هيمنة التصورات الأسبق

ابراهيم البليهي 

خلال التأمل الطويل في الأوضاع الإنسانية على مستوى الأفراد وعلى مستوى العموم تَوَصَّلْتُ إلى عدد من المفاهيم منها مفهوم (العقل يحتله الأسبق إليه) ومفهوم (السوابق عوائق) ومفاهيم أخرى وقد استخدمت هذه المفاهيم في كتبي ….
إن ثبات الأنساق الثقافية المتوارثة وقدرة هذه الأنساق على المقاومة العنيدة لكل ما توصلت إليه العلوم يؤكد بوضوح شديد أن السوابق عوائق ….
لكن هذه المعضلة المعرفية ليست محصورة بعموم الناس أو بالأنساق الثقافية المتوارثة وإنما حتى داخل المجتمع العلمي نفسه فإن التصورات العلمية الأقدم تكون عائقًا للاكتشاف ومانعًا للتطور والشواهد على ذلك كثيرة في تاريخ مختلف العلوم ….
وعلى سبيل المثال كان السائد في الطب أن قرحة المعدة تنتج عن الإجهاد وكانت تعالج إما بقطع العصب الحائر أو باستئصال الجزء المعطوب من المعدة ….
ولكن طبيبًا استراليا مبتدئًا لاحظ أن القرحات تعج بنوع من البكتيريا وبمتابعة حالات مختلفة وجد نفس الظاهرة وحين أعلن ذلك سخر منه الأطباء المتشبعون بالتصور الذي يحيل هذه المشكلة الطبية إلى الإجهاد ….
لكن الطبيب الشاب كان واثقًا من اكتشافه ولكنه جوبه بالرفض الصارم والسخرية المتعالية من زملائه لأنهم مبرمجون بتصور سابق فاستمروا في مقاومة الحقيقة الطارئة التي تتعارض مع ما درسوه وما تعاقبوا على الاقتناع به فاضطر الطبيب المكتشف أن يبتلع مزرعة من البكتريا نفسها فأصيب بقروح المعدة وبعد أن أثبت بالتجربة على نفسه صحة اكتشافه راح يعالج القرحة ليس بالعلاج الذي كان معهودًا وهو قطع العصب الحائر أو استئصال الجزء المقروح من المعدة وإنما عالج قروحه بمزيج من المضادات الحيوية وعلاجات أخرى تقضي على البكتريا …..
    هذه الواقعة تؤكدها وقائع أخرى كثيرة في تاريخ العلوم وكلها تؤكد أن السوابق عوائق وأن رفض الحقائق الطارئة هو رفْضٌ حتمي تلقائي فهو الرد التلقائي الحتمي لأي اكتشاف يتعارض مع تصور سابق وبذلك ندرك حقيقة أن السوابق عوائق وهذه من أصعب المعضلات البشرية خصوصًا هيمنة الأنساق الثقافية المتوارثة …….

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…