زاكروس عثمان
جراد رمال الجنوب طوقت حقول حجل الشمال، بعد فشل أبناء الجن في العثور على رأس الخيط، تلوثت القرية بربيع مزيف سمم امنها, ذبح مائها جرح كهربائها، خطف منها الغذاء والدواء، بعد فشله في العثور على رأس الخيط اعتقد سپاسکو ان وجوده من عدمه سيان، بات عليه الانسحاب، ما عاد له لزوم هنا او في أي مكان، كلما يذبحون شجرة تأن مليون حبة زيتون في صدره، غابة أشواك تمتد في روحه تهاجم أحلامه, جليد حسابات يحرق أطرافه المتجمدة.
فكرة الرحيل تجفف مداركه، تطلق غيمة قلق في سماء النوايا, هواجس تدفع به إلى براري مصير مشاكس، يمشي في طريق ليس له خريطة, ليس في جعبته سوى نخاع حمار مجنون, بوصلة أبدية توجه حياته، القرية تهتز، سپاسکو ثمرة على وشك السقوط في مسافة جدلية تؤجج خيال يطالب بنقل الشرف من كس امرأة إلى مخ رجل.
اراد سپاسکو ان يختلي بنفسه، ذهب واستلقى بجانب الطريق، بعد قيلولة قصيرة استيقظ على صوت حمار ينهق في داخله.
الحمار: ما بك هربت من البيت ثانية.
سپاسکو: اه لو تعرف كم اوجعني الانكسار.
تَدَخَلَ الطريق وقال: كل الانكسارات موجعة ولكن ليس مثل وجع انكسار اجنحة حلم بدأ توا يطير في سماء الحقيقة.
سپاسکو: لم اصنع احلاما انما كنت افكر في تكنيس غرفة السياسة من قادة مزيفين كي القي بهم خارجا، وفي مسح الغبار عن مزهريات أميرة الجن.
الطريق: من اراد تربية احلام طائرة، عليه إن يكون حكيما، نظيف القلب، يقف مع نفسه وليس مع خصومه.
سپاسکو: اذا تصالح جني مع نفسه، يتسع كيانه ليستوعب ابناء جنسه سواء خالفوه او وافقوه.
الطريق: حين لا يكون الجني خصما لنفسه يمكنه ان يجعل الاحلام تحلق عاليا.
سپاسکو: كيف يصبح الجني حليفا لنفسه.
الطريق: حين يستطيع التلاقي مع جني آخر.
سپاسکو: المصيبة ان ابناء الجن يكرهون التلاقي فيما بينهم.
خفافيش ندم تعشعش في تصدعات سپاسکو ولا ترحل، مع انه لم يرتكب جرائم ولم يقم بأفعال مشينة قامت بها الالهة والجيران، ولم يقع في اخطاء وقع فيها اخوته، لكن المسكين يعاقب نفسه من حيث لا يدري لأنه عجز عن العثور على راس خيط تعبث به قطط الارض والسماء وهذا ما يشنق الامل، بقي سپاسکو رغم تصدعاته مشغولا بغبار قلق يحجب القرية عن أعين الله.
انتهت الذئاب من التهام خروف ابقته العاهرة العجوز في العراء بعيدا عن امه، غبار يلتهم السماء، سال دم الخروف ولم تشبع الذئاب، المياه خائفة من وليمة جديدة يعدها حفيد ارطغرل.
انزعج سپاسکو من نفسه، اخذ يتشاجر مع نسمة هواء تلامسه، وما يثير جنونه ان جنيته لم يخطر لها ان ترسل له كلمة او تسأل عنه، هو لا يعرف ان كان غاضب منها ام قلق عليها، لكنه في هذه اللحظة يعرف انه يكره الهواء والماء، لا رغبة له ليسمع او يرى او يشم، تأفف من بشاعة الحياة، من ابتسامة مزيفة بحجم بطيخة يجب عليه ان يرسمها على شفتيه كلما صادف بغل يحمل في عنقه بندقية كلاشنكوف.
