدا من ترهات السائرين عليه، الدموع صادقة ولكن اصحابها كاذبون.
لم يجد سپاسکو فائدة في مجادلة احد، أخذ يتشاجر مع ذاته: انظر إلى هذه الارض، من جعل الأحياء فيها يتمنون ما ناله الموتى، لا تقل الاعداء بل انا وانت من نفعل ذلك، كفى كذبا، انت تكذب على نفسك وتخدعني، وانا اكذب على نفسي واخدعك، ونتوسل الآخرين كي يًخدعُونا، نحن قوم يلدغ نفسه، وحين تجعله السموم يشتهي الموت، يشتكي من الاعداء، مع انه العدو الاكبر لنفسه، لا تقل لي ان الخليفة سرق قمحنا، أن السلطان خطف خرافنا، أن الإمام يتآمر علينا، أن الضباع اعداء لنا، كفى.. نحن نكذب على بعضنا على ذواتنا، الاقطاب ليست عدوة لنا، نحن اعداء ذاتنا، نحن خصوم بعضنا، من شرد القوم… نحن، من صير القرية الى مقبرة… نحن، لسنا أبناء الجن، بل نحن أتباع المتغطرسين، السماسرة، ورجال كل من يبيع دمنا، نحن من نعبد ديدان كريهة تنخر شجرة التين، وتنخر عظامنا، ما من خلاص لنا سوى ان ننقرض، تبا لنا ومليون بصقة علينا.
تعب سپاسکو من الشجار مع نفسه، استلقى على ظهره، وقال: إلى الجحيم… لولا أننا نستحق الضرب بالنعال ما تسنى للبعوض ان يحيل بحيرة سموقيا إلى بركة دم، تبا لنا… تبا للقطب الذي لسانه معنا وقضيبه في طيزنا، تبا… للعالم، سأل زوجته إن كان لديها حبة صداع. 
الزوجة: البارحة استَهلكتُ علبة الحبوب كلها.
سپاسکو: الحبوب دواء وليست قضامة حتى تأتي عليها كلها. 
الزوجة: اعلم انها دواء, اتيت عليها كلها، ولم يخرج الصداع من رأسي. 
سپاسکو: انت مريضة. 
الزوجة: لا… ولكن جلست أمام التلفاز اشاهد ماذا حل باهلنا في شنگال فأصابني صداع. 
سپاسکو: وأنا كذلك… اذهبي الى الجيران رجاءا, واحضري لي حبة.
الزوجة: احدهم نصحني بحبة پنادول، كنت احتفظت بعلبة منه في البيت، هل تجرب واحدة. 
سپاسکو: حتى الكلاب تسخر منا… يا لنا من امة تعيسة، يعالجون اوجاعها بحبة پنادول. 
الزوجة: الپنادول… مهما يكن افضل من كبسولة كيماوي.
سپاسکو: پنادول في امك واباك… ايتها البقرة الا تجدين أن الپنادول والسيوف اشد وقعا من الكيماوي.
الزوجة: وفي امك ايضا. 
سپاسکو: وفي القطبين ايضا. 
الزوجة: وما شأن الاقطاب. 
سپاسکو: انها تشاهد ما يفعلون بنا وتبقى متفرجة.
الزوجة: وهل تنتظر ان يفعلوا شيئا اكثر من ذلك.
سپاسکو: كنت اظن أن فساد البركان سيقنع الاقطاب بتمزيق خرائط العجوز العاهرة, ويلتفتوا الينا.
الزوجة: هههههه… مسكين يا سپاسکووو.
سپاسکو: لماذا الـ ههههههه هل قلت شيئا مضحك.
الزوجة: ما لم تلتفت إلى نفسك لن يلتفت احد اليك, يا كبد امك, هم ذات الخبازبن ذوي الايادي الملوثة، بدمك يعدون العجين من جديد، يجبرون خاطرك، ويقولون انهم: حين يخبزون لن يحرموك رغيفا، لا تتهافت .. ايها الاهطل، لا فضل لهم عليك، لا تلقي نفسك رخيصا بين اياديهم، الطحين من عظامك، الملح في جرحك، هم اشعلوا التنور باكرا، الحطب ليس من كيسهم بل هو لحم بناتك وابناءك، والتراب ترابك، احذر لن يستوي العجين عاجلا، الخميرة مغشوشة، قبل ان يستوي الرغيف، بدمك سوف يغرقون ذئاب هم اطلقوها لتفترس خرافك. 
