رحيلُك مفجعاً كان، يا الصديق مثقف الكلمة جلال زنكبادي

 إبراهيم محمود

أعلمني الصديق الكاتب نوزاد دهوكي  في مكتبي البحثي في مركز بيشكجي للدراسات الإنسانية- جامعة دهوك، ظهر هذا اليوم ” الثلاثاء، 5-9/ 2023 ” أن صديقنا الكاتب الكردي الأشهر من أن يعرَّف جلال زنكبادي يصارع الموت، منذ أيام، وقد أصيب بجلطة دماغية في هولير. مساءً سمعت بنبأ رحيله. كان النباء مفجعِاً، لمن يرى في أهل الكلمة ما يستحقونه من تقدير .
كان هذا الإنسان الإنسان، الذي توفي في عمر ” 72 عاماً ” فهو من مواليد ” 1949 ” عاش طويلاً، كما عاش قصيراً. أما عن طول عمره ففي الذي جنَته روحه من روائع القول في الكتابة: تأليفاً وترجمة ( كان متعدد اللغات: الكردية” كرديته ، العربية، الفارسية، التركية، الإنكليزية )، حين يؤلف فكأنه رهَن عمره للتأليف، ليبدع فيه، شاعراً وناثراً، وحين يترجم، فكأنه لا يعرف سوى الترجمة، وهكذا كان، وقد جمع بين جهات شتى، وأما عن قصَر عمره، فلأن الألم لم يفارقه، وجرحه الكردي والإنساني كان يزداد عمقاً وإيلاماً مع الزمن، في وسط، بالكاد كان يعبأ به، كما الحال في مجتمع يكون الاعتبار الأول لمن يكاد يعدِم صلاته بالثقافة والإبداع، ولهذا، وكما أقدّر مات شهيد مجتمع من هذا النوع، وترك وراءه مكتبة ترثيه وكتباً تبكيه، فمن يستطيع ترجمة رثاء مكتبته، من يستطيع تفهّم حرقة بكاء كتبه ومخطوطاته؟
كان يصدم الكثيرين ممن حوله بصراحته، ويحدّثهم بلغة يصعب عليهم تقبّلها، والتجاوب معه.
كان فيه ما في الغد المرئي على بعد سنوات وسنوات، وأكثر من أفق بعيد، وهو ما كان الآخرون يتبرمون من كائن، أعنيه، ليس كأي كائن، من نوعه، من مورّثه الإبداعي الخاص شداً.
كان تعرفي إليه حين مجيئي إلى إقليم كردستان العراق، آذار 2013، تواضعه هو الذي كان وراء قدومه، ولقائنا، لتبدأ مسيرة تعارف من نوع آخر، لكل منا كان له انجراحاته، تواسينا معاً، وكان للصديق الكردستاني الكبير نوزاد دهوكي، الفضل الأول في هذا التعارف بالتأكيد .
لا أدري، بأي لغة وجع أنثر حول اسمه الكبير الكبير الكبير” بالثلاث ” كلمات تليق بقامته الجبلية، بروحه السهلية، بهدوئه المرئي، وعمقق روحه، ودقة حساسيته، بإنسانيته طبعاً، كيف يمكنني أن أوجز مسيرة سنوات، ومتابعة الأخبار التي تعنينا في الثقافة، ويكون العالم هو الجامع بيننا، هو محرّك أفكارنا، وملوّن مشاعرنا، ومعنا دائماً الصديق الأثير نوزاد الطيب الذكر؟
واحدٌ هو جلال زنكبادي، وأكبر من واحد هو جلال زنكبادي، كاتب أكبر من كم وافر من الكتاب الذين تأبى كتبهم الانتساب إليهم، مترجم قدير، دال على التفتح الإنساني فيه . جمْع غفير هو جلال زنكبادي، في خضمه الحياتي، مذ أبصر الحياة، ومن اللحظة التي فارقها وهو مثقَل بالآلام وهذا الجمع العفير الآخر هو رصيده الكتابي الذي يؤمّم له ارتحالات في جهات كثيرة، وهو يشكو متكلمي لغته، أو المحيطين به، ممن مثّلون مجتمعاً بأكمله حياة وموتاً .
لكم كنتُ أبصر في مرآة روحه ما كنت أغفل عنه في حالات وحالات، لكم كنت أنكفىء على نفسي، وهو يشكو إهمال ذوي ” الصيت ” له، لمكانته، لموقعه من الثقافة، لبيته، لمكتبته، وأنا أشعرُني ذلك النظير له، ذلك الذي يشكو من يناظرون من كان يشكوهم من نقطة الشكوى عينها.
وفي كل مرة كان يكبر في عيني. فالمبدع، أكبر من اللغة التي يتكلمها الكثير الكثير الذين يعرَفون بها. هكذا كان الكردي الإنساني عمقاً يتنفس بين جنبيه، والموهوب في عطائه الأدبي، والثقافي، وترجماته، كان حصاد عمر يمثّل كما يُسمي مجتمعات بأكملها. فيا لدقة روحه. يا لدقة رؤيته للعالم. يا لصواب روحه، وقد اختارت درب الآلام الكبرى ليزداد ثراء روحياً. يا لهذا اللامنتمي، بالمعنى الإبداعي، وطرق الحياة الواسعة، والمعنى الثقافي الذي يولد مع الحياة وفي الحياة مع كل نص مكتوب، وكل كتاب يؤلّف .
أتراني أستطيع إيفاءه حقه ، ولو في الحد الأدنى من التقدير والتعبير عما عرف به مناقبياً ؟
بالتأكيد، لا. لا. لا . وقولة : نعم، ضالة مضلة، في هذا المعمعان من المصاب الجلل والألم .
سيكون له اعتبار آخر في عالم آخر، في تاريخ يعنيه ويُسمى به. تاريخ يخلّده كما يستحق. 
عزائي إذاً لعائلته الكريمة، لأفراد عائلته، للكاتب المبدع، شاكر نوري ” أخو زوجته ”  لأهله، لأصدقائه، لأحبته، لكل الذين عاشوا في صوته، ومع كتبه ما تعنيه بدعة الكلمة الانعطافية .
عذراً أيها الصديق المبارك بروحه، بكتبه جلال، إن قصّرت في التعبير عما تستحقه من كلمات. تلك هي مقدرتي في التعبير عن لحظة فاجعة صادمة، تشير إليك، وتلك هي صراحتي، وكنتَ فيما كنت معروفاً به، تتكلم صراحة، وتعيش صراحة، وهأنتذا ترحل إلى الأبد صراحة ….
ذات يوم جمعنا هذا المكان الدهوكي الجميل،والراحل جلال زنكبادي من اليمين، وفي الوسط الصديق المشترك نوزاد دهوكي …