سئم سپاسکو من دبور ارتياب يتحرش بخريف مشاعره, من مدرسته التي ما عادت تشبه مدارس, انزعج من زملاء له قرأ ضياعه في اعينهم, من طلابه الذين تحولوا في عينيه إلى وحوش صغيرة، ما عاد يجرأ النظر إلى الشوارع حتى لا يرى اناس وهم يأكلون بعضهم بعضا، سكون مقزز خيم على مدينة بيوتها صارت مقابر.
استغرب سپاسکو حين شاهد ئوسفو يمشي دون عربته، تلك العربة التي رافقت عمره وهو يبيع عليها الخضار، وهو الآن يمسك عكازة بيد ويمد اليد الاخرى يطلب حسنة، ئوسفو الذي كان يجول بعربته احياء عامودا ينادي بشغف على بضاعته تعالوا إلى الباجان.. الخيار.. الكوسا، وتجتمع النسوة حول عربته يساومنه على الاسعار، مع ان اغلبهن تأتين اليه ليس بغرض الشراء انما للخروج إلى الشارع هربا من رتابة المنزل في الصباح، فان اشترين منه انفتحت اساريره وان امتنعن سار بعربته وهو يبريبر ويشتمهن همسا، ساءت حالة ئوسفو في الاشهر الاخيرة، اخذ ينادي على بضاعته دون رغبة، الى ان عجز عن الرؤية ترك العربة، واخذ ينادي ليشتري عطف الناس.
سمع سپاسکو الملا ينادي على الصلاة دون حماسة، ذهب إلى ئوسفو وضع نقودا بيده وقال له: أيها الاحمق انت تصيح من الصباح إلى المساء كي يعطف عليك الناس بنقود قليلة، اما الملا فانه يقعد في الجامع مرتاحا ولا يطلق سوى صيحات قليلة في اليوم يحصل مقابلها على راتب، لماذا لا تصبح مؤذنا هل صوته اجمل من صوتك.
عاد سپاسکو إلى البيت لاحظت زوجته أنه ليس على ما يرام، يا لها من عفريته من اول نظرة عرفت ما به، قالت له: كفاك يا ولد اعقل واترك هذه الخرابيط، اجابها: لا يلزمني عقل اتركيني بهمي، اذهبي كي تكملي حشو المكدوس قدس الله طعمه وخفض سعره, ردت الزوجة منزعجة: انت حر، اجاب: نعم انا حر هيا دعيني لوحدي قبل ان اصب جام غضبي عليك و على ترمب وعلى مجلس الأمن الدولي، ثم عاتب جنيته التي لا تستطيع قتله ولا تستطيع ان ترد له حياته.
جاء المساء وما زالت السآمة تعتصر سپاسکو، خرج إلى سطح المنزل تمدد على التخت بانتظار وصول الكهرباء، سمع صرخات اولاد الحارة في الشارع، قال لنفسه، هؤلاء القرود لا يتعبون, خطر له ان يذهب للعب معهم، إلا انه اصبح خدرا كسولا لا يقوى على الحركة، أخذ يسترق السمع إلى نشرة الاخبار من تلفزيون جاره الذي يمتلك مولدة كهربائية، ترامب يضع خطوط حمراء… الاسد سوف ندافع عن… قال مسؤول كردي، دبابيس مكررة تنخر مسامع سپاسکو خطر له ان يطلب من جاره ان يغلق التلفزيون، قام بتمزيق طرف مخدته ليخرج منها قطنا وضعه في اذنيه، بعد برهة جاءهم ضيف، فتحت زوجته الباب، سمع الضيف يقول: ارغب التحدث إلى الاستاذ، رد عليه سپاسکو من فوق السطح انا لست هنا، قالت الزوجة للضيف هل سمعته يقول لك انه ليس هنا، انصرف الضيف، خرجت إليه زوجته تسأله: يا ولد هل انت هنا ام لا، اجابها وما ادراني ان كنت هنا ام لا، مضت عدة ساعات وهو على هذه الحالة، انتبه فجأة ان الدنيا اصبحت عاتمة للغاية، شاهد بضعة نجوم تتعرى وتلمع، مشهد ذكره بجنيته, ترى ماذا تفعل هذه اللحظة, ربما تطعم اولادها, لا لا انها ايضا تفكر به، قال في نفسه كم هو صعب حين تكون جنيتي ابعد من النجوم, لاحظ ان النجمات تنظرن إليه وهن تهمسن لبعضهن البعض: مسكين سپاسکو ماذا وماذا عليه ان يتحمل، كان الله في عونه من الجيد انه مجنون والا ما كان يتحمل كل هذه الثقوب, رد سپاسکو مسكينة هذه النجمات إلى متى تكنَّ معلقة في السماء دون ان تستطعن الصعود او الهبوط، ضحكت النجمات اكتر, وضحك هو على عبد العزيز بوتفليقة دون ان يعلم لماذا, تابعت النجمات الضحك واخذ سپاسکو يتسلى بإحصاء ضحكاتهم، كلما اخطأ بالعد عاد يعدها من جديد، تولد لديه احساس ان جنيته ايضا تحصي النجوم، تمنى لو يعرف أين وصلت بالعد, تعب وكذلك تعبت النجمات، كاد ينتهي من الاحصاء ولم تصل الكهرباء بعد، نعست النجوم واخذت الواحدة تلوا الاخرى تنام إلى ان انطفأت اخرة واحدة منها، هلعت زوجته وهي تشاهد الظلام كيف يلتهم السماء، قالت يا ستار كم هي مخيفة و بشعة العتمة.
