نجمة الصـبح.. أربع لقاءات قصيرة جــداً

احمد عبدي / المانيا 
” اللقاء الأول “
أيها البحر الهائج …. يا أمــواجاً …
يا هديراً عاصفاً .. تــوقــــف .
 أنا فـوق الرمال أحلم .. 
فـوق أمواج البحر أحلم .. 
أحلم حيث لن يمنعني شيء من أن أحلم .. 
أحلم بالماضي الجميل وأتذكر تلك اللقاءات … والسهر حتى أولى ساعات الصباح ..
أيها البحــر .. توقف .
 توقف قبل أن ألفظ على شاطئ الأحلام الوردية .. وهناك أغرق في الرمال الهشة .. عندئذ سأبحث عمن ينقذني فلا أجـد أحداً أستغيث بــــه ..
شاطئ الأحلام الجميلة رماله هشة للغاية …… ومن كان مثقلاً بالأحلام سوف يغص فيها حتى أن يستقر في أعماق هـــذا الشاطئ الهادئ الوديع ..  
أنا قابع هنا منذ زمن … فوق هذه الرمال الساخنة متمدد .. أحلم بلقاء آت . ملؤها الحب والابتسامات الرقيقة .
أغرق في حلم راودني منذ زمن ليس ببعيد … وأتذكر.. وأتذكر. 
أتذكر ذلك اللقاء الفريـــــــد .. وأنا أهم بالدخول نحو فناء المنزل .. في آخر الممر أراها وهي تجلس بجانب جدتها وبدا 
لي كأنهما نسختان ..واحدة فتية كزهرة بدأت تنفتح منذ قليل ,عبقها يملأ المكان. والأخرى نسخة قد هـرمتْ, ليس بينهمـا 
فرق سوى فرق العمر .. أبهرتني بجمالها الأخّاذ …. ثم جلســــت على كرسي بين الجالسين . بعد أن ألقيت السلام وكان 
الــرد متفاوتاً بين جالس وآخـر وشعرت آنذاك بأنني أغوص في عالـم غير هذا العالم الذي أنا فيه ..                              
أنه اللقــاء الأول بيننــا ….. وبعدها تتالــت اللقاءات .
**************
” اللقاء الثاني “
أقترب الربيع .. وبدأت الأرض تبرز اخضرارها من جديد .. وبعدها راحت الأزهار تزينها بألوان زاهية هنا وهناك …. 
بينما كنت ما أزال قابع فوق الرمال الساخنة على ذلك الشاطئ الهادئ ..
أحلم بلقاء آخر مفعم بنسمات عليلة من نسـمات الربيع ….  
أحـــلم بأيام زاهيــة بعيدة عن ذلك الشاطئ ..
 أحــلم بالرحلات التي تقام فيهــا بكثرة نحــو أطراف المدينة ..
 وحينمـــــا تتوقف العواصف التي تجتــــــاح المدينة بين حين وآخر .. أستيقظ , بل أنتفض من الفراش كثور هائج يبحث 
عن شيء ما قـــــد أزعجــه منذ قليل ….أنه الربيع مرة أخرى .. حيث الرحلات باتجاه الأماكن المعتادة …..وفي خضم 
تحضير الطعام وعادة لا يكون الطعام في الرحلات إلا الشواء وعندما نوشك أن ننتهي من تحضيره كــــان لا بـــــد من 
تقديمـــه للمجموعة التي حضرتْ معنا حيث صعدنا التـلـــة الصـــغيرة والتعب بــدا علينــــــا بوضــوح, وهناك وقبل أن 
نصل , وعند بداية النبع وقرب كهف صغير التقينـــــا….                                                                               
كـان لقــــــاءً مفاجئ وهي بزي مميـــز تضاهي في روعتها وجمالها خضرة وجمال الربيـــع .. لقاء بين الأشجار الكثيفة 
والأحجـــــار المتناثرة في كل مكان . لم تكن لوحدها لكنها كانت الأجمل بينهن بقامتها الطويلة وبلباســـــــها الأنيق التي 
تناسب المكان ,و لم تكن تسريحتها مثل كل مرة وحتى ملامح وجهها التي علتها ابتسامة علها تلت موقف ما أو طرفــــة
قيلت من أحد ما يرافقها ..
تسمرت في مكاني وكاد صحن الشواء أن يسقط من يدي على الأرض فقد كان اللقاء مفاجئ حقاً , وشعرت نفسي بأنني 
في حلم زاهي وأنا أخطي خطوات ثقيلة ثم سمعتها تقول بصوتها الهادئ المعهود :
– مساء الخير …. ثم ابتسمت ثانية 
وقبل أن تتابع سيرها كي تلتحق برفاقها أسعـفت نفسي بصوت منخنق يخرج من أعماق حنجرتي وأنا أرد عليها :
– مساء الخير … مرفقة بابتسامة مماثلة 
تذكرت نافذتي القديمة .. وفراشي الدافئ في ذلك الشتاء البارد ..وتمنيت أن أكون هناك كي أحلم من جديد ..
يوقظني خرير النبع من هذا الحلم الجميل ….
وعندما تأكدت من أن صحن الشواء مازال في يدي… عند ذلك دعوتها إلى حيث كنا جالسين ….
********************
” اللقاء الثالث “
عند كل صباح كنت أقف وراء النافذة أترقب وصولها وكأن بيننا موعد , وصولها كان بنفس الوقــــت دون تأخــــــــر .. 