صمت سپاسکو، احضرت الزوجة له حبة پنادول, داسها بقدمه ولم يتناولها نكاية بالذي نصح ابناء الجن بتناولها، تمدد على الارض في باحة الدار، وفي عينه حلم شهي يذرف مرارة، انقلب صوته الى غصة مخنوقة بنبتة كاردي، تجاوز عتبات الصداع فلم يقوى على الصراخ، تخدر احساسه، استكان الغضب في خاطره، ليَغرق في سبات عميق. 
تمادى الظلام في غيه, اسقط القرية عن ظهر القمر, ومزق قميص نومها الذهبي, باعد ابو قتيبة الادلبي بين فخذي السبية, كشف عن فرجها, قرأ الفاتحة وضاجعها عنوة, ليفتح شرخا في مهبل الرسالات, صرخت السبية وجعا, استطاب الظلام ضربات قضيب الادلبي, فأزداد شراهة, صعد وهبط بقدر أنفاس الله, عبثا لم يبلغ الرعشة, سالت النجوم من بكارة القرية, حتى جفت السماء، استولى وحش على حلم سپاسکو, أذل الفضاء, لكنه لم ينتشي, النشوة لا يطالها قضيب ظالم, بل خفقة مشاعر, احتل الادلبي جسد السبية، لكن سيفه لم يستطع ان يخطف قلبها، أدرك الظلام نقطة ضعفه, ترك سپاسکو يغوص في سبات عميق، هربا من صحوة كسيحة تسوقه من انكسار الى انكسار. 
سدت آسيا بوابة قلبها بطين التعقل وغابت في نفق فرنسي الطراز، بعيدا عن سپاسکو، ما لها وجنونه وحروب قومه التي لا تنتهي، هو حب لذيذ إن تماهت فيه يضيع صغارها، ما من طريق امامها سوى ان تدفنه في قلبها، وتدفن نفسها في النفق، حيث اعتقدت ان المدافن تكتب نهاية الاشياء، مجنونة فاتها أن النهاية لا تطال القلوب التي بعد دفنها تنبت اغنية على شفاه المحبين، لمحت آسيا جرح معبودها، دون ان تقوى على فعل شيء، مدت يدها إلى رغيف حلم، احترقت أصابعها في جمرات المسافة، فأوجزت الوجع في عبارة ظلت ترددها: اريدك… نعم اريدك، جبل يتفتت بدواخلها، حتى اتقنت مرارة الصمت، لكنها لم تتقن حلاوة النسيان، خرجت من النفق تتلمس خيط ضياء ترتق به ما تركته العواصم من تمزقات في بكارة الكون، ولكنها لم تعرف كيف تلتقط رأس الخيط، راحت تناجي سپاسکو: يا عديمي العقل، النجوم من كربكم مذهولة تقضم انوارها، تريد ان تُلَّين رؤوسكم الصلدة، لكن الضغينة اسلاكها عمياء تقطع الطريق، صفيح الدهور ينصهر من جديد، القرية تشوى، القرابين تطبخ في قِدرِ المصالح، اقطاب الارض تنجب وحوش شرهة، تفترس الطرائد اليتيمة، اسمع ايها المعتوه ليس هناك صوت يعلو على صوت الابادة، عودوا الى رشدكم، حتى لا يحترق خبزكم، ويظل اطفالكم جياع.
عادت آسيا الى النفق تفتش عن حبة صداع، تقول لنفسها نحتاج حبة مسكن تخفف اوجاعنا، لكن الرجل البرتقالي، التنين الاصفر، الدب القطبي والبطة الشقراء، بحاجة الى حبة فياغرا تساعد ضمائرهم على الانتصاب، وقع حديث آسيا الى نفسها في اسماع سپاسکو، فراح يتحدث إليها في نومه: دعك من الفياغرا، وابحثي عن الرجل المريض في الوسط، انه يحتاج بحيرة كوكايين كي يخدر القبائل الهائجة في دماغه التي لا تعرف لذة سوى الغزو، لن ينتهي هذا المرض ما لم يُدفن ذاك الكتاب الصحراوي الذي كتبه الرعيان، حان الوقت كي يقرأ الرجل المريض في الوسط سموم جديدة غير السم الذي توارثه من رحم ناقة جرباء.
آسيا: انت مجنون حقا، تريد ان تهدي كتابا الى من ادمن السماع, العشائر لا تعرف الحروف فكيف تعرف القراءة، ومن يقرأ فأنه يحيل الكتب الى حروف متفجرة، انسى امرهم وان كنت تقدر فكر كيف تستطيع بالكتب ان تقنع ابناء الجن ان يعالجوا مرضهم المزمن.
