عن القلم والسكين في رواية «أسئلة الدم والندم» الصحفي ماجد الخطيب يكتب:

يضيع القارئ، وهو يطالع رواية «أسئلة الدم والندم» للشاعر والروائي السوري خالد إبراهيم، في متاهة محاكمة كافكا، ويضيع في سوهو، ولا ينتظر وهماً اسمه «غودو» يمكن أن ينقذه من دوامة العنف والدم اليومية الممتدة بين بلدة «عفرين» الكردية السورية الصغيرة ومدينة دورتموند الألمانية.
الرواية، التي تقع في 140 صفحة من القطع المتوسط، عبارة عن مونولوج طويل يتحول أحياناً إلى ديالوغ يجريه الكاتب مع نفسه، أو مع عدد لا يحصى من الأصدقاء والأعداء من شهداء العنف اليومي الجاري في سوريا.
يسترسل الكاتب أحياناً ليتحول حواره الداخلي إلى مقالة حماسية عن حقوق الكرد، تمليها الظروف التي عاشها، لكن ذلك لم يخل ببنية الرواية ومحتواها. لا يبدو أن الكاتب، أفاق من دهشته بعد، ولم يتجاوز صدمة الحروب التي حملها معه من سوريا إلى منفاه. يجالس الشهداء في وحدته «الجليدية» في غرب ألمانيا، ويحتسي الخمرة معهم. يلجأ إلى القصيدة، بين ثنايا السرد، ليسرد ما يعجز قلم الروائي عن وصفه من مشاهد. ينظر في المرآة فتفاجئه الأحداث القاسية التي عاشها مثل صورة مقلوبة مكبرة في مرآة مقعرة يقف صاحبها خارج البؤرة. يمر الشهداء عليه في أحلام يقظته ويعزونه كشهيد اللجوء والمنفى.
في هذا المونولوغ الطويل يؤرخ خالد إبراهيم بعضاً من فصول الحرب الأهلية الدائرة في سوريا، ويزج القارئ في متاهة يتبارى فيها الدواعش والقاعديون و»الأبوجية» و»الأسديون» في سفك دماء الأبرياء. يطارده رجال الأمن والشبيحة الذباحون في الوطن ويلاحقه متطرفو الكرد في غربته. تسكن كردستان فيه، تفاجئه وهو خلف مقود سيارته، تباغته وهو يحتسي القهوة بكثرة على معدة فارغة، هي المعلقة الثامنة على باب القيامة، حسب وصفه، أو مشهد من مشاهد محرقة سينما عامودة، أو عويل ضحايا السجن المركزي في الحسكة.
يتابع الكاتب مشهد القصاب في دورتموند وهو يقطع أوصال الخروف في المتجر التركي، ويتذكر مشاهد الذبح والبسملة الداعشية على أرواح المذبوحين. يتذكر سكين «موفق» كلما حاول طبخ وجبة من اللحم تسد جوعه، فتنقلب معدته وهو يسترجع كلام موفق، الذي يعتبر نفسه من أهل الجنة وعريس الحور الموعودات. يستخدم أزلام النظام، من رجال الأمن والمخابرات والشبيحة، القلم بالطريقة نفسها التي يستخدم فيها الدواعش سكاكينهم لفصل رؤوس المعارضين. والقلم في يد مثقفي السلطة أمضى من السيف: «السكين لغة، والطلقة أيضاً لغة، والفرق بينهما المدة الزمنية لبلوغ الضحية..» تعددت الأسباب والقتل واحد إذن (السكين والطلقة والقلم)…»إذا تم نزع الروح بالسكين أو بالطلقة، فما نسبة تشابه الألم بين الطريقتين؟ وهل الشعور بالخوف واحد؟».
يوازن الكاتب قطبي الفضيلة (الموجب) والرذيلة (السالب) عند أصحاب «القلم والسكين» في مغناطيس المادية الديالكتيكية، ويتذكر أن أرسطو وضع الفضيلة بين رذيلتين قد تكونان الجبن والتهور. ما مصير الفضيلة إذن إذا وقعت بين القلم والسكين؟ يظهر الكاتب في عزلته الشتائية، وانفصامه المنفاوي في دورتموند، مثل «الأخضر بن ابراهيم» يقاسمه نبي اسمه يوسف (من شخصيات الرواية) غرفته المستطيلة، و»يشاركه كل صباح قهوته والحليب وسر الليالي الطويلة». يحلم بالعودة إلى الوطن والأهل والأصدقاء في عتمة لا قرار لها اسمها مسقط رأسه. مدينة هجرها نصف أهلها وتشكل الجثث العدد الأكبر ممن تبقى من سكانها. ليس الزائر الأخير للكاتب في يقظته غير «جنرال الغفلة» الذي تضطهد ميليشياته الكرد أكثر مما تدافع عن حقوقهم. يحاصره أفراد الميليشيا في شقته الصغيرة ويتهمونه، بحضرة الزعيم، بخيانة الوطن، ثم يحاكمونه في مشهد سريالي لا يقل مأساوية عن مشهد محاكمة أليس في بلاد العجائب.
لا يكل خالد إبراهيم في سرده عن عض أصابعه وهو يحاكم أسئلة الدم والندم التي اتخذها عنواناً لروايته.
صدرت الرواية عن دار «الدليل» في العاصمة الألمانية برلين.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أصدرت منشورات رامينا في لندن حديثاً المجموعة القصصية “تبغ الفجر” الشاعر السوري الكردي علي جازو، في كتاب يضم اثنتين وعشرين قصة قصيرة تتنوع بين النصوص اليومية المكثفة والمقاطع التأملية ذات الطابع الشعري والفلسفي.

تتّسم قصص المجموعة بأسلوب سرديّ دقيق، يبتعد عن الزخرفة اللغوية ويميل إلى الكتابة من الداخل. الشخصيات تتحدّث من دواخلها لا من مواقفها، وتُركّز…

خوشناف سليمان ديبو

 

يُعد الأديب والفيلسوف الروسي فيودور دوستويفسكي من أبرز وأعظم الروائيين في تاريخ الأدب العالمي. فقد أدرِجت معظم أعماله ضمن قوائم أفضل وأهم الإبداعات الأدبية وأكثرها عبقرية. وتكمن أعظم ميزات أدبه في قدرته الفذة على سبر أغوار النفس البشرية، وتحليل خفاياها ودوافعها العميقة. قراءة رواياته ليست مجرد متعة سردية، بل رحلة فكرية وروحية تُلهم…

غريب ملا زلال

شيخو مارس البورتريه وأتقن نقله، بل كاد يؤرخ به كسيرة ذاتية لأصحابه. لكن روح الفنان التي كانت تنبض فيه وتوقظه على امتداد الطريق، أيقظته أنه سيكون ضحية إذا اكتفى بذلك، ولن يكون أكثر من رسام جيد. هذه الروح دفعته للتمرد على نفسه، فأسرع إلى عبوات ألوانه ليفرغها على قماشه…

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…