لحظات قليلة ورائعة .. لحظات وإن كانت كذلك فهي تقبع في الذاكرة ولا يمكن للمرء أن ينساها قط , اللقـاء يمكــــن أن
يوصف بلقاء من طرف واحد بينما هي كانت تمضي إلى مدرستها كملاك يتهادى بتوءدة .. لم أكــن أسـتطيع أن أواجهها 
بسبب الزحمــــة التي كانت تحدث هناك في ذلك الأثناء بالرغــم من أنني كنت أتمنى أن يحصـل ذلك في يوم من الأيـــام 
 فقد كانت تتميز بين زميلاتها بأناقتها الأخاذة .. تحمل كتبها بيدها اليمنى وهي تثنيها نحـــــو الأمام لتسـندها إلى صدرها 
لتكشف لنا عن شعر ذهبي منسدل حتى أسـفل ظهرها بتدفق , وفي الأعلى كانت تزين إنخناقة شعرهـا المنسدل بربطــة 
خضراء تتناسب مع لون الشريط المعلق فوق كتفيها. ونادراً ما كانت تكلم زميلتها التي كانت ترافقها باســـــتمرار كعــادة 
الزميلات المثرثرات في المدرسة .. 
ذكريات جميلة تحرك في الذاكرة وأنا مازلت ممداً فوق الرمال الساخنة .. أحلم .
أحلم بلحظة ثانية وثالثة لذلك اللقاء ..
أحلم بظهورها وراء تلك النافذة القديمة كل صباح..
أحلم … ثم أحلم 
لتعود بي الذاكرة إلى ذلك اليوم حيث التقيت بها صدفة أو بغير ذلك عند تقاطع الشارع .. توقفت كي أمنحها الأفضلية في 
متابعة سيرها نحو مدرستها برفقة الزميلة ذاتها …. وعندما أصبحت بمحاذاتي قالت والابتسامة تعــلو فاهـــــا وهي تقول 
بصوت يكاد أن لا يسمع :
ــ صباح الخير ..
دون تباطؤ أو حتى توقف لبرهة .. وكان الرد مماثلاً .
وعندما أكملتْ سيرها نحو المدرسة أكملت بدوري سيري نحو مركز المدينة وشعور لا يوصف قد تملكني ..    
قائلاً في نفسي : لقد تم ذلك اللقاء .. لقاء كان من طرف واحد 
حقاً لقد تم ذلك اللقاء الفريد . 
******************
” اللقاء الرابع “.. والأخير
عـــــد بي … عــــد بي 
عـــد بي يا بحــر ..
عـــد بي يا بحــر إلى كبد البحر 
وتوقف هناك إلى الأبد …..
حيث الأحلام الوردية .. 
الأحلام باللقاء والكلام والسهر حتى بزوغ شمس يوم آخر , تذكر اللقاءات باتت بالنسبة لي مجرد أوهام طالما تغنيت بها 
طيلة الأيام الفائتة .. لقاء جاء بعد شهور قليلة بعيد ذلك اللقاء …
سهرة ممتدة منذ المساء حاوية كل ما لذ وطاب من مأكولات وحلويات وفواكه وتخللها الغناء والرقص .. جو من الفرح 
والابتهاج بتلك الليلة الباردة والتي تشير إلى ولادة سنة جديدة , 
نحلم بلقاء آت .. نحلم بابتسامات رقيقة ..
نحلم بالذي سيحدث فيما بعــد …
نحلم بأيام الربيع الزاهي ..
نحلم باليوم الذي سندخل فيها الفردوس ونحن ما زلنا نرقص رقصة هستيرية في تلك الليلة ..
نرقص لأول مرة في غمرة الفرح ..
نأكل .. نشرب
ثم نرقص من جديد  
حتى راحت خيوط الفجر تتوضح لنا عندها أدركنا بأن اللقاء بدأ يحتضر ويعلن انتهاءه .. ساعات عدة بدت كأنها بضع 
دقائق أو ثواني … تلاشى كل شيء من فوق طاولة الطعام ولم يبق سوى القليل وخفتت الأضواء من حولنا ..
ثم رحلتْ بهدوء .. 
وخلدت أنا لنوم عميق.. عندما أشرق شمس سنة جديدة 84/
******************
” وداع “
يتلوى الشمس لوهلة ..
ثم يهوي ..
ويسقط من كبد السماء ..
يتدحرج فوق ذرات الرمال الساخنة ..
نحو البحر الهائج ..
ويغرق بين أمواجه ثم بعدها يستقر في قاع البحر ..
ينطفئ آخر شعلة فيه .. ثم يخيم على الكون ظلام قاتم كالقطران ..
أتألم لهذا المشهد وأنا أتأمله من مكان قريب .. يطول الليل , ويأخذني شيء من الغفوة ومرة ثانية أحلم ..
أحلم بذلك اللقاء الجميل وهي جالسة بقرب جدتها ..
أحلم بلقاء ثان بين أزهار الربيع ..
أحلم بتلك الليلة الباردة والسهر معها حتى الصباح..
أحلم بلقاء حدث عند تقاطع الشارع بزمن ليس بعيد ..
وأستيقظ لوهلة منتظراً بزوغ نجمة الصبح .. قبل إغفــــاءة جديدة وإلى الأبد ……. 
**********************

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…