زاكروس عثمان
بعد موت السنديان وجد سپاسکو نفسه عالقا بين الوجود والعدم ما عاد متأكدا ان كان يتقن الحياة أم الموت، ها هو يسمع بكاء مياه سد ميدانكي بعد ان دنسه جند الخلافة، كما انه يرى نزيف الأفق بعد قصف الاتراك لمدينة راجو، لكن عقله لا يقوى على الحركة, الأرض تثقب اذنيها تريد الإصغاء إلى أي شيء عدا صمته المطبق, مقهورة تتعرى غاضبة تكشف عورتها, التراب ينكر ذراته المترعة قسرا بالأشلاء والعظام, والحجر ينوح ليس إعجازا بل ذهولا حين البسوه عنوة قميصا حاكته الشرائع من خيطان دم بارين, حجر ينفطر وقلوب تتحجر تحت القبعات تحت العمائم تحت الخطوط, هذه دنيا البعوض، ادرك أبناء الجن مسافة قلب ان الرسالات دجل وكذلك تقاويم تماسيح القلق، كافح ابناء الجن الافاعي السود حتى تنعم العواصم بالأمان، وكان جزائهم ان العالم جعل عفرين فريسة وقدمها لملك الافاعي كي ينكسر ظهر سپاسکو.
السماء تهرب من ذاتها، تترك خلفها أنجم اكتساها اليتم, قبل أن ترحل سمعت مروة حشرجة الجدار، هو أيضا مثقل بالشظايا والصدوع, يفتش عن مساحة خارج ذاته يريد أن يلفظ مروة خارج الكوخ قبل أن ينهار فوقها, صاحت مروة: أيها الله فَجر التنور ثانية ذاك المَركب الذي انقذ السعادين ما زال راسيا على الجودي، أيها الله أغرِقه ولا تنقذ احدا كي تنام زيتونتي بسلام.
حطمت الهزيمة فم سپاسکو، خدرت نظراته والقت بحواسه في جوف نملة نائمة، في سواد هلامي سمع حديث مروة إلى الله، تساءل اين تكون هل ما زالت جالسة في بيتها تنسج الشعر ام انها نزحت مع الآخرين اثناء سقوط المدينة في قبضة جيش السلطان، فكر سپاسکو فيما اذا كان الجنود كسروا قلم مروة كما كسروا ظهره، اشتاق لها مسافة، نهض قلبه ليسير إليها، لكن الشارع هوة قاتمة، مدَّ قدم الرغبة قيد أنملة نبحت مخلوقات الظلام، تشبث بثدي شمعة كان تركها خلفه كي تُرضع بيته قطرات ضياء بعد أن هـُجِرت الأنوار كلها, عاد القلب القهقرى إلى الشمعة تفقد ما علق بها من بقايا حياة, مسافة صرخت أدمع سپاسکو: احتاجك يا مروة, ولولا عناد شمعته ما أبصر سبيلا ليدون ثغاء أحرف تطلب من ضرع مخيلته حليب لقاء, تلا سپاسکو مسافة عشق كتاب مفتوح الجريان حتى يقرأ القاصي والداني حكاية عشق يموج مسافات عذاب.