اراد سپاسکو ان يكتب شيء عن النجوم، ان يثرثر على الانترنت مع جنيته، ان يتابع منشورات اصدقائه, لكن يا حسرة عاندت الكهرباء وقررت ترك المدينة في العتمة، فضل سپاسکو البقاء ممدا على التخت، وهو يجول بعينيه في بحر من الظلام، انه محتار هل يبقى صامتا ام يبكي كي تنهض زوجته وتسليه، هبت نسمات حلوة عانقت خديه وهو مستلق على ظهره يسبح في الظلام، حمل الهواء إليه نبيذ ذكرى خدرت جسده فراح في نوم عميق، وقتها وصلت الكهرباء، وحين استفاق هربت ثانية، اشتهي فنجان قهوة لم يجد ماءا, تذكر انه ترك جرعة في كأس على طاولة الكومبيوتر اخذها واعد قهوته، اشرقت الشمس في مزاج سيء, وبقيت العتمة كما هي وكأن الصباح لم يأتي بعد.
خرج سپاسکو وجلس على الرصيف، الناس مهمومة تذهب في مشوار عذاب كي تشتري خبزا، بيوت مغطاة بالخوف والحيرة، مر كلب داشر لم يعجبه شكل سپاسکو ولم يعجب سپاسکو بشكله، مزق الكلب كيس القمامة بعثر محتوياته لم يعثر على شيء يأكله، فرح سپاسکو لان الكلب المتكبر لم يحصل على عظمة، ذهب يفتش بقية الاكياس في الشارع، ظهرت امامه امرأة تغطيها اسمال مغبرة تجر خلفها طفلين، اخذت تزاحمه على اكوام القمامة، لم يجد الكلب ما يسد جوعه, جلس على مقعده ورفع رأسه إلى السماء، نبح نباحا يبعث على القشعريرة، حيوان تعيس قال لربه اني جائع، القى له سپاسکو كسرة خبز، خرج الحيوان من المدينة، ثم سُمِعَ صوت طلق ناري تبعه نواح كلب, بعدها سمع سپاسکو كلاب البلد كلها تنبح نباحا تشمئز منه النفوس، احس بالذنب لأنه لم يُعجَب بشكل الكلب القتيل، ارتفعت الشمس وازدادت العتمة، رياح تهب من كل اتجاه تعصف بالقرية تكاد تنزعها من جغرافيتها تعريها من تاريخها، تقلبات وجد ابناء الجن انفسهم في قلبها، ما عاد احد يدري ماذا يحدث، لم يتوقع سپاسکو أن يفر المطر إلى السماء، ويجف كل شيء، انوار تموت عطشا، انهار تحتضر تنتظر البلل، ارواح علقت في اجساد متيبسة، الشمس مريضة، وحده الظلام ينعم بالمطر.
