من ذاكرة الطريق «لعلَّها قصص قصيرة جداً»

إبراهيم محمود

1-الشجرة
شعرت الشجرة بوحدة أوجعتها كثيراً
فجأة حط عصفور على أحد أغصانها
انفرجت أساريرها قليلاً
فجأة اقتعد ظلها عابرُ سبيل
تفاعل ثلاثة:
الشجرة باشرت العطاء
العصفور باشر زقزقته
وعابر السبيل باشر النفخ في نايه
***
2-الفراشة
قطعت مسافة بعيدة سعياً إلى لقاء فراشة من جنسها
تعب جناحاها من ثقل المسافة
أبصرت وردت متفتحة في أعلى شجرة
حطت بجوارها:
هذه أيضاً ستمنحني الراحة
واستسلمت لنوم عميق في ظلها، وهي تحلم بفراشة تنتظرها
***
3-الماء
كان الماء يشق طريقه بصعوبة بالغة
متى سيكون لي مجرى يا ترى؟
تساءل في سرّه!
كان يتقدَّم ببطء، لكنه بدا سعيداً، وهو يقول هامساً:
المهم أنني أجري
***
4-الصبية
وجدت الصبية اليافعة نفسها في مرج أخضر
ثمة شجرة كانت تكتسي خضرة
متى سأصبح مثل شجرة؟
ساءلت نفسها بغصة !
وحين وقعت عيناها على شجرة وهي تتبرعم. 
ها قد أصبحتُ شجرة !
صاحت وهي تنظر إلى الشجرة وتمارس مسحاً لصدرها
***
5-الضفدعة
هطل مطر غزير
تشكلت جداول مائية وسيول
امتلأت حفر  بالمياه
تلوّن المكان بالأخضر
ترددَّ صدى نقيق ضفدعة في الماء
ورد خلْقٌ كثير إلى الماء
لقد قمت بدوري أيضاً.
قالتها الضفدعة وهي تقفز إلى الماء فرحة
***
6-الحصاة
كان يلعب بالحصاة
حصاة صغيرة
مستهجناً ضآلة حجمها
وأحياناً كان يدوسها
كان ثقب صغير في جدار يهرّب ماء
صوت ارتطام قطراته كان يوتّره
حركة من حذائه دفعت بالحصاة تلك لتستقر في فراغ الثقب
توقف تسرّب الماء
كيف لم أنتبه إلى ذلك؟
قالها في نفسه، وعينه مركّزة على الثقب الذي انسد بالكامل
***
7-القصيدة
أتعبته كتابة قصيدة
لقد مر عليه وقت طويل وهو قلق
تلزمه عبارة واحدة لينهيها كما قدَّر
لأكثر من مرة نحّاها جانباً
آنسه شروده  وهو يتلفت يمنة ويسرة
أوقفه طنين ذبابة
ركَّز عليه
امتدت يده لاشعورياً
وأضاف ما كان ينتظره وملؤه دهشة وإعجاب
***
8-الهواء الطلق
لم يكن يهتم بما كان يستنشقه من هواء نقي. 
كان محاطاً بالهواء الطلق دون أن يفكّر  في أمره.
ما أن يجد نفسه محصوراً في مكان ضيق، أو تفوح من مكان كهذا رائحة كريهة، يستدعيه
ماالذي يشده إلى الهواء الطلق، وهو  بعيد عنه ؟
لماذا يملأ عليه تفكيره بهذه الطريقة دون غيرها ؟
عرَف الكثير عن حالته هذه، ورغم ذلك أدرك أن هناك ما لم يستطع تفهمه بعد !
***
9-اليدان
كانت إحدى يديه تمسك بالمسمار وتثبت رأسه في الحائط
كانت اليد الأخرى تحمل مطرقة لتثبيت المسار في الحائط
كم مرة ، وهو لا يذكر، كانت المطرقة تضرب يده الممسكة بالمسمار
شعوره بالسخط من المسمار والمطرقة يزداد
وتارة كان يقبّح فعل يده التي تمسك بالمطرقة  
