الاعتراف

   قصة: بقلم أحمد إسماعيل إسماعيل

فجأة ،
اختلج وجه القمر وشحب وهو يبصر حوتاً قد أمسى في كبد السماء ، ارتسمت
الدهشة والفزع على محياه وردة من طين ،وكفَّ عن العوم في السماء كزورق
ينقل أشواق العشاق ،حاول أن يستنجد وهو يرى قائد العسس يدخل على الوالي
 ويقول:
– لا أثر له يا سيدي .

انتفض الوالي غاضباً ،وكان يجلس تحت صورة رجل جهم القسمات ،غطت الأوسمة المذهبة والشرائط الملونة تاجه وبزته الرسمية. صاح الوالي بعصبية:
– إنه تحت أبصاركم يا عميان، اقبضوا عليه واجعلوه يعترف .

ازداد شحوب القمر المرعوب ، وبدأ وجه السماء البهي يسود ،واضطربت شموعها . تدافعت موجات من الأجساد إلى الشارع الممتد لساناً يلهث:
أطفال يقرعون الصفائح ،ونسوة يولولن بهلع ، ورجال يتمتمون بأدعية استظهروها
و بانت العيون الوجلة- الواسعة والضيقة- السوداء والزرقاء والخضراء – شاخصة بأبصارها صوب القمر المرتعد في حضرة الحوت المبتسم برضى. همس شاب لفتاة وهما وسط الأجساد المتدافعة والنداءات المحمومة والمضطربة :
– لا تولولي يا حبيبة ،فأنا أخشى على صوتك الجميل .
أضاءت ابتسامة رقيقة وجه الفتاة ،وبادلت الشاب نظرة افتنان عذبة.. انفرج وجه القمر، وأضاء كوجه رضيع معافى ،وانقبض وجه الحوت ،واكفهر؛ فالتقطت آذان
وعيون رجال العسس همس الشاب ونظراته المهاجرة إلى عيون الفتاة , أمسكوا بتلابيبه ودفعوه إلى جوف عربة مبرقعة اللون .
في مكان مظلم ورطب أخذ السجان يسوط الشاب وهو يصرخ :
– اعترف أيها الكلب .
جال الشاب ببصره في المكان الذي ابتلعه ,وتمعن بخوف في وجه الكائن الماثل أمامه , فصاح بصوت مشروخ :
– ربي هو ربك .
طار صواب السجان ,وجنَّ جنونه ,وبعنف كال له الركلات والصفعات وهو يجأر:
– قلت اعترف, اعترف . 
بكى السجين كعصفور تائه في ليلة شتائية، وتعرت أشجار السرو والبلوط في الولاية ،وكفت الفراشات عن مغازلة الأزهار.. وازداد شحوب القمر ،وقعقعة الصفائح في الشارع تصم الآذان . فرك السجين عينيه ،ومسح الدم عن فمه ،وسأل بتضرع :
– لكن بماذا سأعترف ؟!
انتفض السجان كثور ،جلده ، رماه أرضاً، حشر العصا في فمه ، حشرها في فتحة أخرى من جسده ، غرز أسنانه في عنقه ؛ فنزف القمر دماً فضياً وهو يجد نفسه بين فكي الحوت ،صاح برعب :
– النجدة..
وهمد السجين كومة لحم ودم . حرر السجان رقبة السجين من بين فكيه ،ومسح الدم عن فمه.. وتجشأ الحوت وتثاءب ،فلمعت أسنانه المبيضة من تحت شفتيه. اندفع السجان نحو غرفة قائده وهناك بادره القائد بالسؤال:
– هل اعترف ؟
 أجاب السجان بضيق وخوف  :
– لا يا سيدي
 وبحيرة راح يروي لسيده ما حدث في السجن : كيف بكى السجين بحرقة ،وكيف تضرع ، واستنجد.. ثم سأل قائده الذي راحت ابتسامة خبيثة تتدلى من شفتيه :
– لكن بماذا يجب أن يعترف يا سيدي ؟ّ!
نقل القائد نظره إلى الرجل الساكن في الصورة بتزلف واعتزاز. ابتسم ساكن الصورة وضحك ، فلمعت أسنان مبيضة من خلف شفتيه ، وأرتفع صدره وانخفض، فأصدرت
الأوسمة المعلقة عليه رنيناً أشبه بقرع الأجراس ؛ فزفر القائد بانتشاء ، وشهق السجان
بارتياح .

وظل القمر الذي ازدرده الحوت شاحباً يرتعش في سماء سوداء .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…