الإرادة تحقِّق المستحيل.. فرج رمو قاهر الشلل

حيدر عمر

  كان ذلك عام 2002، كنت أحضر كورساً للغة الألمانية في أحد معاهد مدينة بيليفيلد، في أحد الأيام دخلت إحدى العاملات في إدارة المعهد إلى قاعة التدريس، وسألت إن كان بين الحضور من يستطيع إعطاء دروس في اللغة العربية. أجبتها: أنا. قالت من فضلك مرَّ على الإدارة بعد انتهاء الدروس.حين ذهبت إلى الإدارة، أعطتني رقم هاتف، وقالت: اتصلت بنا سيدة تسأل عن مدرِّس للغة العربية. ثم ناولتني قصاصة صغيرة عليها عنوان تلك السيدة.
اتصلت بها، وقلت: أنا مدرِّسٌ للغة العربية، وإدارة المعهد أعطتني رقم هاتفك وعنوانك. متى تريدين أن أزورك؟ قالت: إن كان لديك وقت، تستطيع القدوم الآن. من خلال ردَّها ولغتها ، تبيَّن لي أنها ليست عربية.
وصلت إلى عنوانها، بعد رنة الجرس، فتحت السيدة الباب، وأدخلتني غرفة، لأتفاجأ بوجود شاب في العشرينيات من العمر، ممدَّد على السرير. وقالت: هذا ابني، أريد أن تعطيه دروساً في اللغة العربية. قلت لها: يبدو لي أنك لست عربية، فقالت: نعم، نحن كرد من لبنان. 
سألت عن سبب رغبته في دروس عربية، أجاب إنه يريد أن يتقدّم إلى امتحان الشهادة الثانوية. نظرت إليه مشفقاً عليه ومكبِّراً طموحه في آن معاً. شاب مصاب بالشلل، لايتحرك منه سوى رأسه، ومع ذلك يتحدى الشلل، ويتقدم إلى امتحان الشهادة الثانونية الألمانية!. 
 كانت لغته العربية لا بأس بها، لذلك اتفقت معه على دروس في النحو فقط. دامت زياراتي له حوالي ثلاثة أشهر، آخر زيارة كانت للدردشة فقط، دامت حوالي ساعة واحدة، رأيت خلالها التفاؤل بادياً بوضوح في عينينه وملامح وجهه، وعند الوداع تمنيت له تحقيق آماله، وهممت بالخروج، فطلب مني أن أنحني عليه ليعانقني، ففعلت. ثم أهداني كتاباً في النقد العربي الحديث للدكتور محمد غنيمي هلال. 
بعد بضعة أشهر، اتصل بي هاتفياً، وتحدَّث معي بفرح كبير، يخبرني عن نجاحه وحصوله على الشهادة الثانوية الألمانيا. هنَّأته بنجاحه، وتمنّيت له التوفيق في حياته.
حينذاك كنت ساكناً في مدينة صغيرة قريبة من مدينة بيليفيلد التي يسكنها، ثم انتقلت إلى مدينة أخرى هي اشتادة بعيدة عن بيليفيلد  للعمل في التعليم معلِّماً للغتين الكردية والعربية في المدارس الألمانية، وكان انشغالي بالعمل سبباً لانقطاع التواصل معه. 
في عام 2018 دعتني جمعية ألمانية كردية لحضور حفلتها بعيد النوروز في العاصمة برلين. كان إعدادها للحفلة جميلاً ومرتَّباً ترتيباً جيداً ومبرمجاً في قسمين، الأول كان داخل صالة، مخصص للكلمات، ألقاها بعض إداريي الجمعية وضيوف من الألمان وغيرهم. والقسم الثاني لإشعال نار النوروز خارجاً  في الحديقة.
بعد انتهاء فقرة الكلمات، طُلِب من جميع الحضور الخروج إلى الحديقة. حينذاك قمت أنا أيضاً، وإذذاك سمعت صوتاً من خلفي يقول: “ماموستا لقد نلت درجة الدكتوراة في علم الاجتماع، ولجهدك في ذلك نصيب”. فالتفت، فإذا بالشاب فرج زمو على كرسيِّه المتحرك، ومعه مرافقه الألماني. انحنيت وعانقته مهنيئاً إياه بحرارة لم أهنيء أحداً بمثلها من قبل. ثم أكمل حديثه قائلاً “أنا أعمل الآن محاضراً في جامعة بيليفيلد”. لم أتمالك نفسي، فأدمعت عيناي فرحاً. شاب مشلول، ولكن طموحه يتحدّى الشلل وينتصر عليه بإرادته القوية، وينال درجة الدكتوراة رغم الإعاقة، ويصبح استاذاً محاضراً في إحدى أرقى الجامعات الألمانية. أليس هذا كافياً لأن تدمع العيون فرحاً به؟! وأليس هذا الشاب، الدكتور فرج رمو جديراً بأن يتَّخذه بناتنا و أبناؤنا قدوة لهم في حياتهم؟!
في عام 2019، تلقيت منه اتصالاً يدعوني إلى ندوة في جامعة بيليفيلد عن تجربته العلمية. تحدّث فيها أساتذة ألمان من جامعة بيليفيلد وغيرها، بعضهم كان قادماً من إحدى جامعات برلين. تحدّثوا عن تجربة هذا الكردي المتفائل والطموح، وعبَّروا عن انبهارهم به وبانتصاره على الإعاقة.  دامت الندوة حوالي ساعتين، صعد الدكتور فرج رمو قبل نهايتها على المنصة بكرسيِّه المتحرك الذي يحرِّكه بذقنه نحو الاتجاهات، لا بيديه اللتين لا تتحركان. وشكر الأساتذة والحضور، ثم قال:” بين الحضور في هذا المدرَّج شخص عزيز عليَّ، وله في ما وصلت إليه وفي وجودي هنا في هذه الجامعة جهد لن أنساه، إنه أستاذي حيدر عمر”. ثم ناداني لاعتلاء المنصة.كان عدد الحاضرين يفوق المائتين أساتذة وطالبات وطلاباً، وقف الجميع وصفَّقوا لأكثر من خمس دقائق، ثم تقدم نحوي بعض الأساتذه وشكروني للجهد الذين بلذته لهذا الشاب، قاهر الشلل.
وفي الختام أهداني الدكتور فرج رمو مجسّماً، كما هو بادٍ في الصورة، يعبِّر عن أن اجتماع الإرادة والتعاون يذلَّل الصعاب ويؤدّي إلى النجاح والانتصار. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…