زاكروس عثمان
انتهى الرجل من السيگارة القى بعقبها ارضا وداس عليه، وقال: اختلف ثلاثة اخوة امراء فيما بينهم على ابنة عمهم الحسناء، حيث ارادها كل واحد منهم زوجة له، ولأنهم لم يتفقوا على ان تكون الفتاة لواحد منهم، دفعهم الخلاف إلى ركوب المخاطر، حينها قررت الفتاة عدم الزواج من اي منهم ودخلت المعبد حتى تنهي الخلاف بينهم، هكذا خسر الجميع العروسة الجميلة.
سپاسکو: نحن انانيون اكثر من الامراء الثلاثة كل منا يريد العروس لنفسه وان لم يحصل عليها لا يجبرها على دخول المعبد انما يقدمها جارية إلى العدو كي لا يهنئ بها واحد من اخوته الآخرين.
الرجل: فقدنا عرائس كثر لا اعرف هل سنعيدها ام اننا سوف نفقد ما تبقى منهن.
هذا هو نفس السؤال الذي يربك سپاسکو، قال في نفسه ما هذا الرجل الغريب هل انا اشبهه ام هو يشبهني، فيما هو يفكر في الرجل شق صراخ طفل سكون المكان حين عض حقد السلطان جرحه.
الرجل: هل رأيت كيف يعيد التاريخ نفسه، ألم تسمع هذه الصرخة من قَبل في حلبچة.
سپاسکو: سمعتها مرات كثيرة، والمحزن ان اطفالنا يصبحون حطبا في مواقد الآخرين.
رفع الرجل كتابه وقال: سنظل حطبا ما لم يكن دليلنا هذا.
سپاسکو: انت محق هم سرقوا منا عقولنا وعلينا ان نعوض ما خسرناه بالقراءة.
الرجل: في السلم وفي الحرب القراءة ترشدك إلى الطريق الصحيح.
سپاسکو: لا تنسى ان القراءة تلجم الانانية التي تقف خلف معظم الكوارث التي تنزل فوق رؤوسنا.
الرجل: لن ابالغ ان قلت لك أننا نحتاج حكماء اكثر من البنادق.
سپاسکو: كيف.
الرجل: يحكى ان قبائل همجية خرجت من بطن الصحراء إلى اطرافها ودخلت في حروب فيما بينها على مقربة من قرية عامرة يقطنها احد الحكماء والذي دعا زعماء القرية إلى اجتماع حذرهم فيه من تمدد نار الحرب اليهم، دعاهم إلى الاستعداد لها، لكن الزعماء أجابوه ان الحرب بعيدة عن القرية، وإذا وقع المحظور فانهم سوف يهاجرون إلى اخوتهم في القرى الاخرى، قال لهم ان وقعت القرية لن يجدوا قرى اخرى يلوذون بها، إلا انهم لم يسمعوا مشورة الحكيم الذي اغتم لجهل ابناء قريته، لكنه نجح في جمع شبان من القرية وصنع منهم مقاتلين آمنوا بالأرض التي تثبت اقدامهم، بعد ذلك بدأت القبائل تغير على القرية تقتل وتسلب، هرع الزعماء إلى الحكيم يسألونه ما العمل، اجابهم بنبرة حزينة سوف تهربون وتأخذون معكم كل شيء إلا الشيء الذي يحفظ وجودكم لن تستطيعوا حمله على ظهوركم للفرار به، اذهبوا بدونه وذوقوا مذلة التشرد.
سپاسکو: ما هو الشيء الذي عجزوا عن حمله.
الرجل: انها الارض لا يمكن نقلها من مكان إلى آخر لأنها هي المكان، لهذا قرر الحكيم وفتيانه البقاء والقتال لانهم واثقون من ان ارضهم لن تعجز عن حملهم، اما ان يموتوا او يصنعوا معجزة.
سپاسکو: ماذا حصل لهم.
الرجل: زحفت الرمال حتى طمرت اطراف القرية، شَيَدَ الحكيم سدا عاليا من جسده واجساد مقاتليه عجزت الصحارى عن عبوره لتبقى ارض القرية خضراء رغم جراحاتها.
سپاسکو: ماذا حل بمن رحل.
الرجل: ما عادوا يمتلكون ارضا حتى لو كانت بقعة صغيرة ينصبون عليها خيامهم، وضاعوا حين ضاع منهم المكان.
سپاسکو: هذا ما يحصل لنا الآن نحن نفقد مكاننا، صرنا نازحين لاجئين، ولم تصمد سدود المتغطرسين امام رمال البادية.