لماذا ينعدم التوافق بين اليدين؟
ساءل نفسه !
ركَّز على المسافة غير المدروسة لديه بين كلتا يديه، وكل من المطرقة والمسمار والحائط !
***
10-البندورة والباذنجانة
سخرت البندورة من الباذنجانة:
يا لمؤخرتك المستطيلة والمفلطحة
ردَّت عليها الباذنجانة:
هل أمعنت النظر في جسمك، فكله شبيه مؤخرة ممعوسة
كان البستانيُّ يسمع صوتهما.
في الحال قطف الاثنتين، وفرمهما، في طنجرة الطبخ. فلم يعد لمؤخرة أي منهما من أثر
ووضع الطنجرة على النار وملؤه تهكم مما سمع !
***
11-الوتد
كان الوتد متضايقاً من وضعه.
حبل العجل كان ملفوفاً على رأسه أعلاه
الأنكى من ذلك أن شدَّه من قبل العجل كان يزيد في إيلامه، ويُشعره بالاختناق.
إلى متى سأغيّب وجه هذا العجل المنحوس .
ذات مساء جاء صاحب العجل وحرّره من حبله. فتنفس الصعداء.
لحيظات عبرت، وفوجئ بيد صاحب العجل تقلعه، وفي ثانية يُرمى به في نار الموقد.
حتى الصراخ لم يستطعه، وسط أجيج نار فحَّمته سريعاً.
***
12-النملة
تناهى إلى النملة صوت سيل جارف يثير الغبار أمامه.
أعجبها تساؤلها الداخلي:
سيجرفني أم لا؟ هل أستطيع بلوغ حافة الوادي أم لا ؟
استهواها السؤالان، وتركت أمر السيل جانباً.
ثم تنبهت لما هي عليه، وحاولت التحرك.
كان السيل قد جرفها بعيداً
***
13-القمر
كان مستغرقاً في تأملاته
ما أبعدني عن القمر!
قالها في نفسه، وتتمازج في سمعه أصوات كائنات طبيعية تُشعِره بالوحشة
بيني وبين الصباح وقت طويل. ماالذي يصبّرني حتى ذلك الوقت ؟
نظر عالياً. بدا القمر وكأنه يقول: خذني ببُعد نظرك.
هوذا نديمي حتى مطلع الفجر.
وعاد إلى تأملاته !
***
14-الظل
كان يشد على جسمه، بعيداً عن موجة الظل التي انبسطت قبالته.
يكفيني النور لأرى وجهي.
لا قيمة لنورك من دوني .
قال الظل
ابحث عن غيري.
قال النور
ليس الظل لأي كان، وبمقاس معلوم.
قال الظل
ثم قفز إلى الجانب الآخر  منه.
أبصر جسمه بين ظل ونور. أعجبه التشكيل.
الآن سيعرف الناس قيمة نورك بقياسهم لي
كرَّر الظل
***
15-القلم
شكَّ قلماً مذهَّباً في جيب سترته
أول من ألمحه سخر منه، لأنه لم يعرف حتى كيفية الإمساك به.
شحنه بأغلى أنواع الحبر
يده لم تسعفه حتى في كتابة جملة واحدة
حنق على نفسه، سوى أن صوتاً تردد في محيط أذنه:
حين تعرف أين تصوغ الذهب، وكيف تعجنه في روحك حينها سأجري سيالاً في قرطاسك .
***
16-الطرْق على الباب
طرْقٌ على الباب
تفاءل خيراً
تقدم
تراجع إلى الوراء فجأة
طرق آخر على الباب
تشاءم شراً
تراجع
تقدم إلى الأمام
طرْق ثالث على الباب
تسمّر في المكان
تبلبل عليه وعيه
ولم يعد يسمع صوتاً

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…