التلقائية والتدَبُّر

ابراهيم البليهي

الأصل في الإنسان أنه كائنٌ تلقائيٌّ أما التوقف والتروي والتدبر والاستقصاء فهو شديد الندرة ولا يلجأ إليه الفرد إلا إذا كان الموقف ليس معتادًا ويتطلب انتباهًا استثنائيا وفي هذه الحالة أيضا يكون التدبُّر تلقائيا حيث تحتشد طاقة الفرد تلقائيا لمواجهة الموقف الطارئ إن تفكير الإنسان وسلوكه وكل تصرفاته تأتي انسيابًا تلقائيا مما تطبع به وما اعتاد عليه فلكل فرد بنية ذهنية قاعدية أما معارفه ومهاراته فتتكوَّن لها أنماط ذهنية يكون تعدُّدها بتعدد معافه وهي تنساب تلقائيا استجابة لمختلف المثيرات ومن هنا تأتي الأهمية البالغة بأن يحرص الفرد بأن لا يستقر في قابلياته إلا بما يرضاه لنفسه. لو فطن المرء لنفسه وتابع ذلك يومًا بعد آخر لوجد أن مفردات حياته ما هي إلا تكرارات لكنه في الغالب لا ينتبه لهذا التكرار الأبدي: إنه اليوم يكرر نفس ما فعله بالأمس ويكرر غدًا نفس ما فعله اليوم وهكذا في تكرار أبدي لكن عقله يوهمه في كل مرة بأنه يتفاعل مع الحياة بمنتهى اليقظة والانتباه والتدبُّر والتجدد والفاعلية اللحظية. 
إن تحكُّم الفرد بتفكيره يتطلب مرانًا كافيا فالانسياب التلقائي هو الأصل أما التحكم بهذا الانسياب وتقنين حركته فليس تلقائيا وإنما يتطلب المران والضبط حتى يعتاد على ذلك فيصير التحكُّم تلقائيًّا وهذا منتهى النجاح في التدبُّر. ولأن السلوك يأتي استجابةً لأي مثير فإن الدكتور ستيفن كوفي يُقَدِّم قاعدة ذهبية لضبط التفكير والتحكم بمختلف المواقف فيقول في كتابه (إدارة الأولويات) :(( يوجد مسافة بين المثير والاستجابة وداخل هذه المسافة توجد قوتنا على اختيار الاستجابة المناسبة ….)) أي أن على المرء أن لا يترك الاستجابات التلقائية تقود حياته وتقرر مساره وإنما عليه أن يتحكم بالانسياب التلقائي وأن يتدبَّر ويتروى ثم يتخذ الموقف الذي يهديه إليه تفكيره المدقق ….
لم يكن ستيفن كوفي هو مبتكر هذه الآلية وإنما وجدها في أحد الكتب. يقول بأنه حين فتح أحد الكتب فاجأته هذه الملاحظة فعيَّرت مسار حياته فأصبح أحد مشاعل الفكر الذين كان لهم أثر واسع وعميق على أعداد لا حصر لها من مختلف الأمم …….

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…