أصوات هانوفر.

عبداللطيف الحسيني.برلين.


نتبادلُ تحيّةَ الصّباح بإيماءةٍ من الرّأس أوإغماضةِ وفتح العين.أربعةٌ
نحن:الرجلُ العجوزُ و زوجتُه وابنتُهما المنغولية.بتْنا ثلاثةً بغياب
الرجل نتبادلُ التحيّةَ ذاتَها كلَّ صباحٍ إلى أن استوقفتني المرأةُ
وتحدّثتْ معي بلغةٍ لا تشبهُ أيّةَ لغةٍ،وحين علمتْ أنّي لا أفهمُها
خفقتْ بيديها مشيرةً إلى السماء،فلم أفهم ،فأشارتْ عاليةً بإصبعِها
للسماء،فلم أفهم،إلى أن سألتُها عن زوجِها الذي تكرّر غيابُه كلَّ صباح
في هذه الأيّام، فعلمتُُ من خلال إيماءاتِها أنّه توفّي.فانتظرتْ وقعَ
الخبرعليّ….باتتْ تراقبُ عينيّ،فلم أخيّب ظنّها.بكيتُ بحرقةٍ دالّةٍ
على الانكساروفقدان الأمل والرجاء حتّى مسحتْ خضرةَ الدّمع بأصابعِها
النحيلة …المرتجفة.
…..
إنّها تعلمُ أنّ صوتَ وعينَ المرء يُظهران جوهرَه.
….
ربّما بعد أيام أو سنوات سنفقد نحن الثلاثةَ واحداً منّا،لكن الفتاة
المنغوليّة كيف ستعيش إن فقدتْ أمّها؟.
2ـ استوقفَني كَمَن يريدُ أن يبوحََ بسرٍّ..لأشاركَه فيه.تحدّثَ معي
بخفوتٍ ..فأدنيتُ أُذني إليه،أشارَ إلى الشّارع..فزاغتْ عيني شمالاً و
جنوباً…مستطلعةً إيماءَتَه،رفَعَ صوتَه..فغيّرتُ محيّاي تعجّباً،
تكلّمَ بعجلةٍ…ففتحتُ فمي وجحظتُ عيني مستفهماً.
….
تمرُّ على الإنسان حالاتٌ يريدُ خلالَها أن يتكلّمَ بحريّةٍ تامةٍ وأن
يبني صلاتٍ حرّةً مع الكائنات دونَ أنْ تَفهم أو تُفهم.
كان قد رأى حلماً ويريد مني تفسيراً وتأويلاً لحلمه.
“إن لم تقتلْني،فأنت مجرم”
يتحدّثُ عن كائنٍ ملأ البشريّةَ غابةً من الغموض. أيُّ كائنٍ هذا؟ إنّه
نفسُه مَن يقرؤُه ومَن يكتبُه. يواجهُكَ على صورةِ امرأةٍ يكتبُ لها
رسائلَ في دواخلِه.لكن هذه الرسائل لا تصلُها.فيُخفيها بين صفحات دفترِه
على شكل ملاكٍ يناديه دوماً في الخفاء حتى امتلأ الدفترُ بأوراق تحوّلَ
لونُها إلى أحمر..ثم أصفر. يسمعُ صوتَ تقصّف الأوراق بين الصفحات،
فيناديها سرّاً حين يعودُ إلى البيت وحيداً:
“إن لم تقتليني،فأنتِ مجرمة”.
حين يكبر المرءُ يتحوّلُ شكلُه إلى أشكال الطير والحيوان.جاري الإيراني
يقتني كلباً وبمرور السنوات بات شكلُه إلى كلبِه أقرب أو العكس.وجاري
الألماني بات أقربَ إلى القرد منه للإنسان.
ـ للتأكيد:المنشورُ ليس طعناً بآدميّة الإنسان ولا تحقيراً للحيوان.
فالقرد والكلب كلاهما يفرُّ من المرء.الفرق الوحيد بينهما أنّ الإنسان
يعرفُ أنّه يعيش ويعرف أنّه سيموت ، بحسب”هيدغر”.
 إنها شجرةُ التوتِ ،وهي آخرُ ما أدمعتْ عينيّ،خضراءَ كانتْ
أغصانُها.فكيف هي الآن وأغصانُها؟.
كنّا ملائكةً نستظلُّ بها في حرقة أيّامنا التي نتذكّرُها كلّما شاخَ عمرُنا .
كان الطيرُ يغرّدُ فوقَها بصوتٍ أحمرَ وأبيضَ وأخضر.
شجرةُ التوت تلك عمرُنا غادرْناها كما غادرَنا عمرُنا.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

كونى ره ش

الاستاذ آزاد عبد الواحد العزيز! بعد التحية والسلام.. يسرني حضور مهرجان (رامان) الثالث بمدينة هولير، يومي 17-18/12/2025، حول الحفاظ على الهوية الكوردية، من خلال الزي الكوردي: العمامة الكوردية (الكوم والكولوز). انعكست طبيعة كوردستان بتضاريسها الجبلية والسهلية التي يعيشها الكورد بألوانها وسحرها في لباسهم وزيهم، ويميزهم عن باقي سكان الشرق الاوسط، فالجبال والتلال لا…

ماهين شيخاني

كانت الكتب متناثرة على أرضية الغرفة كما جثث جنود بعد معركة فاصلة. وقف “شيروان” -زعيم حزب “التحرير الديمقراطي”- يتأمل خراب مكتبته كقائد يزور ساحة هزيمة.

في الأمس القريب: كان على منبر مؤتمر دولي مرموق، يلقي خطاباً عن “الديمقراطية التشاركية” و”حقوق الشعوب في تقرير المصير”، صوته جهوري، حجته قوية، إيماءاته تملأ الشاشات. قال للعالم:…

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…

نصر محمد / المانيا

-يضم صورا شعرية جديدة مبتكرة ، لغة شعرية خاصة بعناق ، تعانق الأحرف بالابداع من أوسع أبوابه ، انها لا تشبه الشعراء في قصائدهم ولا تقلد الشعراء المعاصرين في شطحاتهم وانفعالاتهم وقوالبهم الشعرية

-مؤامرة الحبر يترك الأثر على الشعر واللغة والقارئ ، يشير إلى شاعر استثنائي ، يعرف كيف يعزف على أوتار اللغة…