الكوردي بحر يسبح فيه الجميع, نبع يشربه الجميع, كتاب الجميع يمسحون أحذيتهم بصفحاته ويختلفون في تفسيره ثم يتركونه كي ينهب الزمن الحكاية، لم يكن بوسع سپاسکو ان يعترف لنفسه بان ما حدث هو اسوأ حلقة في سلسلة احباطات يبدو انها لن تنتهي الا بانتهاء عمره، في طفولته اراد ان يكون ابليسا لكن جده احبط رغبته بفركة إذن كاوية، وحين اصبح بالغا اراد أن يكون غجريا ولكن امه الغت الهدف بدرس عن الوجاهة والوقار، في شبابه بات هدفه التلاشي في كيان امرأة عشقها بجنون، لكنها احبطت الهدف لتفوز بطاعة الوالدين، دفعته الخيبة إلى التخلي عن رغباته المعلنة، وقرر في سره ان يتخذ القلم رفيقا له لا يشاركه به احد، ساعده الصديق الجديد في تحقيق رغبته في انتشال جثث صرخاته الغريقة في اعماقه، وفي لملمة خيوط مشاعره المبعثرة، بات القلم عشا لأفكاره الشريدة، صدى لصوته المفقود، حتى وجد ضالته في القلم واعتقد ان المرشد الوحيد الذي سوف يدل اهل القرية إلى رأس الخيط هو القلم، لكن الرقابة كسرت قلمه، حينها اعتقد انه من الافضل له ان يكون مجنونا إلا أن الجنون في زمن الزرافة بات تهمة ايضا، حينها خيل لسپاسکو ان الكون لم ينشأ إلا ليكون مرتعا للخيبات، نهض القلم من جديد وبشر القرية بانهيار جدار برلين، وانكسار الصنم في عامودا، نهض طائر الرخ يحلق عاليا، قال سپاسکو لنفسه: واخيرا يبدو ان الله اطلع على مظلمة جدي وقرر ان يغضب قليلا، هذه هي امنيتي الخرافية التي انتظرها، الارض حبلى فلتلد بركانا زلزالا او طوفانا، ينقذ القرية من عفن الركون، لم يخطر بذهن سپاسکو ان سكرتير الغنم سوف يحرض البروق والرعود على اغتصاب القرية لتلد العناكب والخفافيش، احباطات متواصلة جعلت من سپاسکو كرة تقذفها الارجل لتسجل هدفا في شباك اللجوء، فيما هو على باب الكهولة ما عاد يرغب باي هدف سوى البقاء قريبا من ذكرياته النائمة التي لا يريد لها ان تستفيق كي لا تشاهد ما تبقى منه من اطلال و خرائب، عفرين ترتجف حنقا، غرباء يدخلون القرية يطردون الاهالي من بيوتهم ويستولون عليها، دخلاء يقفون على الباب يتهمون شجيرة الزيتون بالكفر، قال في نفسه: احيانا يكون الموت هدفا ليس من السهل الفوز به.
تمرد الحبر في قلم مروة وعاد ينبض خافتا، فيما زاد السماسرة من حدة النزاع فيما بينهم دون سبب، اصبحت الخلافات ضمانة لبقائهم واستمرارهم، تجار غشاشون في النهار عيونهم تقدح ثورة وفي الليل يبيعون امهاتهم للسلطان، هم من جعلوا ضمائرهم خارج التغطية حين سلخ الصعاليك عفرين وهي حية، بعد ذبح شجرة الزيتون عاد كل سمسار إلى دكانه يُحَمل غيره مسؤولية الهزيمة، ازداد الطلب على السماسرة مع تكاثر الخيبات وبتر الرغبات، باتت تجارة دكاكين السياسة رائجة.
سئم خليلو العتال من عمله الشاق الذي لا يدر عليه مالا وفيرا، قرر ترك مهنته وباع خرافه الثلاثة ليؤسس حزبا ويدخل سوق السياسة، تنافس كبار السماسرة على بضاعة خليلو، الذي باع نفسه لسمسار دفع له اكثر، من تلك اللحظة اصبح سكرتيرا لعشرين فأر مصاب بالتهاب الدماغ، اغتر السكرتير بنفسه واخذ يمشي وسط القرية وهو يتباهى ببندقية بمباكشن يحملها على كتفه، شاهد ظله يستطيل امامه على الارض، سره المشهد وخال له ان البندقية صيرته عملاقا، صدق نفسه بانه اصبح سكرتيرا محنكا تتسابق العواصم على كسب رضاه، ولم يدرك انه رقم تافه بين عشرات الارقام التافهة الاخرى التي اوجدها السماسرة القدماء لزيادة ارباحهم، لاحظ جليلو العربانجي ان اوضاع جاره خليلو تحسنت كثيرا حيث اخذ يرتدي طقما وكرافيتا وحذاء لماع ومعطف طويل، وان الناس تناديه استاذ خليل، اصيب جليلو بالغيرة فباع عربته وحصانه واعلن عن تأسيس حزب خاص به، عرضه للبيع فاشتراه سمسار منافس للذي كان اشترى خليلو، وما كاد يمضي شهر حتى تحسنت احوال جليلو ايضا، تجمع من حوله بضعة من القطط الشاردة، وحيث ان معلم خليلو منافس لمعلم جليلو وقع صراع مرير بين الجارين، وانتقلت عدوى الخلاف إلى الحارة فانقسمت الناس بين خليلو وجليلو، رغم ان اسميهما ينتهيان بحرف الواو.
