جودي الكناني
شاعر ابهى من فلوات ، واكبر من حزن بلاد. يعشقه القاصي شعراً ، والداني روحاً. يحلم بالدفء منذ الطوفان ، ويشعل كل مصابيح الروح للغيمة الآتية من خلف الأفق يستجلي منها أخبار بلاد كانت يوماً وطناً للشعراء وداراً للغرباء. يسألها هل نسيته الأنهار؟ وماذا عن تلك الأحجار فوق القمة المغروسة في أعمق أعماق الروح. يسألها هل من شاهد على ضياع العمر الجميل؟
إن دراسة دقيقة لنتاج الشاعر العراقي عبد الستار نورعلي يجعل من الصعب وضع خريطة لشعره. فهو شاعر متنوع للايقاع ذو امتدادات واسعة في المساحات ، وخاصة مساحته الذهنية التي تستند على خزين ثقافي كبير. إن نظرة متأنية لشعراء الخمسينات والستينات العراقيين وحتى السبعينات تبين بوضوح أن أكثرهم خرجوا من تحت رداء شاعرين أو ثلاثة. فمعظم الشعراء تجد في شعرهم آثاراً واضحة للبياتي وبعده سعدي يوسف وقبلهم السياب. وأحسب أن الشاعر عبد الستار نورعلي من الجيل الذي يفترض أن يحسب على جيل ما بعد أولئك الرواد ، لكن من الصعب أن تجد أثراً لشاعر آخر في شعره ، فهو يختلف عن الآخرين.
إنه لم يتفيأ تحت ظلال شاعر آخر وذلك يعود لأسباب عديدة منها: أن بدايته القوية كشاعر كانت مع الشعر العمودي، وهذه المرحلة أخذت مساحة زمنية ليست بالقصيرة ، حيث كان في منأى عن المشاركة في عملية التحويل الى الشعر الحديث ، ولم يكن طرفاً في اللغط الدائر حول موضوعة الحداثة. ولكن كان له رأي بما يجري.
وثانياً لم تسكنه الجغرافيا فتترك آثارها فيه. فكما هو معلوم أن المكان يلعب دوراً كبيراً في صياغة وعي وسيكولوجيا الشاعر. فخصائص المكان تتجلى في نتاج الكثير من الشعراء. أما نورعلي فقد سكن كمبدع في جغرافية روحه القلقة المضطربة. هذا القلق انجز أهم قصائده. فهو ابن بغداد التي ولد فيها ، وطاف في أزقتها ، وعانقها حد العشق المتوحد في الذات، وهو المسكون بالهوى العراقي، وفي ذات الوقت يضمد جراح الجبل الذي يعانق الغيمة، والذي يتحدث عن حق مغدور لأمة ينتمي اليها الشاعر، وانتماؤه الكردي هذا ليس عرقياً بل انتماءاً للقصيدة وانتماءاً للحق الانساني في الوجود الكريم:
أيا مطرَ الربيعْ
اغسلْ وجهَ العراقْ
ونقِّرْ على جبهتي قطرةً بعد قطرهْ
تباركَ اسمُ العراقْ
تباركَ مَنْ سالَ دمُهُ
على جذع نخلةٍ في الفراتْ
تباركَ مَن طارَ جذعُهُ
شظايا
على قمةٍ في الجبالْ
تبارك كلُّ مَنْ صاحَ
ياعراقْ …!
إن تفحصاً دقيقاً لنتاج الشاعر نورعلي يجعلنا نطوف في عوالم مختلفة ونقف أمام مفردات لها انتماءات خاصة. فالقصيدة بالنسبة له ليست مشروعاً هندسياً تهيأ له المستلزمات بل هي لحظة من الطوفان ثم تسكن. يقول عن ولادة القصيدة عنده :
ــ في لحظة الابداع والكتابة لا تحضرني سوى اللحظة التي احياها بكياني وجوارحي ، فالمبدع يغرق فلا يحس الا وهو بين الموج فيعوم ويحاول اصطياد ما يضطرب في قاعه ويتفاعل دون احساس منه.
لذا تراه يحاول جاهداً الحفاظ على تلقائيته كشاعر. فهو يسلم قياده للحظة المخاض الشعري وما تأتي به، فيضع جانباً كل ما يقوله الآخر وما ينظر اليه. المهم أن لانترك العقل يتدخل بحدة خوفاً من أن ينقطع الخيط بين المبدع والنص. إن عبد الستار نورعلي يخشى كثيراً من أن يسقط الابداع اسير الاصطناع خوفاً من (شرخ العفوية والانسياب والتدفق التلقائي للتجربة المخزونة الضاغطة).