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم أمين مؤمن

ثماني سنوات مضت، تحوّلت خلالها الرحلة إلى صراعٍ صامتٍ بين الإنسان والفضاء. في أعماق اللاشيء، كان جاك يحدّق في اتساع الكون أمامه، حيث قطع حتى الآن 80% من المسافة نحو هدفه المستحيل: الثقب الأسود.

الشراع، ذاك الهيكل المعدني العائم، يمضي في طريقه بثبات، موجّهًا بحساباتٍ دقيقة من مختبر الدفع النفاث، حيث يجلس العلماء خلف…

غريب ملا زلال

عمران يونس، حكاية تشكيلية لا تنتهي، نسمعها بصريًا دون أن يراوغنا بمنطق اعتيادي. حكاية نتابعها بشغف “شهريار” لـ”شهرزاد”، وهي تسرد حكايتها كل ليلة. ولكن هنا، مع يونس، نحن أمام مدىً للعمق الإنساني الموجع حتى نقيّ الروح. لذلك، نجد مفردات الموت، الوحش، القتل، اللاإنسان، الخراب، القساوة، الجماجم، والقبور تفرض ذاتها في…

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية جديدة بعنوان “الموسوس” للكاتب السوريّ الكرديّ آلان كيكاني، وهي عمل سرديّ يضع القارئ أمام تجربة أدبية ونفسية شديدة الخصوصية، من خلال شخصية فتى مراهق يُدعى صهيب، يعاني من اضطراب الوسواس القهريّ، في مواجهة مجتمع متديّن ومحافظ، يخنق الفرد ويتوجّس من أيّ اختلاف.

تدور أحداث الرواية عن صهيب، وهو طالب متفوق…

فواز عبدي

 

إلى ابنتي سامان
التي علمتني أن الخطوة الأولى ليست جرأة فقط، بل حكمة أيضاً.

 

ثلاثة عشر عاماً مرت

كطيف من غبار الشمس على جبين الذاكرة

شمس منسية في ظلال قامشلو وأحلام عامودا

أسماء تنزلق كخرز عتيق من مسبحة الأيام

شمس تتسلل من بين أصابع البنات

تداعب وجه الماء

وتغوي الغيمات بالنزول

في منتجع ضم خطواتنا المتعبة

المسبح لازوردي

عين واسعة تحدق في السماء

أتذكر نظراتك…