حين توهّمت أني شاعرٌ..

خالد جميل محمد

قبل أربعين عاماً، حين كنتُ في العَقد الثاني من عمري، شابّاً أتوقَّد حماسةً، واندفاعاً، وعنفواناً، إلى جانب عشرات المواهب في (كتابة القصة والمسرح وسيناريوهات الأفلام، والموسيقا والغناء وعلم النفس والفلسفة،…)، زارني شيطان الشِّعر، فاعتقدت بما لا ريبَ فيه، أنّه قد أصابَ الهدفَ إذ اختارني لموهبة تَيَقَّنتُ حِينَها أني سأغير بها حركة التاريخ والمجتمع والفكر الإنساني، وأعيدُ ترتيب الأوضاع في هذا العالم الذي تعتوِره الفوضى وتغزوه التُّرَّهات، ثم تبيَّن لي لاحقاً، بعد أن اطّلعت بجِدّيّة وموضوعية واتِّزان ونضجٍ على الإبداعات الشعرية الكُردية والعربية والأجنبية العظيمة، والآداب العالمية الخالدة، أنّ ما خطر لي حينها، ما كان إلّا وهماً انشغلت وأشغلتُ نفسي وأحبَّتي والمُقرَّبين مني به، فآثرت أن تكون تلك التجربة لَبِنةً في بناء شخصيتي الثقافية والمعرفية والأدبية، وأعلنت بيني وبين الشِّعر طلاقاً بائناً، ورغم ثقتي الكبيرة بكفاءاتي اللغوية والتعبيرية والأسلوبية، واطّلاعاتي الواسعة في هذا المجال، كما أدَّعي، بحكم اختصاصي في الأدب العربي دراسةً وتدريساً ومحاولاتٍ كتابيةً، أدركتُ أني لا أصلح لأن أكون شاعراً، وكنت شديد الصراحة والصدف مع نفسي.
في هذا المقام، وأنا أرى الساحة يغزوها آلاف (الشعراء) الذين يزاحم ألوفهم ألوفاً، ولا يزالون في ذلك المستوى الهابط الذي بدأتُ به أوهامي الشعرية تلك، إذ كنتُ مراهقاً يافعاً، أنافح عن ركاكة ما كنتُ أعبث بها من كلماتٍ أزعم أنها شِعر عظيم خالدٌ لا يَطالُه النقدُ، فأتساءل بيني وبين نفسي: لماذا لا يمتلك المتسلقون جدارَ الشعرِ وهُمُ فقراءُ في اللغة والتعبير والأسلوب، تلك الجرأةَ التي امتلكتُها قبل أن أبلغ عامي العشرين، وتخلّيت عن تلك الأوهام، وبحثت عن مجالاتٍ أُخرى قد أبدع فيها أو أكتفي بأن أكون قارئاً لا أكثر، لئلا أتسبَّب في تخريب الذائقة الفنية والجمالية لجمهورٍ صار يكره الشعر من وراء هؤلاءِ الذين يصرّون على الاستمرار في الزعم بأنهم شعراء وهم لا يجيدون أبسط قواعد الإملاء والنحو والصرف، ولا يعرفون من الشِّعر وأصوله وقواعده سوى تقليدِ نماذجَ اهترأتْ من كثرة ما قُلِّدتْ واغتُصِبتْ وانتُهِكتْ حُرُماتُها، دونما رأفة.
في منتصف العقد السادس من عمري أعود متأملاً تلك التجربة الفاشلة التي مررت بها، وأربطها بواقع الحال، فأرى أن ما تكتظُّ به ساحتُنا الأدبية عامة والشعرية خاصة، ومهرجانات (الشعر)،  ومسابقات (الشعر)، والجوائز الشعرية، ما هي إلا تجاربُ فاشلة لن يُكتبَ لها ولا لأصحابها أي خلود، بل هي دوران في دَوَّامة عبثية تنمُّ عن إخفاق عظيم، آمل أن نجد من يجرؤ على إعلان طلاقه البائن من الكائن الهزيل الذي ينتجه ويسيء به إلى الشعر وإلى أذواق الناس. آمل أن أقرأ إعلاناً من أحدهم وهو يمتلك الشجاعة ويعلن على الملأ أنه أخفق في إنجاز ما كان يصبو إليه من شعر ما كان شِعراً، وكتابة ما كانت كتابةً ونصوصٍ لا علاقة لها بالنصوص. فالناس ملّت حقاً، لكنها تخجل من مواجهة أصحاب هذي التجارب الركيكة الضعيفة. أغيثونا يرحمكمُ الله. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

مصدق عاشور

مصلوبةً بخيوطِ شمسِ محبتك

يا من كشفتِ لي

سرَّ التجلّي

ووشمَ الحنين على جبينِ الانتظار

أنتِ ميناءُ روحي

قولي: متى؟

قولي: لِمَ البُعادُ

في حضرةِ ثالوثِكِ السرّي؟

رياحُكِ تعبرُني

كأنّي فرسُ الطقوس

وفي قلبي

تخفقُ فراشةُ المعنى

قولي لي متى؟

قولي إنكِ

فراشةُ رؤياي

وساعةُ الكشف

أرسِميني في معموديّتكِ

بقداسةِ روحكِ

يا من نفختِ الحياةَ في طينِ جسدي

حنينٌ

كمطرٍ أولِ الخلق

كموجِ الأزمنةِ الأولى

يتدلّى من ظلالِ أناملكِ

 

سيماڤ خالد محمد

مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟

لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول…

خالد بهلوي

بحضور جمهور غفير من الأخوات والإخوة الكتّاب والشعراء والسياسيين والمثقفين المهتمين بالأدب والشعر، أقام الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكُرد في سوريا واتحاد كردستان سوريا، بتاريخ 20 كانون الأول 2025، في مدينة إيسين الألمانية، ندوةً بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الشاعر سيدايي ملا أحمد نامي.

أدار الجلسة الأخ علوان شفان، ثم ألقى كلمة الاتحاد الأخ/ …

فراس حج محمد| فلسطين

لست أدري كم سيلزمني لأعبر شطّها الممتدّ إيغالاً إلى الصحراءْ
من سيمسك بي لأرى طريقي؟
من سيسقيني قطرة ماء في حرّ ذاك الصيف؟
من سيوصلني إلى شجرة الحور والطلع والنخلة السامقةْ؟
من سيطعمني رطباً على سغب طويلْ؟
من سيقرأ في ذاك الخراب ملامحي؟
من سيمحو آخر حرف من حروفي الأربعةْ؟
أو سيمحو أوّل حرفها لتصير مثل الزوبعة؟
من سيفتح آخر…