الرجل: لم يشيد احد منا سدودا، ما هو موجود جدران حماقة قائمة على الاكراه، لن تصمد هذه الجدران لأن الضغينة تحفر تحتها، نحن نُسحَق بين مطرقة المتغطرسين وسندان السماسرة.
بدأ الجو يبرد سحب سپاسکو البطانية حتى غطت رأسه وبقي يستمع إلى الرجل بصمت إلى ان غلبه النوم.
في الصباح ايقظه الرجل ليطلب منه سيگارة، اعطاه علبة دخان، ثم ودعه وقفل عائدا إلى عامودا، جلس في الحافلة احس بكل شيء تغير، المكان مرعوب.. الحياة ايقاع مبحوح.. ظلال كسيرة.. اصوات مهزوزة.. حيرة تغوص عميقا في اعين الناس، انطلق السائق بالحافلة، قال سپاسکو في نفسه كل شيء ليس على ما يرام حتى هدير محرك الحافلة بات انينا، اسند رأسه على زجاج نافذة الحافلة يشاهد منظرا ظل ينظر اليه طوال عمره، لم يحدث له انه مل النظر إلى قرى صغيرة متناثرة على جانبي الطريق تضمها تلال ووديان برية ماردين، امبراطوريات بساطة لها اسرار مجنونة تبقيها خالدة، ربيعها يشعل السهول الوانا زاهية، عبق عندكو يغزو الارض والسماء، اطفال على مشارف قرية يلعبون الكرة يملئون الدنيا صخبا وشتائم ويكتمل مهرجان الصخب بثغاء الغنم، فتيات بين حقول القمح خرجن لقطاف الكعوب والقنيبر، افتقد سپاسکو هذا السحر، ما من صخب لأطفال ولا ثغاء للماشية صمت يسود القرى، عندكو يحتضر تحت اقدام الضباع، والمجنزرات تسحق الالوان، تمتم سپاسکو نهارنا قصير على مدار العام، واذا طال يصبح كاويا، ليلنا يبقى قاتما حتى لو كان مقمرا، شتاءنا برده مقزز ودفئه عطش، اينما حلَ التركي يحلَ الخراب، ونحن في كافة الفصول نبقى نيام إلى ما بعد الظهر لا تهمنا قتامة الايام طالما شموس سماسرتنا تشرق في نهارنا، واقمار لصوصنا تزين ليالينا، سأل نفسه غاضبا ماذا فعلنا كي نحمي انفسنا من فيضانات جائعة اتت لتفترسنا، لم نفعل شيء غير الغوص في جدال كاذب على مر السنين، نحن لم نقلق على اهلنا لم نخاف على قريتنا لم نحزن على شهدائنا ولم نتحسر على فقداننا لأرضنا، كنا وما زلنا نتعارك على عبادة هذا الحمار او ذاك الجحش.
نسي سپاسکو انه جالس في الحافلة فاخذ يتحدث بصوت عال، سمع الركاب حديثه وكان بينهم انصار للسماسرة وآخرون للمتغطرسين، سأله احدهم من تقصد بالحمار سأله اخر من تقصد بالجحش، اجابهم لا اقصد شخصا معين انا اثرثر مع نفسي، لكنهم لم يتركوه وقالوا له: انت تشتم قادتنا، وانهالوا عليه باللكمات والصفعات، توقف سائق الحافلة واخذ يبربر: تبا لكم لا تتعلمون ابدا، التركي على مقربة بضعة كيلومترات منكم وانتم ما زلتم تتقاتلون من اجل الحمير، نزل الركاب من الحافلة واشتد الشجار ونال سپاسکو نصيبه من الضربات والشتائم، إلى ان استطاع بشق الانفس التخلص من هؤلاء واللجوء إلى احدى القرى.
بعد هذه العركة استسلم للواقع واقتنع بان ابناء الجن هزموا شر هزيمة، وعرف لماذا فشلوا في انقاذ القرية من الغرق في الفوضى التي جاء بها السلطان، قال لنفسه نحن فقراء لا نملك عقلا ولهذا لا نملك لا قوة ولا مال، فيما خصومنا يملكون العقل والقوة والمال يعرفون كيف يشترون حلفاء اقوياء يحركون الجيوش، في حين اصدقاءنا لا يستطيعون تحريك دراجة، هل كان السلطان يستطيع ان يمزق القرية لو كان ضعيفا، او لو كنا نحن اقوياء، لا بد ان رأس الخيط الذي نبحث عنه هو صناعة العقول وبدونه ستبقى القرية ارض غزو.