سپاسکو: بت مريضا اكثر منهم، زوجتي تريد معالجة الصداع بالـ “پنادول” وانا ارفض.
آسيا: انت تركت صداع مزمن في قلبي… احتاجك الليلة.
سپاسکو: لم يعد هناك من يحتاجني.
آسيا: احتاجك، انا في عشقك مراهقة انهكها الحنين، تطلب لقاءك، حلمي لا يستغني عنك، انا حنين مراهق، حلم مراهق، جسد مراهق يضاجعه خيالك، انا مزاج مراهق لا يستغني عنك، يشاغب احتجاجا على غيابك، حين لا القاك احطم انوثتي، واضرب عن المسرة، يهجرني النوم. 
سپاسکو: احتاجك، اشاكس الله لأجلك، اهرب من وجع إلى وجع، ارسمك على التراب، احفر اسمك على الصدى، واسرق من خبز الجياع كسرة حلم اهديها اليك، ولكن! 
آسيا: و لكن ماذا… انا وردة يابسة بين طيات كتابك، قلبي الاخضر مثل قريتك تحت الاحتلال، لكنه ينبض ربيعا، احتاجك الليلة تعال خفف من هذا الصداع. 
سپاسکو: هههههه كلكم هكذا.
آسيا: يا مجنون… كلنا ماذا.
سپاسکو: قلوبكم معنا، انتم مهوسون بجنوننا وازبارنا، ولكن سيوفكم وعقولكم مع خصومنا، اسف حبيبتي صداعك مجرد حسابات في راسك، وصداعي قلق يفتت كياني.
القت آسيا نظرة على طفليها، والتزمت الصمت. 
هز مكبر الصوت في الجامع الكبير عرش الله، يعلن آذان الفجر، اجفل الطيور, وايقظ نصف اطفال عامودا من نوم عميق، تبرمت امهات من إمام احمق يفسد بزعيقه نوم اطفالهن ونومهن من عشرين سنة، ظنا منه ان صياحه نصف ساعة متواصلة سوف يسوق الناس الى الصلاة خلفه في المسجد، ختم الملا صياحه بـ ” الصلاة خير من النوم” فايقظ سپاسکو من نومه ليسمع جارته من فوق سطح منزلها تهدهد طفلها ليعود الى النوم الذي طيره الملا من عيونهم، وهي تقول: نكاية بهذا الأمام لن اصلي ابدا. 
خرج سپاسکو الى الشارع، المدينة تسبح في الظلام, نجوم ترحل متوجسة، ثمة اصوات ممزقة في شقوق الجدران، الشارع يرتجف بردا، الهواء يتصبب عرقا، جراد يأتي، فراشات تغادر، صمت يغلف المنازل، عاد سپاسکو الى غرفته، بحث عن شمعة لم يجدها، اشعل سيگارة وعلى وهجها اخذ يلامس ازرار الكيبورد، يكتب شيء، هو خائف من عتمة تتمدد في اعماقه، ترى هل يتسنى له نشر خاطرته قبل ان تلفظ بطارية لاپتوپه انفاسها الاخيرة، حتى تعرف جنيته انه انتظرها حتى الرمق الأخير من السيگارة.
يقين قديم يلازم سپاسکو، يخبره انه خُطف من ذاكرة اخرى، والقي به منفيا في جسد غير جسده، ثمة حنين الى ضباب غطى كيانه قبل ان يجد نفسه في رحم امرأة، هو يريد العودة الى ما قبل الضباب، يريد ان يعرف ماذا كان قبل ان يقع اسير الزمكان، استولى الحنين الى المجهول على عقله، واخذ يؤجج لهيب الرغبة بالسفر الى ذاته المفقودة، وليس امامه طريق للهروب من وجود هو ليس وجوده، فاتخذ الليل دليلا، والسهر رحلة الى حيث لا يعلم، ادمن سپاسکو رحلاته الليلة، طاب له التوهان بين وميض مجرات بعيدة، تلهوا على سطحها آلهة تغريه بالإصغاء إلى دخان يعلو اطلال روحه، ويتلمس تحت رماد الصدى جمرات نداء لا تنطفئ.
