لا عسل دون لسع النحل

د آلان كيكاني
تأتي عناصر الحضارة كلاً واحداً متماسكاً غير قابل للتجزئة والتقسيم، تأتي متناغمة ومتناسقة كأسنان المشط، إذا سقط سن واحد، أو طال، أو قصر، ضرب في عمق التناغم، وبدا المشط كله ليس قبيحاً فحسب، وإنما لم يعد صالحاً لتهذيب الشعر وتسريحه. وإذا أخذنا هذه الحقيقة بعين الاعتبار فمن أية زاوية يمكن النظر إلى الداعين إلى تجزئة تفاصيل الحضارات والأخذ منها ما يلائم ثقافتنا وإهمال الباقي؟ هذا السؤال كان يدغدغ مخيلتي وأنا أستمع صامتاً بحكم المكان إلى أحد المحدثين قبل أيام وهو ينصح الحضور في جلسة خاصة في مناسبة اجتماعية بنبذ كل تكنلوجيا وكل آلة وكل وسيلة عصرية لا تتوافق مع ديننا وثقافتنا العربية الإسلامية السائدة. ووفق ما يرتئيه يمكن الاستفادة مثلاً من جهاز الخليوي في قراءة القرآن والاعتماد عليه في تحديد مواقيت الصلاة واتجاه الكعبة والتنبيه خلال النوم حتى لا يتأخر المسلم عن صلواته. أما وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من تطبيقات الألعاب والتسوق والمواقع المهتمة بالشأن الثقافي أو المخصصة بنقل الأخبار فهي مضيعة للوقت وإلهاء عن ذكر الله.  
هكذا يريد صاحبنا أن يحضر الوليمة ويأكل منها ما يعجبه حد التخمة ثم يدير ظهره ويمضي في حال سبيله دون أن يساهم في تحضيرها أو يكلف نفسه بغسل الأطباق أو يخسر شيئاً من ماله. إنه يريد أن يتجرع العسل دون لسعة من نحلة، أو يسبح في البحر دون أن يطاله بللٌ. “خذوا منها ما يلائمكم وأرموا الباقي في سلة الزبالة”. بهذه العبارة التي كررها أكثر من مرة أراد أن يهدي القوم حسب رؤيته إلى سواء السبيل دون أدنى إدراك أن تفاصيل المدنية تولد مع الزمن طقماً متناسقاً لا يقبل التجزئة والتقسيم وحتى أن أي تغيير في لون جزء ولو بسيط من هذا الطقم أو شكله أو مكانه يحدث خللاً كبيراً وخطأ غير قابل للإصلاح إلى درجة أن زراً واحداً من أزرار القميص مثلاً لو اختلف عن أقرانه في الشكل أو الحجم أو اللون يمكن أن يفسد الطقم كله.
ثمة ما لا يمكن أن يتقبله العقل وترفضه الذائقة العامة:  
امرأة منقبة تقود اللمبرغيني وأخرى مثلها تحاضر في علم الفلك في المئات من طلبة العلم وأخرى تسبح في عرض البحر بين مئات الفتيات شبه العاريات ولا يظهر منها سوى العينان والأنف. وثمة من يصر على السياحة في سويسرا وفرنسا وألمانيا مع التأكيد على ارتداء زيه الذي يرتديه في شوارع بلدته بين أبناء عشيرته ويفرض هذا على افراد أسرته المرافقين له. وثمة من لا يستطيع الجلوس في مطعم في عاصمة غربية مالم يجد بأم عينيه كلمة حلال مسطرة في واجهة المطعم. وثمة من لا يستسيغ الإقامة ولو مؤقتاً في مكان لا يُسمع فيه صوت الآذان. وهناك من يصرّ على استخدام أنامله في التهام الرز واللحم بدلاً من الملعقة والشوكة والسكين وهو يجلس في أفخم المطاعم وبين أناس سبقوه أشواطاً وأشواطاً في سلم المدنية. والطامة الكبرى أن هؤلاء هم أنفسهم يدعون الزائرين لبلادهم إلى الالتزام بمعاييرهم الأخلاقية والسلوكية احتراماً لمشاعرهم ومداراةً لثقافتهم التي لا يأتيها الباطل أبداً. وأبعد من كل ما ذكر ثمة فطاحل في الطب أبحروا في علوم الأمراض وأسبابها وأعراضها وسبل علاجها والوقاية منها يؤمنون بصحة التداوي بالرقى الشرعية وينصحون الناس بالحجامة او يمارسونها على مرضاهم.
أما فيما يتعلق بالجنس فكل الأبواب مشرعة أمام ذكوريتك وتحت مسميات مختلفة لا يمنعها الشرع: مسيار ومتعة وملك يمين وإذا أردت فمارس المعصية واستتر فإن الله يغفر الذنوب جميعا. أما ابنتك فصد عليها الأبواب ونقبّها واشتك على طبيب الأسنان لأنه في لحظة ألمها كشف النقاب عن فمها!
ما أود قوله هو أن السباحة ضد التيار متعبة وعقد حلقات الدبكة وسط حفلات الديسكو مثيرة للسخرية ولبس النقاب في الكرنفالات وعلى مدرجات الملاعب أمر مضحك حقاً. فمن أراد عيش حياةٍ فليعشها كلها أو يتركها كلها وإلا بات التناقض مع الواقع ومع الذات سمة أساسية في حياته.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أصدرت منشورات رامينا في لندن حديثاً المجموعة القصصية “تبغ الفجر” الشاعر السوري الكردي علي جازو، في كتاب يضم اثنتين وعشرين قصة قصيرة تتنوع بين النصوص اليومية المكثفة والمقاطع التأملية ذات الطابع الشعري والفلسفي.

تتّسم قصص المجموعة بأسلوب سرديّ دقيق، يبتعد عن الزخرفة اللغوية ويميل إلى الكتابة من الداخل. الشخصيات تتحدّث من دواخلها لا من مواقفها، وتُركّز…

خوشناف سليمان ديبو

 

يُعد الأديب والفيلسوف الروسي فيودور دوستويفسكي من أبرز وأعظم الروائيين في تاريخ الأدب العالمي. فقد أدرِجت معظم أعماله ضمن قوائم أفضل وأهم الإبداعات الأدبية وأكثرها عبقرية. وتكمن أعظم ميزات أدبه في قدرته الفذة على سبر أغوار النفس البشرية، وتحليل خفاياها ودوافعها العميقة. قراءة رواياته ليست مجرد متعة سردية، بل رحلة فكرية وروحية تُلهم…

غريب ملا زلال

شيخو مارس البورتريه وأتقن نقله، بل كاد يؤرخ به كسيرة ذاتية لأصحابه. لكن روح الفنان التي كانت تنبض فيه وتوقظه على امتداد الطريق، أيقظته أنه سيكون ضحية إذا اكتفى بذلك، ولن يكون أكثر من رسام جيد. هذه الروح دفعته للتمرد على نفسه، فأسرع إلى عبوات ألوانه ليفرغها على قماشه…

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…