التفاؤل والأمل في شعر فضيلة مرتضى.. قصيدة (مازلْتُ حيَّة) مثالاً،

عبد الستار نورعلي

  الشاعرة (فضيلة مرتضى) ابنة بغداد/باب الشيخ، والتي وُلدت ونشأت في أزقتها، وفي بيتٍ كان مركزَ اشعاع دينيٍّ وسياسيٍّ وثقافيٍّ لوسطٍ من بسطاء ومكافحين في الحياة البغدادية العراقية. ضمَّ ذلك البيت الشعبيّ البسيط كسبةً يعيشون بعرقِ جبينهم ليوفّروا لأولادهم حياةً آمنةً مطمئنةً ومستقبلاً زاهراً يُشارُ اليه. كما تخرّجَ منْ أعماقِهِ وبتربية أولئك الكسبة منْ عامّة الناس متعلمون، ومناضلون عرفتهمْ سوحُ النضال الوطني في بغداد والعراق، ومثقفون عركوا الحياة، ونهلوا من الثقافة المعاصرة، والفكر التقدمي القريب من نبض الشارع والناس، من العمال والكسبة والموظفين والمتعلمين، وأصحاب المهن مِمَّنْ تحمّلوا مشاق الحياة من أجل لقمة العيش الكريم لهم ولأطفالهم بسواعدهم الصلبة المتينة، انطلاقاً منْ أملهم وتفاؤلهم وإصرارهم العنيد لبناء مستقبل أبنائهم بناءً متيناً، وبتحديهم الظروف الصعبة والقاسية. أولئك المناضلون والمثقفون الذين انطلقوا من ذلك البيت كانوا مدافعين بالفعل والقول والكلمة عن حقوق الناس في الحياة الحرة الكريمة. فكانت لهم بصمتهم المشرقة في تلوين حياة تلك الأزقة المضيئة والمعانية والمكافحة، والتي شهدت وعاشت مختلف الظروف قاسيها وحانيها، مرَّها وحلوها. 
  هذه الظروف وما مرّت فيها من أحداث عظيمة كان لها أثرها بالتأكيد على حياة وموقف وشعر الشاعرة فضيلة (نورعلي) مرتضى، لتلوّنَها بصبغة الصلابة والقوة والعنفوان، والتفاؤل والتحدي. كما أنّ ما عُرف به أهلُ تلك الأزقة من طيبةٍ وألفة ومحبة وتمازج ونقاء وتلاحم اجتماعي كان له أيضاً ذاك الأثر الإيجابي من الرقّة والتعاطف مع هموم الناس ومعاناتهم شكلاً ومضموناً، مما أضفى مسحة من الشفافية والتفاعل والتعبير الجزل ببلاغة حديثة، وبأسلوب خالٍ من التعقيد والغموض، بحيث جعل منتجها الشعري قريباً من النفس والناس عموماً. 
  لم تبتعد الشاعرة عن ذاتها كثيراً، ولم تنسَ مسيرتها الحياتية وما عاشته، فقد وظّفت جانباً مما تكتب لهذه السيرة. لكنْ بالقراءة الموضوعية لهذه اللوحة الذاتية نستطيع التقاط الصورة العامة ممتزجةً بالخاصّة، بحيث أصبحتا واحدة تأثيراً وأثَراً وامتزاجاً. فما ترسمه بالكلمات هو ما يعيشه الكثيرون، وهي واحد منهم. وبهذا تخرج من شرنقة الذاتية المحصورة والمُحاصَرة الى حقل الجَمْعيَّة المنفتحة المنطلقة في هواء هذا الكون المترامي الأطراف، والقصيدة المعنيّة هنا خير مثال ودلالة ولوحة. 
  
  (فضيلة مرتضى) منذ صغرها كانت أسيرة رغبتها في التعلّم، وفي التزوِّدِ بالثقافة من خلال القراءة المتواصلة، فقد كانت تدخل غرفتي في بيتنا القديم، منذ كانت في الابتدائية، لتستعير من مكتبتي ما يثير اهتمامها وشغفها من مجلات الأطفال. ثم تطورّت لتصل يداها الى الكتب الأدبية والثقافية الأخرى، ثم صعوداً لتكون لها مكتبتها الخاصة، وبعدها كتاباتها شعراً ونثراً، ومقالات سياسية واجتماعية في الصحف والمجلات المختلفة، حتى اليوم. إنها تكتب شعراً بالعربية والكردية، وقد تمّ تلحين وغناء العديد من قصائدها الكردية. لم يمنعها اختصاصها العلمي (هندسة مدنية/رسامة هندسية)، وعملها في دائرة المشاريع النفطية في بغداد، وكذا في الرسم الهندسي في السويد، لم يمنعها من مواصلة ما اختارته من فنّ الكتابة الجمالية والسياسية، اضافة الى العمل الطوعي في المنظمات المدنية الاجتماعية في المهجر، ومواصلة الكتابة شعراً ونثراً.
القصيدة:
مازلتُ حيَّةً 
(فضيلة مرتضى)
خيوط القمر الضوئية
سقطت فوق سريرها
تكوّمتْ تحت الغطاء الدافئ
الأحلامُ ألسنتُها بدأتْ ثرثرتَها
تبتكر الأشكال والأحجام والأصوات
جسدها الناعم يتقلّب يميناً ويساراً
تسقط عيونٌ على جبينِها
شاشاتٌ وأصواتٌ تردِّد:
إنها ميتة ..لا، إنها حية ..على الأغلب ماتتْ.
تصرخ ساحبةً قدميها من أرض صخرية
تصرخ من أعماق الكهف المزدحم بالأحجار
فوق الغطاء تسمعُ اشتعالَ الصواعق
ترتطمُ بالجدران والشبابيك المغلقة
تصرخ ..تخرج من كهوف البحار
مشتتةَ الأفكار
بين خصلات الضباب وجوهٌ غيرُ مألوفة
في عيون القمر نام الغضبُ
تنادي بأعلى صوتها: أنا هنا
أنا حية ..ما زلتُ حية
فوق الغطاء سقطت حرارةُ الشمس
الرجلُ القمر غادر
المرأةُ الشمسُ أستيقظتْ من النوم
الأحلامُ أطبقتْ أسنانَها على الثرثرة
دقّتْ أقدامُ الصباح فوق الرياح
أرتشفتْ رحيقَه المولود
ومنْ بشاشة الملامح
حطّت الخيوطُ اللامعة
فوق عينيها وجسدها 
منْ أمام بصرها رحلتِ الغيومُ الداكنة
فتحتْ شبابيكُ الحياة مصاريعَها.
ابتسمتْ
تنهَّدتْ: 
الجمالُ والحياةُ
يولدان من الصلابة
(13/11/2021 )
عبد الستار نورعلي
كانون الأول/ديسمبر 2023 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…