مع ان النوم بالنسبة له خيانة للسهر، صعد سپاسکو الى سطح المنزل، انضم الى زوجته واطفاله لينام معهم على تخت العائلة، قال في نفسه: عجيب امرنا نحن ابناء الجن، نأكل معا من صحن واحد، ونتشارك النوم على سرير واحد، ومع ذلك ليس بين الخلائق مثلنا في شقاق، اغمض عينيه والقى بساقه على جسد زوجته، يستعين بها عله ينام، اغمض عينيه وجد نفسه في حضن العاهرة الاولى عشتار يلعبان دور البطولة في مقطع بورنو، بعد انتهاء الفيلم صادف الاسكندر الكبير, واخناتون وزوجته نفرتيتي, وحين عرفت إنه كوردي غمرتها السعادة ورحبت به، ناولت الفرعون حبة منوم، وذهبت بسپاسکو خلف الهرم الكبير، تعد له شيشة من حشيش معتبر، امضى الاثنان ليلتهما لهوا ومجونا، ومع بزوغ الفجر، غطسا في النيل.
عاد سپاسکو من رحلته المجنونة الى سواد القرية، لينام ولكنه لم يستطع إذ انقلب ادمانه للسهر الى أرق, شيء ما يحرمه النوم, ارق يثقل مشاعره يهبط به الى الدرك الاسفل من الانزعاج, ولت ليالي السهر حيث كان سپاسکو يتسكع بمشيئته في الكون الشاسع, واقبلت ليالي الارق التي تجبره على التسكع في شوارع فيسبوك المقرفة الموحشة المقفرة، ليختنق في صحراء الكترونية قاحلة, تململ سپاسکو في الفراش، ايقظ زوجته، سألته: الا تعرف ان تنام. 
سپاسکو: واوو هل لحقتي بي الى هنا يا نفرتيتي.
الزوجة: انا زوجتك يا حظي البائس نفرتيتي خاصتك ماتت منذ الف الف عام، هل تنام وتسمح لي ان انام، ام انهض والقي بنفسي من السطح.
سپاسکو: من منا جرب ان ينام ليلة واحدة في الصحراء, ان لم يجرب احد فلنذهب ونسأل سندريلا شنگال عن فتاوى داهمت خصلاتها الشقر، عن زوبعة سموم خطفت نظراتها الخضر، وهي وحيدة في ليلة مثقلة بالعقارب.
الزوجة: اسمعُ طفل في مغارة يبكي هلعا من رياح مزقت السماء، مصيرنا دمعة تذرف من عين ارملة لا احد يسمع ايتامها الجياع، يعز عليها الخبز، تدعوا على الجميع، على جمعية لصوص استولت على طحين ارسله الخيرون لأجل ايتامها، تبتهل الى الله فلا يضع لقمة في فم طفلها كي يهدأ، سپاسکو لستَ وحدك من يحمل هموم القطيع دعني يا عاشق نفرتيتي انام. 
استكان سپاسکو لثرثرة زوجته متلذذا، حيث سمع منها ما كان يجب ان يسمعه منذ زمن، نعم الجميع يحملون هموم القطيع وليس هو وحده، انه مثلهم ايضا لا يعرف كيف يلتقط راس الخيط، حتى يرقع ثقب ازلي موجود في ادمغة ابناء الجن، ثقب تسقط منه احلامهم، ومنه ينزف مصيرهم، كثيرون حاولوا ويحاولون غرز الابرة في قلوبهم لتقطيب الجرح القديم، فلا ينالون سوى حيرة موجعة ونزيف جديد، وكيف يخاط الثقب ان كانت الابرة بلا خيط، الجميع يتوجعون من فقدان رأس الخيط، ولا احد يبحث عنه، اما وجع سپاسکو هو انه بحث عن راس الخيط، وحين لم يجده تخلى عن عقله، ها هي زوجته توبخه في الفجر لتعيده الى رشده، بقي يصغي اليها بشغف الى ان راح على وقع ثرثرتها في نوم عميق، كما كان في طفولته يغفو على حكايات امه. 
ارتفعت شمس الصيف في سماء عامودا، نهضت الزوجة بهدوء كي لا تفسد نوم زوجها المتعب، نصبت ستارا فوق التخت يقيه حرارة الشمس، نزلت الى باحة الدار تؤدي اشغالها الصباحية، بقي سپاسکو نائما على التخت فوق سطح المنزل، النهار نصف غائم قُبح شكله، جعل اجواء المدينة خانقة كما لو انها على ساحل البحر، اشتد وهج الشمس، احس سپاسکو بجسده تحت الغطاء كانه مدهون بدبق ساخن، نهض من الفراش مغمض العينين وهبط السلم يكمل نومه في باحة المنزل، نادت الجارة زوجته من خلف الجدار: الجو خانق اليوم، ماذا نفعل لا كهرباء ولا ماء.