اعتقد سپاسکو انه شرب جرعة تفاؤل زائدة، قال لنفسه القرية على شفا ثقب اسود فهل يكتب لها النجاة، حينها وصل المدرسة صادف زميلته تغادر باكرة سألها غادرت المدرسة باكرة هل انت مريضة، اجابت انها بخير لكنها ذاهبة إلى البيت لتقضي حاجة وتعود، تساءل كيف ننجو إذا كانت مدرستنا تخلو من مرحاض محرومة من الماء، غدا سوف ينقطع الطلاب عن الدوام وبعد غد المعلمات و المعلمين، ضحك ملك الظلام، فيما اعتصرت الشمس صدغيها بشدة، تذرف على الافق بقايا شعاعها الهزيل، صعد سپاسکو إلى الطابق الثاني وقف برهة في الشرفة يتابع حركة عربات عسكرية تركية على الجانب الآخر من الحدود، انتابته قشعريرة لا إرادية حين فاجئه احد الطلاب بسؤال: استاذ بعد عفرين معقول التركي يأخذ عامودا ايضا، اربكه السؤال حتى انه عجز عن القاء الدرس للطلاب، حاولت الشمس التخلص من الصداع قبل ان تذهب الى المغيب، حتى لا يصاب الليل من بعدها بالحمة، لاجئ شاهد الشمس في عرض البحر وهي تشكو الصداع، حيث انعكست صورتها على صفحة الماء، صرخ اللاجئ بوجه الموج: تبا لهذا الكون الذي يستمد النور من شمس معاقة.
عاد سپاسکو إلى البيت في اسوأ حال، حيث ما زال سؤال الطالب يهز كيانه، ولم يكد يرتاح من الصدمة حتى تلقى اخرى حين سألته زوجته عن الجهة التي سمحت للذئاب ان تنهش جسد خروف يتيم, هل كانوا رعيان مزَيفون ام المتغطرسون ام أن الذبيحة كانت هدية من النسور والدببة إلى السلطان، أجابها: اعرف شيء واحد وهو ان الذي افترس الخروف كان ذئبا رماديا.
حملت المسرة ألوانها وانسحبت تاركة المكان لموسم قاتم السواد، جلس سپاسکو مع نفسه يفكر كيف تحولت الحرية إلى طاحونة كونية، عشرات الناس يلقون بأنفسهم بين حجارتها، وآلاف اخرى تلقي ببعضها بعضا، وقبل ان يتسنى لمن سقط ان يكملوا صرخاتهم تطحنهم حجارة الرحى، فيما القاتل يستمع منتشيا إلى صرخات غير مكتملة، رياح مجرمة تطحن عظام أبناء القرية تجبر أحلام سپاسکو البنفسجية على الذبول، الرياح تصفر في كل الانحاء تهاجم المطر كلما حاول الهطول، اعتزل سپاسکو الناس وقرر الابتعاد عن حجارة تطحن عظام البشر، واكتفى بمتابعة البراكين من بعيد.
الحرب ما زالت مستعرة منذ سنين، رماح الجميع تشتهي تمزيق قرية جريحة نهش لحمها الذئاب، ليس امام المتغطرسين خيار سوى مقاتلة يأجوج ومأجوج، طارد ابناء الجن جنود الظلام في الكهوف والبوادي، نظفوا القرى من المغول، حتى ارغموا الصعاليك على الفرار من الجحور إلى وكرهم الاخير، انها المعركة جنود آهورمزدا هبطوا إلى الارض، خط المتغطرسون اسطورة وجعلوا باغوز مقبرة لجيش الظلام، هناك صعد المتغطرسون ظهر الجبل مرددين في مسامع حفيد ارطغرل نشيد “آي رقيب” معلنين سقوط دولة الخلافة الارهابية، بطولة تثلج الصدور لكنها لم تسعد سپاسکو الذي كان يتمنى تحرير عفرين بدلا من هدم جحور الضباع.
استشاط السلطان غضبا من المتغطرسون الذين طمروا احلامه وكسروا رؤوس كلابه في باغوز، لم يستطع سپاسکو التخلص من مخاوف تنتاب ابناء الجن، عيون تدمع قلقا، وجوه تتقطر يأسا، صرخات تنطق ضياعا، الجميع يتخوفون من أن الدماء التي سالت لن تكفي لتصحيح الخريطة، تتوجس من نفس العواصم ان تعود بهم مئة سنة اخرى إلى الوراء، يا لها من صدمة تكسر العظام.