اطلق سپاسکو زفرة طويلة وهو يسأل نفسه كيف يمكن بناء عقول في مجتمع مُدَمَر ينبذ المهندسين ويسير خلف حثالة دجالين، بالأمس توفر مهندس ولم يتوفر عمال متنورين فسقط المشروع، واليوم اصبح الهرم من اسفله إلى اعلاه تحت وصاية مشعوذين حلوا محل البنائين، شيء محزن ان تشع السماء والارض بأنوار الشموع فيما يغمض القطيع عينيه ويسير إلى الهاوية.
تغلب اليأس على سپاسکو، بعد تردد طويل قرر مغادرة الديار واقنع نفسه بانه كائن لا يضر ولا ينفع وان بقائه او رحيله لن يغير من الواقع شيء، حاول ان يواسي نفسه، ان يجد مبررات لرحيله، هل يريد الهرب من الحرب ام يهرب من فشله في تقديم خدمة إلى بني قومه، لكنه لم يجد سببا معينا يدفعه على الرحيل، بل غادر بحثا عن شبر من الأرض بمنأى عن الاحقاد والحرائق المشتعلة في العقول، أراد سماء لا تهطل رعبا، هرب من فوضى الفصول التي تحيل الشتاء صيفا وتقلب الصيف شتاء، ذهب يحلم بربيع يأتي في موعده يطرح ورود لا تفوح منها رائحة الدماء، ربيع امطاره لا تندم على الهطول، غادر الديار ينشد قوما لا احد فيهم يسأله عن عرقه ودينه وعن مقدار راتبه الشهري ولا احد يستجوبه إن كان يذهب إلى المسجد أم لا، ينشد ضابطا من واجبه أن يدق الباب ويبتسم في وجه صاحب الدار ويلقي عليه التحية ولا يدخل منزله دون استئذان، هاجر إلى نهر يغسل وجه المدينة كل صباح دون أن يفاجئها برأس مقطوع أو جثة محشوة بالرصاص، هاجر إلى شجرة لا تثمر قنابل بل تطرح كرز وتفاح.
تخلى عن منزله الجميل ليأوي إلى كوخ جدرانه غير ملطخة بشعارات وصور مقرفة، لا تتناثر أشلاء الأبرياء على زجاج نوافذه، لا تغتصب القذائف حرمة سقفه، او تراود قفل بابه مفاتيح عديدة في وضح النهار، و حين يخيم الظلام لا يغتال ضوء مصباحه مزاج أرعن، غادر الديار ليسمع احاديث عن الحب وثرثرة الشعراء، ويشاهد الناس يتعانقون في الشوارع، يدخلون الخمارات بلا خوف أو حرج، المهم بالنسبة له هو أن لا يسمع حديث الحرب، أن لا يشاهد القطط تتعارك على جثة فأر، وأن يتنزه في مكان آخر غير المقبرة ويعود إلى البيت وهو يحمل رأسه بين كتفيه، وان لا يعيش الكوابيس كلما كتب قصيدة، ابتعد عن الديار وعثر على رقعة يستطيع ان يركن دراجته في شوارعها دون ان يخاف عليها من السرقة.
هاجر سپاسكو وما كاد يمضي بضعة ايام في الغربة حتى استوطن نمل الندم صدره واخذ يقضم قمح امنياته، نهض من فراشه خرج الى غابة مجاورة حيث لم يشأ ان تشرق الشمس وهو مسكون بالنمل، من يدري لعلها تقضم الشمس ايضا، سار وسط غابة بليدة وهو يفكر بالخلاص من رقما يأسره قال لنفسه: انت هارب اذا ولكن الى اين يا لك من احمق تهرب من هروبك، ترى ماذا يوجد في الطرف الاخر من الغابة، ربما ليس لها طرف اخر، اخذ يسأل الاشجار ان كان في الطرف الاخر طريق يفهم خطواته، اشجار ثملة اشاحت بوجهها عنه لا مبالية، فتحت فروجها للريح منتشية ضاحكة، لم يستغرب بان الاشجار لم تستسغ سحنته لم تفهم لغته، إذ لو ان كائن ما في الكون اصغى اليه ما بلغ به الحال بان يهرب من الهرب، كف سپاسکو عن التودد الى اشجار شبقة ريانة مشبعة بالكوكايين، جلس يخمن ماذا يوجد وراء الغابة، مهما يكن الموجود هل سيصغي اليه، وما هي العاقبة ان لم يفهم نظراته او تظاهر بعدم الفهم وطلب مترجما ماذا لو طلب منه الرقم، قال لنفسه سأعود من حيث اتيت ان تسنت لي العودة.