اغلقت زوجة سپاسکو الكتاب، احبت ان تواسيه قائلة: ما بك محبطا هكذا هل هذه أول مرة نعود فيها إلى نقطة الصفر، تاريخنا كله خيبات وانكسارات، هون عليك يا عزيزي أنا قلقة بشأنك.
سپاسکو: عفرين على الصليب والانين في قامشلو وما زال جرح كوباني ينزف، هل هذا جزاء ابناء الجن لانهم خلصوا البشرية من خطاياها، من يضمن غدا ان احفاد الذئبة الرمادية لن يقضموا بدن القرية من جديد.
الزوجة: دائما يطيب لأبناء الجن الصعود على الصليب نيابة عن الآخرين، وننسى ان من يركب الصليب لن ينال مكافئة في هذه الدنيا بل جزائه عند الله، ليس من حقنا ان نعاتب البشرية فهي لم تجبرنا على صعود الصليب، بل نحن من نتعربش به تطوعا حيث رفعنا اليه الف مسيح بلا جدوى، نحن لا نحتاج إلى نبي بدين بل إلى رجل نحيف مثل غاندي يعرف كيف يفكك كياننا قطعة قطعة حتى يعثر على موضع الخلل فينا ليقوم بتركيبنا بالشكل الصحيح.
سپاسکو: نعم بدأت اشك في ان يظهر بيننا شخص قادر على العثور على رأس الخيط الذي سوف يدلنا على مواضع الخلل فينا، نحن نحتاج إلى خبير اجنبي حتى ينظف عقولنا من صدأ ينخر مداركنا ويسوقنا من انكسار إلى انكسار.
الزوجة: تلك الدودة الخبيثة المعشعشة فينا التي تتحدث عنها تنشط في النوائب, ولكنها في هذه المحنة تنشط كما لم تفعل من قبل، انظر إلى حمارنا كيف هرب إلى الذئاب وقدم لهم الطاعة مقابل ان يفتكوا بحصاننا، وكيف استعان الحصان بالقرود ليفشل مخطط الحمار، ولم ينتبه الاثنان إلى ان صراعهما سوف يقود إلى موتهما وفتح طريق القرية أمام الذئاب والثعالب.
سپاسکو: لم تعد اذى الخيانة تساوي شيئا أمام مساوئ اخطاءنا و غباءنا، مقرف ان تجدي أبناء البطن الواحد الذين تَحَمَلَوا بعضهم تسعة اشهر في كيس ضيق معتم، لا يتحملون بعضهم في هذه الدنيا الواسعة، شحتو يريد أكل محتو ومحتو يريد ذبح شحتو، هذه القذارة تفتح باب القرية على مصراعيه امام الوحوش، هذا ربيع غريب يجلب أشواك الصحارى إلى قريتنا ويقتلع زهورنا، الاقوياء يبدلون ثوب الكرة الارضية، ونحن نلهث كي لا ينسوننا في جيب الثوب القديم مثل كل مرة.
الزوجة: نحن عشبة نذرت حياتها للديدان فأكلت منها حتى تيبست، كنا اول من تتجرأ عليه الرياح لتلقي بقمحنا و زيتوننا بعيدا وحين هبت العواصف وجدنا اطفالنا جياعا، ماذا يمكن لحزنك أن يفعل هل الهة الاحزان تصحح اخطاء ارتكبناها نحن، يوما بيوم تزداد قناعتي بضرورة شد الرحال إلى المانيا.
سپاسکو: ليس هناك ما يسر الخاطر، دجاجاتنا لن تبيض بيضة ذهبية، والصيصان خاصتنا كتاكيت مزيفة تأتي من فقاسة البيض.
الزوجة: والديكة خاصتنا على كثرتها ابناء زنا.
تكاثرت القطط الشاردة واخذت بأمر من كلاب القرى المجاورة تتعارك فيما بينها، تأكل من لحم القرية وشحمها، وتترك فئران الفساد تقضم ارزاق الاهالي، عبثت القطط البدينة بالكرة حتى تشابكت خيوطها وازدادت تعقيدا، وضاع الرأس تماما، اصيب سپاسکو بإحباط شديد حيث اعتقد ان ابناء الجن باتوا قريبون من العثور على رأس الخيط، فاذا به حبل يلتف حول عنق عفرين.