جني يرسم امارته، بدم ابنائه بعرق جبينه بدموع زوجته بجوع اطفاله يخط مصير القرية، ثم تأتي العاهرة العجوز لتشطب احلامه وتقدم ما تبقى من داره إلى السلطان، اسئلة هائجة تجري بين عقل سپاسکو وروحه، تكاد تفجر قلبه، هل يكتفي حفيد ارطغرل بعفرين ام انه يريد التهام القرية قطعة قطعة، ويطرد ابناء الجن خارجها ليصبحوا لاجئين إلى الابد، صرخ سپاسکو هذا لا يحتمل، لم يكن بوسعه فعل شيء عاد يفكر بالبحث عن رأس الخيط، نهض في ساعة متأخرة من الليل وخرج إلى باحة الدار يسير جيئة وذهابا، تمنى لو يحظى بشيء اشد من الجنون يُذهب بعقله تماما كي تنتهي آلامه، فكر ان يكف البحث عن رأس الخيط، ونسي ان الخيط افعى عملاقة تلتف حول القرية تكاد ان تكسر ظهرها، لا فكاك منها ما لم يعثر على الرأس، وجد سپاسکو حاله كحال الذي يبحث عن إبرة في كومة قش، ماذا عليه أن يفعل هل يحرق القرية حتى يعثر على الابرة، قال لنفسه انها تحترق اصلا، تذكر كلام زوجة عمه حين اخبرته عن الاشخاص الذين قبله بحثوا عن رأس الخيط وماتوا كمدا لانهم لم يعثروا عليه، صمم ان يسير على دربهم حتى النهاية، إذ بدون راس الخيط لن يستطيع احد ان يرتق ثوب هذه الامة اليتيمة التي لا تحب نفسها ولا يحبها احد.
فكر بالأسود كيف اصبحت ملوك الغابة وجد ان سر قوتها ليس في ابدانها بل في قطيع يخضع لملك قوي، نعم حين يجتمع القطيع يستطيع الملك ان يقوده، من جانب آخر فكر في الوعول لماذا اصبحت فرائس وهي اسرع من الوحوش وجد ان ضعفها ليس في ابدانها انما في عراك أبدي بين تيوسها التي تتناطح حتى ينال منها الانهاك لتكون طعاما للثعالب والضباع.
ساء سپاسکو ان يجد في ابناء قومه اسود تتقاتل لكنه لم يرى بينها ملكا، ان يجد تيوس تتناطح ولم يجد بينها اميرا راشدا، قال في نفسه انها الدودة القديمة التي تعشعش في عقول كل فرد في القطيع وتبعثره، اخذ يسأل كيف تتخلص من الدودة يا سپاسکو أفندي كيف… كيف، تمنى لو يعثر على رأس الخيط ليربط به شمعة متقدة ينزلها في ادمغة بني قومه كي تنير عقولهم وتحرق الدودة او تجبرها على الفرار، لكنه لا يدرك السبيل إلى رأس الخيط، شعر ان دودة الاحباط تأكله من الداخل، اوجعته الحيرة، هرب إلى أطرف المدينة ينفس عن غضبه من نفسه ومن قومه ومن الكون كله، سلك دربا تسير عليه الماشية رافعا رأسه ينظر إلى السماء حتى صادفه احد الرعاة دعاه إلى الجلوس سأله مستغربا لماذا يمشي وهو ينظر إلى الاعلى، اجابه سپاسکو انه يبحث عن رأس الخيط، قهقه الراعي وقال له راس الخيط موجود ها هنا على هذه الارض، اما السماء فالمعارك هناك اشد ظلمة.