هو ليس متأكدا من شيء، خائف من ان يقدم على فعل ثم يندم عليه، تمدد على الارض واتخذ جذع شجرة ميتة وسادة، انتظر قدوم الشمس ليمنع النمل عن اكلها، اخذته غفوة، تململ الجذع الميت تحت راسه وعض اذنه، اي حظ هذا حتى الموات لا يتحملونه، اضطر سپاسکو ان يزيح راسه عن الجذع ويضع ذراعه تحت رأسه حتى اخذه الخدر.
قبل ان يسلم نفسه للأرقام ثانية تذكر كيف انه في البراري المشرقة كان يطلق خرافه، يأخذ غفوة على تراب كان اكثر دفئا من حضن الحبيبة، عاد يغفو على عبق الذكريات من جديد ولم يدرك ان تراب الغابة لن يحضنه، بالت الارض عليه نهض مذعورا، انعطف عائدا الى شراك الرقم وهو يتشاجر مع نفسه على الطريق: يا لك من جحش تريد الهروب من الهرب، الا تعلم بان الهروب ايضا لا يفهم لغتك، وما ادراك هنا ربما لا يوجد هروب اصلا، هنا ان هربت لا توجد حدود كي تعبرها تهريبا، وتفرح بنجاحك في العبور دون ان يتكسر رأسك في سبع مواضع، الهروب هنا باهت بارد بلا مغامرات، ان اتجهت صوب الحدود لن تجد اسلاك شائكة تأكل من لحمك، هنا لن تنتشي بلذة الهروب لان حدودهم نسمات هواء عليلة، حواجزهم زهور وابتسامة على شفاه حسناء، لا توجد جندرما حتى يطاردوك على طرفي الحدود كي يقبضوا عليك ويرقصوا على جسدك، هنا لا توجد خنادق مثل ذاك الخندق الذي سقطت فيه في عتمة الليل ونجوت من الموت بشق الانفس ثم ضحكت مبتهجا بالخلاص، سوف تفوتك متعة السقوط في احداها، هنا لن تصادف تلك الحفر التي حُفِرَت في الارض والعقول، كي تسقط فيها وتضحك فرحا بنجاتك منها، سوف لن تختبر الغرق لان ذاك البحر الذي يبلعك و يلفظك على حوافه لا يوجد هنا، لهذا ايها الجحش هروبك من البراري المشرقة الى براري الارقام، ليس كالهرب من الارقام الى البراري، صحيح ان ابواب الحدود مفتوحة هنا لكن الهرب مسألة عويصة، هيا عد وتموضع في رقمك واشكر ربك بان رقمك ينتهي بعدد زوجي فغيرك من الهاربين قد ابتلاهم الله بأعداد فردية.
تشاجر سپاسکو مع نفسه حتى شبع، لكنه لم ينجح في خداعها وظل مصرا على ان البراري المشرقة هي الوحيدة التي تصغي اليه، اشرقت الشمس واخذ النمل يقضم من صدرها وصدره، اطلق صرخة يستنجد بجنيته الغجرية روكسانا التي كانت بقبلة منها تداوي آلامه، الا انها هذه المرة لم تجبه ولم تأتي لنجدته، قال في نفسه: هي ايضا هربت من المراعي الى رقم ما، لا شك انها مثلي عالقة في غابة بلهاء تريد الهروب من الهرب، ربما هي ايضا تصرخ لي ولا اسمعها ففي دنيا الارقام لا قيمة للصرخات، اتمنى ان يكون رقمها زوجيا.
لم يجد سپاسکو منفذا للهرب سلك طريق الدموع، عاد مع الغروب تمدد في فراشه، تبا لكل شيء الغطاء يقرصه.. الفرشة تتأفف.. الوسادة على السرير جذع ميت تعود الى الحياة وتشتمه، اجتمعت عقارب الحيرة في ذهنه، نهض وجلس على الكرسي غضبت اخشابه وقالت: انهض يا هذا لا نريدك ان تجلس علينا، فيما البراد يرمقه بنظرات غير ودودة، فكر ان يتصل بالبوليس ماذا يقول لهم هل يقول ان زجاج النافذة يعبس في وجهي ام ان الكتاب يغلق دفتيه حين اقترب منه ام … ام … ام يحدثهم عن روكسانا، هل يقول لهم أنني اتيت إلى هنا ابحث عن راس الخيط ولم اعثر عليه.
