دمشق!

عرب حورى

دمشق حطمت صدفتي وأخرجتني من قوقعتي كحلزون، أخرجته ليكتشف الرحابة والمدى الشاسع وليتحسس عالم آخر، بخيطيه الرفيعتين الواهيتين. كنت شابا يافعا، وبر ناعم يشبه ما تخلفه الحلزون من خط رفيع يرتسم على شفتي العليا. حينما رافقت أخي الأكبر بالسفر إلى دمشق الآمال القلقة والأحلام الرضيعة، لم يرقد لي جفن طول الطريق الممتد من ديريك المغروزة كخرزة لؤلؤ في المثلث الساخن المنسي، حيث الجودي الشامخ الحامل لبقايا سفينة نوح السراب ونهر دجلة، أزلي الجريان، حتى حطت بنا الرحال في كراج البرامكة، البرامكة الذين أبادهم هارون الرشيد، ليسترد منهم هيبتهم الذي منحها لهم هو.
هبطنا على صوت فيروز الكافئبني المنعش للخلايا والتي سبقتها أم كلثوم طول الطريق بصوتها الناصع بالأنات.
انحدرنا شرقا، أرتال من السيارات وحشود من المشاة على الأرصفة، النساء محجبات، أنصاف عاريات. صدور، ظهور، سيقان مخروطية، يالغرابة المشهد! إنها الحقيقة وليس حلما من أحلام المراهقين أمثالي.
لم يمضي الكثير من الوقت مشيا  على الأقدام وسط بحر من الدهشة والذهول لنصل إلى سوق الحميدية الطويل، المسقوف المقنطر وفي نهايته الجامع الأموي الذي سلب أسم كنيسة يوحنا المعمدان كغطاء للتاريخ المدون قوة وانحيازا للسائد والمتسيد.
واجهات المحلات البلورية لامعة، أنظف من عين الغزلان والأرانب، تزينها بضائع وألبسة من كل صنف ولون، ألبسة داخلية للنساء من كل الألوان والتصاميم، منقطة، مطرزة، مخرزة، مزكشة، خيطية تختفي بين الهلام، مزودة بزر تشغيل، تصدر صوتا نسائيا ناعما للترحيب بفحل، أو زوج موعود بليلة خميس حمراء.
أصحاب المحلات البارعون في جذب الزبون الأتي من اعماق الريف البعيد والمدن المتناثرة على جغرافيا النسيان.
مع مضي الشهور والأعوام، في دمشق، أدمنت صوت فيروز وهي تغني:( يا جبل البعيد، خلفك حبايبنا) ارتشفت لأول مرة القهوة المطحونة من محلات اللبن العربي المركون في سوق المرجة مع خصلات الشمس الأولى الآتية من خلف الغوضة الشرقية الغافية بين الخطرة والندى.
دمشق عجزت عن تحقيق أحلامي الهائجة أو ربما كان العاجز أنا!
لكن دمشق منحتني روح آخر، تعرفت من خلاله على أرواح ساكنيها الطافية بالجمال والذوق الرفيع والمجملات التي تذوب كقطر العسل على الشفاه الطرية الباسمة والعيون الامعة المجلية بماء الورد.
منحتني عينين إضافيتين لأرى بهما المدى بعمق و رويه.
منحتني دمشق أقداما إضافية كي أرب بهم نحو التاريخ وأعماقه، كالشاب الهارب من الإطار في لوحة، پێردل بێرل الاسباني!
كم حاولت لأنسج قصيدة لعيون دمشق، لكنني فشلت

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

سيماڤ خالد محمد

مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟

لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول…

خالد بهلوي

بحضور جمهور غفير من الأخوات والإخوة الكتّاب والشعراء والسياسيين والمثقفين المهتمين بالأدب والشعر، أقام الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكُرد في سوريا واتحاد كردستان سوريا، بتاريخ 20 كانون الأول 2025، في مدينة إيسين الألمانية، ندوةً بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الشاعر سيدايي ملا أحمد نامي.

أدار الجلسة الأخ علوان شفان، ثم ألقى كلمة الاتحاد الأخ/ …

فراس حج محمد| فلسطين

لست أدري كم سيلزمني لأعبر شطّها الممتدّ إيغالاً إلى الصحراءْ
من سيمسك بي لأرى طريقي؟
من سيسقيني قطرة ماء في حرّ ذاك الصيف؟
من سيوصلني إلى شجرة الحور والطلع والنخلة السامقةْ؟
من سيطعمني رطباً على سغب طويلْ؟
من سيقرأ في ذاك الخراب ملامحي؟
من سيمحو آخر حرف من حروفي الأربعةْ؟
أو سيمحو أوّل حرفها لتصير مثل الزوبعة؟
من سيفتح آخر…

حاوره: طه خلو

 

يدخل آلان كيكاني الرواية من منطقة التماس الحاد بين المعرفة والألم، حيث تتحوّل التجربة الإنسانية، كما عاينها طبيباً وكاتباً، إلى سؤال مفتوح على النفس والمجتمع. من هذا الحدّ الفاصل بين ما يُختبر في الممارسة الطبية وما يترسّب في الذاكرة، تتشكّل كتابته بوصفها مسار تأمل طويل في هشاشة الإنسان، وفي التصدّعات التي تتركها الصدمة،…