في قصيدة (المسلة العارية) يستخدم الشاعر مفردات شائعة في النص الديني، لكنه يخضعها لفلسفته الخاصة ، ويجعل منها أقرب الى بناء صوفي. ففي هذه القصيدة التي أسميها (تراجيديا الحيرة) يفلسف الشاعر غربته ويبدأها بحلم :
يستبطنُ الليلَ فيُلقي على
ظلالهِ آثارَ ريح المكانْ
فيحتويهِ الرهانْ
ينقله من مسرح الرؤيةِ في حوزةٍ
مليئةٍ بالصبواتِ الحسانْ
ينامُ في الظلِّ وفي لهفةٍ
يبحثُ عن شمسٍ وعنْ أرجوانْ
الشمسُ تغفو خلف حدِّ المدى
غارقةً في لجِّ هذا الزمانْ
إن هذه البداية تتجلى فيها تأثيرات شعره العمودي. لكنه يتدارك ذلك في المقطع الذي يليه والذي يتناول فيه مشكلة اليومي ، منفاه الروحي ، وعدم تجانسه مع السائد الذي يحيط به ، فتراه محاولاً أن يرتب قلقه :
يستبطنُ الليلَ، أيا نجمةً
سائرةً
دون نجوم السماءْ
حائرةً
ترحلُ بينَ الفضاءْ
……………
رُدِّي ففي بعض الصدى نسمةٌ
تعانقُ المشهدَ والليلَ
وفصلَ الرداءْ
إن هذه النجمة التي تسكن في الترحال والحائرة هي الشاعر نفسه. أما نهاية القصيدة فهي تلخيص للخاتمة غير المنتظرة لما آلت اليه الأشياء والأشلاء. لقد صاغها ببناء فيه الكثير من الشفافية وبظلال وارفة من الحزن الشفيف :
ياصورةً تنهضُ مِنْ وجههِ
تسيل في الحبِّ صدى العنفوانْ
فيكِ مسراتٌ هوتْ
وانزوتْ
بينَ مصاريعِ كتابِ الأمانْ
في ليلةٍ دارتْ على فُلكها
وطاردتْ نوازعَ الالتقاءْ
يستبطنُ الليلَ وفي ليلةٍ
بيضاءَ فيها الأرضُ لونُ الضياءْ
والشجرُ الوارفُ في صمتهِ
مسلةٌ عاريةٌ عن رداءْ
أما في صرخته التي اسماها (الفيليون) فتختلف فيها المفردة اللغوية اختلافاً كبيراً عما في باقي قصائده ، فنحن هنا أمام نسيج شعري ذي صورة تراجيدية حادة ومفردة قاسية وجرس شعري يدخلك في عالم من الحماسة لتتبع الفصل الدامي في تاريخ الأكراد الفيليين. هنا يحول الشاعر قصيدته الى ملحمة يرزم فيها تاريخ شعب لا تنتهي هجرته :
فتتابعت فيكم رياحُ الهجرِ
مثلَ تتابعِ المطر الغزيرِ
………………………
في كلِّ فصلٍ هجرةٌ محسوبةٌ
بكتاب سفيانٍ صغيرِ
لا يرتوي من صاعقاتِ النار
أو من ذبح معشوقٍ وليدِ
أما بداية القصيدة فأشبه بالطوفان :
الأرضُ تلفظ كلَّ يوم جثةً
وتعيد مهزلةَ الجريمهْ
الأرضُ كلُ الأرض مِرجلةٌ أليمهْ
إنها القيامة التي يراها عبد الستارنورعلي ونراها من خلاله. يعود ليخاطب أبناء قومه :
ياأيها القومُ الموزعُ نسلُكم
ما كنتمُ ضمنَ الخطوطِ الخضرِ
في الأمم الكبيرهْ
فتناوبتْ فيكم سيوفُ الناسِ
كلٌّ يعتلي سقفَ الجريمهْ
ليفاخرَ الدنيا بمعزولٍ عن الأحلافِ والدياتِ
لا يقوى على صدِّ القبيلهْ
إن ما يميز نتاج هذا الشاعر المبدع هو أنّ القصيدة عنده تمتاز بالجزالة ، وهذا يعود الى تمكنه من البناء الكلاسيكي للقصيدة ومعرفته الدقيقة بقاموسيتها اللغوية. كما تمتاز القصيدة عنده بأفعالها الدرامية المؤثرة وبنائها البصري ذي الجمالية العالية. فالقصيدة عنده أقرب الى الملحمة. انها تحكي حدثاً مصاغاً عبر بناء بصري ، ثم يوصل كل ذلك عن طريق اللغة ذات الشفافية العالية. اللغة عند شاعرنا وسيط يوصل الحالة المعبر عنها بالصورة الشعرية وليست الاساس في القصيدة. فهو لا يعتبر اللغة هدفاً ، وهذا ما يجعله مختلفاً عن الكثير من الشعراء المعاصرين الذين يعتبرون الشعر لغة أولاً. ولذا عند متابعة نتاج الشعراء الجدد – وما أكثرهم – ترانا في لجٍّ من المتلاعبين بالمفردة وكأن تزويق الكلمات والحذلقة هي صنعة الشعر الآن. وعليه فأنت تراهم يشبهون بعضهم البعض كثيراً.