هذا إله الندم يعتصر جسد سپاسکو يسلب منه احاسيسه مشاعره وحياته، يبدو انه لم يتوافق مع الرفاهية، تلمس ذاته وجد انه ما زال يفكر بالعودة، دخان الغربة يفترس خياله وذهنه، يوم بيوم دمه يتجمد امام صقيع الجنة، قرر سپاسکو التفرغ للبحث عن السر الذي يجعل ابناء الجن مهرة حين يعملون للآخرين ويجعلهم عميان حين يعملون لأنفسهم، وبعد سنوات عدة وجد رأس الخيط مكتوب بيد استاذ جامعي على ورقة معلقة على باب جامعة في جنوب افريقيا، يقول الاستاذ: انت لست في حاجة إلى قنابل نووية، ولا إلى صواريخ طويلة المدى، لهدم أركان اي بلد، إذا كان التعليم فيه دون المستوى، وإذا كان قائماً على الغش، لأن هذا النوع من التعليم سوف يتكفل وحده بما تتكفل به القنابل والصواريخ، المرضى سوف يموتون بين أيدي الأطباء الذين غشوا لينجحوا، و المباني سوف تتساقط فوق رؤوس ساكنيها إذا كان المهندسون الذين أقاموها قد نجحوا عن طريق الغش، والمحاسب الذى وصل إلى وظيفته بالتعليم المغشوش سوف يبدد مع زملاء له من نوعيته ثروة البلد، بدلاً من أن يضيفوا إليها، والجهل سوف يملأ عقول الأطفال الذين سيجدون أنفسهم في قبضة مدرسين ما كانوا ليصبحوا مُعلمين في فصول الدراسة لولا الغش.
كان سپاسکو منذ البداية مقتنعا بان التعليم هو سبيل الوحيد لأبناء الجن الذي يوصلهم إلى راس الخيط، ارسل إلى باعة السياسة في القرية، يُعلمهم ان انكسارات امة الجن امام الخصوم ترجع إلى تخلفها في كافة المجالات، وان هذا التخلف نتاج انحطاط شيء واحد هو التعليم لان الجهل مفعوله أقوى وأشد فتكا من جميع الاسلحة، بدون تعليم لن تكون هناك قيامة لابناء الجن، ولن تكون هناك نهضة للقرية، نعم التعليم ثم التعليم ثم التعليم ولا شيء سواه أضمن لمستقبل هذه الامة المنكوبة التي بدون الامساك برأس الخيط لن تستطيع ان تنسج مصيرها لتبقى اسيرة إلى الابد.
دعا سپاسکو باعة السياسة واهالي القرية إلى ثورة تعليمية إذ بينت التجارب السابقة ان فشل ثورات ابناء الجن ترجع إلى افتقارهم الى التربية والتعليم، ولكن لم تلقي دعوته آذان صاغية من احد، البعض نصحوه بمراجعة طبيب للأمراض النفسية، والبعض الاخر الصقوا به تهمة العمالة، هذا هو حال البشر يكرهونك حين تحاول انقاذهم من الاوهام التي يغرقون فيها، يبدو ان البراكين افسدت القوم نهائيا، حيث اصبحت القرية مجرد شعار، وبات لكل شخص اهتماماته الخاصة.
اراد سپاسکو ان يكتب لكنه لم يجد ضياء شعلة كانت عادة توقد احاسيسه، ارتفع دخان قاتم في دواخله عوض عن الشعلة ليضع ساتر اسود بينه وبين وجوده، لاحظ سپاسکو بانه لا يستطيع ان يمسك بقلمه ما لم يكن موجودا على ارض القرية وفي ظل غيومها، لهذا انطفأ قلمه وانطفأ هو مع القلم، فيما بعد اصبح سپاسکو مفقودا وانقطعت اخباره.
سأل الاصدقاء والرفاق عنه لم يجدوا طريقا إليه ولا سمعوا خبرا عنه، لكن بعض القرويين قالوا: انهم سمعوا صراخا غريبا في الليلة التي شوهد فيها اخر نجم ينسكب في سماء القرية، في الصباح اجتمعت نسوة عند التنور تتناقلن فيما بينهن خبرا عن مشاهدة بعض النسوة شبحا يشبه سپاسکو ظهر ليلة الامس بعد سقوط النجم مباشرة، قالت احدى العجائز: ما بال اهل القرية يرحلون احياء ويعودون إلينا اشباح او موتى، متى يرحل هذا الربيع اللعين متى ينمو العندكو.
النهاية