هزيمة سلخت حواس سپاسکو صيرت معنوياته حطاما، هرب جسده من الالم ودخل جحر غيبوبة طويلة لم يستفق منها إلى ان سمع زوجته تتحدث عن الرحيل، نهر ملثم بالسكينة اجتاح كيانه جرفه السيل إلى مخاوف طالما تَهَرَبَ منها، حيث لم يملك الجرأة للتفكير بالرحيل، تكسرت احلامه بعد تجريد عفرين من ثوبها المزركش، حيث وجد نفسه عاريا في كف الانتظار، مع انه لم يبقى شيء يستحق الانتظار، بدى له ان كل ما يأتي سيكون سيئا.
تلوثت القرية بقذارة ربيع الرمال، وباتت كلمة خليلو وجليلو هي العليا وكلمته السفلى، خطر له ان يرحل دون ان يتأكد تماما ان كان يريد البقاء او الرحيل، سرت قشعريرة باردة في جوف سپاسکو، اخذ يمارس طقوس المكر بصمت حمار الحكمة, ترك القردة في حراك مزيف.
أسماء قاتمة تنثر الدولار واخرى تروي قصص “كواعب اترابا” شمت الكلاب رائحة كلبة مهتاجة، نبح تجار القرية وساروا خلف رائحة الدولار والجنة، اشعل المزيفون الجحيم احترقت القصيدة، القى سپاسکو جثتها في رحم السبات، عاشت القصيدة يتيمة وحين ماتت ظهر لها خمسة اباء، سارعت اتحادات الكتاب الى نصب خيم العزاء، لو قدر لها التوالد ثانية ستولد ميتة, حيث هَرِمَ الزمن وما عاد يتسع لقصيدة.
ثعلب يجول في خاطر سپاسکو لا يستطيع الراحة, وثعلب آخر يتريث ضجيج النهوض حتى يتجنب هاوية الرتابة, هو يريد غيمة تعطي الشعر وعد التجدد لتكون القصيدة قابلة للهطول في كل الفصول، وتجري مع الروح إلى دلتا الإرادة قبل أن تصب في أوقيانوسيا الامتناع, ماذا يريد سپاسکو هل يفكر في خط رجعة, انه مغناطيس القلب يجذب الشاعر إلى القرية.
فقدت الفراشات القدرة على حمل الطمأنينة إلى قلب سپاسکو، بالأمس حطمت الاستخبارات حواسه في غرف التحقيق، حين كتب تاريخ نحلة لم تلد بعد.
كشرت شمس الحماقة عن أنياب المنزعجين من أصابعه المخضبة بدبق نهد الحبيبة ودخان السجائر, اصابع ذابلة تلملم ضباب قضية في قصيدة غير قابلة للتلاشي، كي تغدوا الاشياء أكثر تشويقا حين تخرج من تحت جلمود المحرمات.
شجرة قوية متخمة بالزهور والثمار، تنادي عصافير تعبت من النفي والترحيل ان تعود إلى اعشاشها وترتاح، شجرة تحمل على غصونها إمارة لأبناء الجن تطعمهم مَنُّ وسلوى، تلف حسراتهم بأريج العناية، واليوم ترتجف عرائش غده خوفا من الوصول إلى محطة لم يتوقع وجودها، منقار حديدي يلتقط افكاره قبل ان تنضج، وابليس الحقيقة يؤكد له ان الغربة موحشة مثل اقبية الاستخبارات.
باعدت الحقيقة بين فخذيها تسرب الم لذيذ من كسها خلسة إلى حطب اللاشعور، اختلس سپاسکو نظرة إلى زوجته, حاول التحايل على بحر محظورات يموج في عينيها، انها تنتظر منه إجابة لم تستوي بعد، قال في سره هي تريد ان تستجوبني فيما اذا كنت قادرا على التخلي عن الأشياء الحية في كياني, يا لهذه الفوضى انها غير محايدة، المسافة بيني وبين الغربة موحشة.