الزوجة: لا مشكلة سوف نتحمل الى الساعة الواحدة ظهرا ريثما يُشغل بنگين آغا مولدة الكهرباء.
الجارة: الساعة الواحدة بالنسبة لسكان الحارة اهم بكثير من ساعة القيامة, موعدنا مع خالو بنگين اَحب الينا من لقاء الحبيب, حين اسمع هدير محرك مولدة الكهرباء، يقفز قلبي من مكانه فرحا، تنتابني رغبة شديدة في ان يضاجعني المعلم بنگين مرة عرفانا بجميله.
الزوجة: هههه معك حق بنگينو يستحق ان يضاجعنا، بفضل امپيراته القليلة، نُشغل دينامو الماء، الغسالة، التلفزيون وزوجي يُشحن بطارية لاپتوپه.
الجارة: ساعات ما بعد الظهيرة ننعم بهواء المكيف العليل، لولاه لاختنق اطفالنا من شدة الحر. 
حَوَلت شمس قبيل الظهر عامودا الى طنجرة ضغط, الاهالي يُسلَقون احياء فيها، فما عاد احد يتحمل نفسه، الشمس تذيب ادمغة الناس، والاوضاع تصهر نفوسهم، اجواء تُخرج الانسان عن طوره، نهض سپاسکو من النوم، بمزاج سيئ، لو ان شخص قال له: مرحبا، فسوف يوجه له صفعة، هو لا يطيق الدبق والعرق والحرارة، لهذا يقضي الصيف نصف عار بملابس داخلية, حين يتمدد يضع مخدة صغيرة بين رجليه كي لا تتلامسان تفاديا لمزيد من العرق, ولو تسنى له لفَكَك جسده قطعة قطعة ووضعها في البراد، كي يتخلص من الشوب والدبق.
 سمع ابنته تقول: اليوم جو عامودا مشنقة، فيما الزوجة تسأل بين الفينة والاخرى كم الساعة، وابنه الصغير يدخل ويخرج ينظر في الساعة، خاطبته اخته: لا تحاول اليوم عقارب الساعة لا تسير، في الشارع تصرخ العجوز زكو على حفيدها مانيكو: اذهب يا ابن الكلب انظر الى الساعة، كأنها اليوم لن تبلغ الواحدة, ترد ام خالد: يا ويلاه انها توا وصلت الى الثانية عشر, لم اعد اتحمل، قلبي يكاد ان يتوقف، وتصرخ الخالة مكية الخياطة عائدة من السوق: تبا لو عرفت ان الجو خانق هكذا ما خرجت من البيت، اليوم الدنيا نار، كيف استطيع الوصول الى البيت لا اعرف. 
دفع تَبرمُ نساء الحي من حرارة الطقس بسپاسکو الى الاحساس بالشوب اكثر، زوجته لا تستطيع الجلوس، تذهب من غرفة الى غرفة تنادي: اماه… اكاد اختنق، ابتاه… انفاسي تتقطع, يا ويلاه الن تصل الساعة الى الواحدة، اقترح سپاسکو عليها ان يفعلا مثل ما يفعل مشاهير السينما والرياضة بهذه الايام، كي يلعبوا لعبة صب سطل من الماء على بعضهما، قالت له: السطل لا ينفع اجلب برميل، لعب الزوجان بالماء حتى الساعة الواحدة، ساعة الفرج، الا انهما وكذلك سكان الحي صُدموا حيث تبين ان محرك بنگين آغا معطل، تحطمت معنويات الجميع، احسوا ان الحرارة ارتفعت من 50 الى 99 درجة، الزوجة: يا رجل فتش لنا عن حل، سپاسکو: يا روحي بدون كهرباء لا توجد حلول، هيا نعود ونلعب بالماء، الطفل: بابا… نفذ الماء من الخزان. 
 بدأ الجميع يختنق حقيقة، وكأن خمسة عشر سَلَفي جاثم على صدر كل واحد منهم، يخرجون الى باحة الدار تشويهم الشمس، يدخلون المنزل يخنقهم الشوب، نثر سپاسکو قطرات الماء المتبقية على ارضية الغرفة، تمدد عليها الجميع يرطبون اجسادهم, انتعشت طفلتهم الرضيعة وهي تعبث بالماء, تحبو نحو والدها لتضع رأسها على بطنه، تناغيه با بـ بـ با، عبثت بشَعر والدها قليلا ولكن الشوب اغضبها، ولأنها لا تجيد الكلام اخذت تبكي وتارة تضحك. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…