أما الميزة الأخرى في نتاج الشاعر عبد الستار نورعلي فتتعلق بشكل القصيدة، فإنه كما اسلفنا لا ينظر للقصيدة مشروعاً على الورق. لأن التنظير ليس مهمة الشاعر. فالنص الشعري عنده يأتي كنتاج لحالة تأزم خاصة لا يصطنعها بل يعيشها، وربما هذه الحالة لا تأتي باستمرار، فشكل القصيدة ومحتواها انعكاس الحالة وحجم تأزمه فيها. إنه من غير المستطاع تبويبه ، فهو لا ينظر للقصيدة لكنه يدرس تجربته دائماً. حيث ان الشاعر الحقيقي لا يكون انعكاساً للآخرين ولا يشبه نفسه، أي لا يكررها.
إن تنوع اشكال القصيدة عند نورعلي يعود الى التراكم الكبير في تجربته الثقافية كقارئ وكشاعر متتبع لنتاج الآخرين ومعاصر لإشكالات عصره وخاصة ما يتعلق منها بالشعر. أما العمق الذي نحسه ونلمسه في معظم قصائده فيعود الى الخزين المتراكم لتجربته الخاصة الذاتية. فالاحداث التي عاصرها وعايشها تركت في شعره آثاراً واضحة. فهو لم يقفز فوق الأحداث بل الاحداث لها حيز كبير في شعره. ان مجتمعنا العراقي وعلى مر التاريخ اشبه بمرجل نار لم يهدأ أبداً. من يطفئ هذا المرجل؟ إن من يحاول سيسكنه المنفى ثم يعود ليتخذ المنفى وطناً. ثم يضيق هذا الوطن ليصبح بحجم غرفة صغيرة. ولا يجد الشاعر وسيلة للبقاء الا الاحتماء بالثوابت.
هناك ثمة قيم ينبغي الحفاظ عليها حتى تكون الحياة قابلة للعيش. وعبد الستار نورعلي ذو ثوابت انسانية عالية ، فهو يمجد مثلاً (أحلام) المرأة الآتية من بين قصب الأهوار في جنوب العراق لتستشهد في ذرى جبال العراق دفاعاً عن الحق بنفس الحماسة التي يمجد فيها كردياً يحترق خلف صخرة ويترك كيس التبغ تعبث به الريح …. ففي الأرض متسع للجميع ، والبطولة لا تحدد بمكان :
امرأة من قصب الأهوار
تفترش الرمل الأحمر في فوهة الكهف
بين حنايا كردستان
بين الثلج وبين النار
تلتقط
حبة رمل فتقبلها
تحرس قبلتها
تنحت صورتها
في القلب الرابض بين الجبل
وبين نخيل الأهوار
أما الجانب الآخر في نتاج عبد الستار نورعلي ، وهو الشعر العمودي ، فهو يحتاج حقاً الى دراسة مستفيضة. فالقصيدة العمودية عنده تمتاز بالبناء المتراص والجزالة العالية. هذه الجزالة لا تعود الى استخدامه المفردة الكلاسيكية مع أنه متمكن منها، لكن الجزالة تعود الى اختياره الدقيق للمفردة المعبرة بكثافة الحالة الحدثية التي يسردها بتتابع صوري يجعلك أشبه بمتابع لأحداث فيلم لا يمكنك التوقف عن متابعتها. ففي القريض من شعره نرى حالة من السمو تجعله في مصاف الكلاسيكيين :
لا يُصلحُ الوجهَ القناعُ فمرتديهِ مقيتُ
صبّوا الكؤوسَ فإنني في الشاربينَ لَحوتُ
مَنْ يملأ القدحَ الشرابَ وعاقروهُ سكوتُ؟
فأنا البحارُ أنا السفائنُ في الخضمِّ أفوتُ
لم أخشَ من لبسَ الوقارَ رداؤهُ الكهنوتُ
لا فرقَ بينَ العرشِ او مَنْ في الكفافِ يموتُ
وكذا في قصيدته التي يعارض فيها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري :
أأبا فراتٍ ، والجراحُ فمُ
وعلى السيوفِ من الجراح دمُ
إنَّـا على حالين تجمعنا
لغةٌ تحلِّقُ ثم تضطرمُ
إنّا على حالينِ يُثقلُنـا
همٌّ يصولُ وليس ينصرمُ
همٌّ تكابدُهُ على سَفَرٍ
بينَ القوافي نارُهُ ضرَمُ
وأنا هنا حالانِ ما افترقا
نفسٌ تذوبُ ورؤيةٌ سَأمُ