رصاص مصهور ينسكب عنوة في جمجمة الزمن الآتي، يثقل كاهل حشائش الوصل, أشعل الشاعر القصيدة بزيت ذكريات آجلة كان خزنها في جدران ذاته، تقمص القصيدة ليلتقي بالحبيبة في ردهات الخيال, سار منتشيا بطقوس بوذية على طريق مُعَبد بالاحتراق, القى سپاسکو نظرة اخرى على زوجته انها لا تزال تنتظر إجابة، إجابة تصيره بخارا، فيما هو يخادع الشمس، يماطل بانتظار أي شيء ينقذه من الاجابة، حبال تَوَجس تسحبه إلى أعالي الضحك, صرخة تلقي به في مرارة الريح، نسيما يهب على جبينه الملتهب، ما يفعله سپاسکو هو انه يبحث في الغيب عن أسباب انتحار معلم الحكمة الذي صادف أجناس من كائنات اللامعقول، مكنونات دفينة محجوبة قسرا, تغري سپاسکو بمحاولة تلوين السماء بلون دخان الحريق المشتعل في خياله، برد رماد الحكمة وانطفئت جذوة الرغبة، وحدها اسماك الامل تابعت السباحة عكس التيار.
اشتهى الشاعر قصيدة انثى، وفي نظره كل انثى ديوان شعر، كل قصيدة فيه ذات خفية لم يلامس احد صدر أسرارها، هطلت القصيدة مستحلب نوازع تملئ ضرع الفكرة بخفايا الممنوع, عوضا عن الإجابة نسج سپاسکو صورة لفظية يكتنف عريها سراب سريالي، سمعت زوجته صدى نهيق محايد آت من هيكل حمار نبيل تذوق حنظل الترتيبات الإلهية, وانتحر في غابة لا مرئية دون أن يذكر اسباب انتحاره.
تلمس سپاسکو جسده امتد يده في فراغ قاتم وثقيل، سمع شيء يهوي في عمق ماورائي، فتح عينية وجد رأسه يلاحق علو سحيق يهرب منه، لم يستغرب حين وجد نفسه مبعثرا إذ توقع منذ زمن بعيد ان الحرب بين عواطفه وعقله ستقود إلى تفتت كيانه، اليوم انفصل الرأس، غدا ينفصل الجذع، وبعد غد سوف تنكر اطرافه بعضها بعضا ويذهب كل منها الى حيث لا تدري، لم يستغرب سپاسکو انه ما زال حيا رغم انشقاق رأسه عن جسده، لكنه انتبه الى انه لم يعد ملموسا حيث فُرِغَ من الزمكان، احس بألم فظيع، اراد ان يعلم اين يقف هو، هل ما زال في الوجود ام بات من العدم، قال لنفسه انا اتألم اذا انا موجود، ليس في العدم شيء ولا حتى الالم، الا انه لم يفرح بوجوده المنشطر فهو اشبه بالعدم، لكنه لم يرغب بالعودة الى وجوده القديم الممزق.
سپاسکو يسمع ملايين المُعَذَبين الهاربين من عذاب اوسع من الجحيم، من جحيم الحياة إلى فردوس الفناء، انه محتار هل يسير مع القطيع إلى حيث تنتهي الآلام ام يبقى في دنيا الشقاء، انحرف قلبه عن المسار ليسقط في باحة منزل روكسانا التي عثرت عليه في الصباح وهو يتصبب نبضا، سألته اين بقيتك، أجاب لقد انشققنا، بعضي راح الى العدم هربا من الالم وانا رجعت اليك، سألته روكسانا هل انشققت عن بعضك لأنك عزمت على الرحيل، تعال ايها المسكين كي احتفظ بك في صدري قبل ان تشم القطط رائحتك فتأكلك.
انشغل سپاسکو بالبحث عن رأس الخيط، بين زهور نزفت عبقا احمرا كي تصد العناكب عن سري كانيية، بحث بين قطرات عرق احمر روى تراب كوباني كي يكون ربيعها نوروزا، بحث بين دموع حمر حفرت اخاديد في وجوه اطفال شنگال ونسائها، لم يجد ما يبحث عنه بل تلقى ضربة في راسه جعلته يتوه عن نفسه، وحين فتح عينه وجد أن عفرين ضاعت، وانه مطرود من عمله وانه اكل ما بحوزته من اموال مع مصوغات زوجته، باتت الحاجة تهدده وما عاد يقدر على الصمود بوجه الغلاء، بعد كل هذا التشظي عجز سپاسکو عن التقاط كيانه، اخذ يسمع طنين ذبابة الرحيل بوضوح، لم يحدث له انه غادر القرية هربا من ظلم الطغاة، او طلبا للرخاء والمال، رغم القهر عاش فيها بأمان، رغم الفقر وجد فيها الماء والطعام.