جَـارتـي الـعِـشـريـنـيَّـةُ

 إيـلاف مُـصـطَـفـى الـشَّـيـخ

جارتي شابةٌ في العشرين من عمرها ؛ تسكنُ في حيِّنا وشُرفتي مُقابلةٌ لشُرفتها ، أستيقظُ كلَّ صباحٍ على رائحة قهوتها الفوَّاحةِ ، راقبتُها ذاتَ مرةٍ من نافذة شُرفتي ، دونَ أن تشعرَ .
تدخلُ كلَّ صباح إلى مطبخها الذي يكادُ يبدو برَّاقاً من شدَّة نظافتهِ ، دونَ الانتباه إلى كلِّ رُكنٍ من أركان المطبخ ، تذهبُ وكأنها طفلةٌ تتراقصُ على أغنيةٍ ، يستمعُ إليها بائعٌ مُتجولٌ ، يمرُّ بجانبها صُدفةً ، تحملُ بكلِّ ثقةٍ دلَّةَ القهوة ، تملؤُها وشَعرُها المُجعَّدُ يزيِّنُها ، رقَّتُها .. بساطتُها .. بريقُ عينيها البريئتَين مصادرُ جمالها ، لا بدَّ أن تلاحظَها إذا حدقتَ فيها أو رأيتَها صُدفةً ذاتَ مرة ، فلا بدَّ أن تلاحظَ ذلكَ .
تشعلُ النارُ بقلبٍ يملؤهُ التفاؤلُ ، إنها تريدُ أن تبدأ يومَها الجميلَ في معبد حياتها ، من خلال المراسيم الفيروزيَّة التي اعتادتْ أن تقومَ بها في موطنها .
أجل .. نسيتُ أن أذكرَ لكم أنها من الحبيبة سوريا ، تضعُ دلَّتَها بكلِّ ثقةٍ ، لا تأبهُ لما سيحصلُ للماء ، وتتوجَّهُ إلى فنجانها لتزيِّنَهُ وتملأ كوبَ الماء ، لتشربَهُ بدايةً ، عندَما تبدأ أجراسُ المعبد بالرنين .
غلى ماؤها ، حملتْ علبةَ القهوة بيدها اليُسرى ، وحملتْ بكلِّ شجاعة الملعقةَ باليد الأخرى ، و ها هي تذرُّ القهوةَ على تلكَ الماء المُغليَّةِ ، فما أجملَ ذلكَ المشهدَ ! حيثُ إن كلَّ ذرة قهوةٍ تُعانقُ ذرَّةَ ماءٍ عِناقاً حميماً ، يكادُ يكونُ ملحميَّاً ، يغرقان في حبِّ بعضهما البعض ، حتى يتوها في فضاء حبِّهما لتنتجَ أجملَ فنجان قهوةٍ يُريحُ البالَ ، استعداداً لليوم المُنتظر ، لتعملَ .. لتنجزَ .. لتحرِّرَ .. لتبنيَ .. تفوحُ منها رائحةُ الهال الفوَّاح التي تملأ شوراعَ مدينتها صباحاً ( مدينة جارتي) ماذا تفعلُ ؟ لحظةً ، إنها تريدُ الجلوسَ على الشرفة حاملةً مِشعلها الموسيقي بيدها مُستمعةً لأغنية فيروز . 
آهٍ يا جارتي ! هل تتطلعينَ للعودة إلى موطنكِ ؟
تنحني لكي القاماتُ ، فلستِ بمُنافقةٍ ، لِمجرَّدِ أنكِ خرجتِ منها نسيتِها .
هُنا تحليتُ بالشجاعة ، وأريتُها نفسي ، تمنيتُ لها صباحاً جميلاً ، و قد سعدتْ بذلكَ ، ومن ثمَّ رجعتْ تسقي وُرودها الجوريةَ الجميلةَ ، قبلَ أن تذهبَ إلى المدرسة ، لتسعى في الحياة و تحقِّقَ ما تريدُ .
ألمانيا .. فرانكفورت .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم أمين مؤمن

ثماني سنوات مضت، تحوّلت خلالها الرحلة إلى صراعٍ صامتٍ بين الإنسان والفضاء. في أعماق اللاشيء، كان جاك يحدّق في اتساع الكون أمامه، حيث قطع حتى الآن 80% من المسافة نحو هدفه المستحيل: الثقب الأسود.

الشراع، ذاك الهيكل المعدني العائم، يمضي في طريقه بثبات، موجّهًا بحساباتٍ دقيقة من مختبر الدفع النفاث، حيث يجلس العلماء خلف…

غريب ملا زلال

عمران يونس، حكاية تشكيلية لا تنتهي، نسمعها بصريًا دون أن يراوغنا بمنطق اعتيادي. حكاية نتابعها بشغف “شهريار” لـ”شهرزاد”، وهي تسرد حكايتها كل ليلة. ولكن هنا، مع يونس، نحن أمام مدىً للعمق الإنساني الموجع حتى نقيّ الروح. لذلك، نجد مفردات الموت، الوحش، القتل، اللاإنسان، الخراب، القساوة، الجماجم، والقبور تفرض ذاتها في…

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية جديدة بعنوان “الموسوس” للكاتب السوريّ الكرديّ آلان كيكاني، وهي عمل سرديّ يضع القارئ أمام تجربة أدبية ونفسية شديدة الخصوصية، من خلال شخصية فتى مراهق يُدعى صهيب، يعاني من اضطراب الوسواس القهريّ، في مواجهة مجتمع متديّن ومحافظ، يخنق الفرد ويتوجّس من أيّ اختلاف.

تدور أحداث الرواية عن صهيب، وهو طالب متفوق…

فواز عبدي

 

إلى ابنتي سامان
التي علمتني أن الخطوة الأولى ليست جرأة فقط، بل حكمة أيضاً.

 

ثلاثة عشر عاماً مرت

كطيف من غبار الشمس على جبين الذاكرة

شمس منسية في ظلال قامشلو وأحلام عامودا

أسماء تنزلق كخرز عتيق من مسبحة الأيام

شمس تتسلل من بين أصابع البنات

تداعب وجه الماء

وتغوي الغيمات بالنزول

في منتجع ضم خطواتنا المتعبة

المسبح لازوردي

عين واسعة تحدق في السماء

أتذكر نظراتك…