صرخ الراعي فجأة يا ويللي ما هذا انهض وانظر إلى الجحيم الذي حل بنا، نهض سپاسکو ليجد نيرانا عظيمة تشتعل في حقول القمح والشعير، لهيب جائع يمتطى ظهر الريح يقوده مسرعا من حقل إلى حقل يمد لسانه يلتهم السنابل، خرج الاهالي من قراهم يحملون معاول الود وفؤوس التعاضد واكياس مبللة بالرحمة، يقاتلون بها جيش من النار، لحق سپاسکو بالناس يكافح وحوش تحيل الحقول الذهبية في دقائق معدودة إلى رماد، نساء اطفال شيوخ و رجال يخوضون معركة غير متكافئة مع اللهيب، يخمدون بقعة هنا تشتعل بقعة هناك، النار تشوي جلودهم، وهم يتنفسون هواء السعير، لكنهم يتابعون القتال، نظر سپاسکو إلى الفلاحين لم يستغرب سلوكهم وهم يقدمون على التهلكة لإنقاذ سنبلة، حياتهم معلقة في كل حبة قمح وشعير، قال لنفسه يا لنا من امة مجنونة نحن ابناء الجن لا نستطيع ان نجتمع لا نعرف إظهار افضل ما لدينا إلا في النوائب، هل يجب ان تأكلنا النيران حتى نستطيع ان نحب بعضنا بعضا.
الارض تحترق رائحة شواء الحيوانات والاعشاب تملئ الاجواء، طيور تختنق في السماء وتهوي بين اللهب، توَشَحت القرى بالسواد، ورحلت النيران مخلفة ورائها اعمدة دخان تصعد إلى السماء، وتركت في قلوب الاهالي جذوة أسى مشتعلة.
عاد سپاسکو إلى البيت بلباس محترقة وهو خائر القوى محطم الجسد والروح، اغتسل بقليل من الماء لم يشتهي طعاما، طلب من زوجته منذ بداية المساء ان تتمدد بجانبه وراح من فوره في نوم عميق، إلى ان استيقظ صباحا على صرخات الاهالي واصوات السيارات خرج إلى الشارع ليستطلع الامر اخبروه ان الحرائق تأكل القرية من جهاتها الاربعة.
اخذ القلق ينفخ في ذاكرة الأهالي المتخمة برماد حرائق لم تشعلها السماء، بل اشعلتها ايادي الغزاة، ما تكاد القرية تداوي حروقها حتى يشعلوا النار في لحمها من جديد، تساءل حكماء الجن كيف تأكل النار ابنائها هل هي تعاقبهم لأنهم تركوا الشعلة المقدسة وتبعوا بعر البعير.
حقول تتأوه فراشات تبكي ودم كوردي يشتعل، كلاب السلطان يقتلون السنابل انتقاما لجيف باغوز، اصوات الجياع تتبعثر في عراء العولمة لم يأتي احد لنجدتها كي لا يغضب السلطان، بالأمس صد الكوردي الضباع عن البشرية واليوم يخوض بمفرده معركته ضد نيران اشعلتها نفس الضباع.
وقف الكورد بشجاعة يقاتلون بأيديهم بأجسادهم بغضبهم ودموعهم نيران هائجة، ضحى شباب منهم بروحه لينقذ سنبلة او فراخ طائر علقت وسط الحريق، نظر سپاسکو من حوله وجد نفسه وسط بحر من الرماد، بحيرة حسرة تموج في وجوه الأهالي الذين لم تبقي لهم الحرب اية أماني سوى حقولهم، الغزاة يريدون حرق القرية بناسها بدوابها بمائها، واليوم يحرقون حقولها التي ترضع أحلام الناس وتأتي لهم بالمسرة، شاب ينتظر الموسم كي يزف خطيبته، طفل ينتظر الحصاد كي يشتري لباس جديد، رجل بعد بيعه محصول الشعير يفكر بصيانة بيته المتهالك، ربة المنزل تجهز نفسها لتخزن اكياس من الحنطة مؤنة السنة، إذ يعرف الكوردي ان البيت الذي يتواجد فيه الحنطة اهله لا يجوعون، حيث تصنع الجدات من الحنطة اصناف شتى من البرغل، وتتركن اكياس اخرى لصناعة الطحين، ركل سپاسکو التراب المحترق برجله حيث أدرك ان حفيد ارطغرل ارسل من يقتل السنابل ويشعل قلوب الكورد كي يجوعوا ويغادروا ديارهم، لكن نيرانهم ماتت، عاد الدم يتدفق في العروق، ونهضت الفراشات من تحت الرماد تداوي الحقول الجريحة.