أوراق خريفية

هند زيتوني| كاتبة سورية 

أيها الخريف…
الذي فتح أبواب سبتمبر وجاء يجرُّ أرجله الهرمة وظهره المقوَّس!  
كأنك تأتي كلَّ عام لتنهبنا وتملأ جيوبنا بثمار الفقد والهزيمة!
أعرفُ أنك تحتال على سلب البراعم وما تبقَّى من الزهر، لتحيل هذا الكون إلى لوحة  سوريالية ترسمها بريشتك… هناك أوراقٌ صفراء مضرَّجةٌ بحمرة الغسق وأخرى بنِّيَّة ملوَّنةٌ بدمِ التراب! 
آه من رائحة التراب المبلَّل… ينعش الروح والقلب.
أيها الكهل الجميل: جئتَ تحمل مرآتك لنرى فيها وجوهنا التي زحفت إليها التجاعيد 
هكذا ببساطة تساقطت أوراق العمر…
هكذا حملنا ثقل السنين وذكريات الأمس  
لقد تغيَّرَ كلُّ شيءٍ فجأة وبرفَّة عين…
هل نظرتَ مرَّةً إلى وجهك في المرآة، وتوقَّعت أن ترى شخصاً آخر؟ 
نحن لا نعترف بأعمارنا إلا في لحظات استثنائيَّة فقط…  
كما قال ميلان كوندليزا في رواية الخلود.
أيها الخريف العجوز:  الذي يقتلعنا من الضجيج والفوضى ويزرعنا في واحة التَّأمُّل لنستمع 
إلى وشوشات العصافير المهاجرة 
تستعدُّ لك الأرض لتخلد فيك إلى استراحة جميلة، حيث المقاعد الفارغة 
التي تتأمَّل ذلك الجفاف الساحر! 
والثرثرة العالقة في الفراغ التي تركها العشاق خلفهم  قبل أن يغادروا، والحيوانات التي تبدأ 
في سباتها الشتوي…
إنه لوقت مناسب لنا أيضاً لندخل في عزلةٍ مقدَّسة ونرتِّبَ أزهار الوحدة التي تفرضها علينا كآبة سبتمبر… 
علينا أن نستمعَ لأنفسنا، تلك النفس التي نتجاهلها  في كثيرٍ من الأحيان… علينا أن نراجعَ ما اقترفناه من أفعال سواء في السرِّ أو في العلن!
ننظر إلى الربح والخسارة، السعادة والتعاسة، الهزيمة والانتصار، لنعترف بأنَّ هناك دائماً أشياءَ تنقصنا، فنحن لا نستطيع الحصول على كلِّ شيء ولكن عندما نحصل على الحُبِّ الحقيقي نكون قد حصلنا على معجزة حقيقية.
  في الخريف… إنَّه لوقتٌ مثاليٌّ  لنطحنَ ما تبقَّى من ذكريات وهواجس مترسِّبة في قاع القلب لتتجدِّدَ أرواحنا. 
نحتاج كثيراً لهذه الوحدة لنتخلَّصَ من الأشياء التي تراكمت بداخلنا وبهتت ظلالها.
ننصتُ بإجلال إلى صوت حفيف الأوراق، أكاد أسمع خشخشتها في أوردتي، 
والريحُ تسحبها بعيداً 
 
كأنّك تأتي لتذكِّرنا بذلك الموت الشاحب، الذي يملأ بحيرات الغياب وما زال يشعر بالعطش،
وأنت أيَّتها الأشجار العارية! 
هل تؤلمك أصابع الخريف الهرمة؟ هل يحزنك تساقط أوراقك الصفراء كما تتساقط حبات المطر لتبتلعها الأرض؟
وهذا الضباب السرمدي المليء بالمتناقضات؟ 
أيتها الأشجار العارية هل تفتقدين السناجب التي كانت تتقافز على أغصانك والعصافير التي كانت تنام في الأعشاش بين أغصانك؟  
سمعت الشاعرة مايا أنجلو تقول: عندما تسقط الأشجار العظيمة في الغابات… تلجأ الكائنات الصغيرة  للصمت وحواسُّها تتآكل من الخوف. 
 
أيها الخريف الكهل: لا أعرف لماذا تنهض فيكَ كلُّ الذكريات الدافئة التي خبَّأها القلب في مكان عميق؟ 
فأنت تتَّكئُ على هشاشة الوقت وتستدرج حكايات الصيف ولقاءات الربيع الماضية، ورغم كلِّ هذا اليباس الذي يحاصرنا توقظُ في الروح الحنين وتأجج في القلب نار الشوق.
هل تعرف أن كلَّ الأوراق التي كتبتها وكلَّ الدفاتر التي أهرقتها بالحبر قد لا تغطي روحي العارية؟ ولذا يجب عليَّ أن أستمرَّ بالكتابة 
تلك الروح تحتاج الكثير من القصص والقصائد والكتب المثيرة
لتنعم بالامتلاء وتشفى من آفة الجوع  والقلق.
وأنا أحاول أن أحوِّلَ القلق إلى حقل من الازهار، كلَّما قطعت زهرة تلاشت مخاوفي وشكوكي، كلما أكتب أتذكَّر كلمات الكاتبة مارغريت دوراس  
(بالكتابة نلتحق بوحشية ما قبل الحياة 
لا يمكن أن نكتب من دون قوَّة الجسد لا بدَّ أن يكون المرء أقوى من ذاته والكتابة ليست فقط ما نكتبه بل هي أيضاً زئير الوحوش في الغابات وعويل كلِّ شيء وصراخنا أنت وأنا ونباح الكلاب وهي الألم وهي المسيح، موسى والفراعنة وجميع اليهود، وهي أيضاً السعادة الأشد عنفاً)
   
أيها الخريف الجميل:  
أعرف جيِّداً أننا لسنا مضطرين أن نحبَّ كلَّ شيء في هذا الكون 
ولكن دعني أعترف بأنني  أحبُّك جداً… أحبُّ غموضك الجارح ومعطفك القديم 
حتى أغصانك العارية تثيرُ إعجابي! هل تعلم ؟
 لو كنت رجلاً لتزوجتك، ولأنجبت منك الكثير من الاشجار المثمرة 
بالقصائد، فأنت تلهمني كي أكتب، وهذا يعني أنك تمنحني حياةً حقيقية، مليئة بالشغف 
أيها الفصل الأثير الذي لا يكفُّ عن مشاكستي  
ها أنتَ تذكِّرني الآن بلقائي الأوَّل وعندما سألت حبيبي مرةً: هل ستبقى تحبُّني حتى لو أصبحت مسنَّة؟ 
فأجاب على الفور: سأظل أعشقك حتى ولو تجّمعت في وجهك كلُّ تجاعيدِ النساء وكلُّ يباس الخريف!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…