رمضان نجم أومري، حين يصبح الفن جبهة والعود سلاحًا للوجود

إبراهيم اليوسف

لم يكن رمضان نجم أومري مجرد فنان يُتقن العزف والغناء، بل كان ضميرًا حيًا في زمن الخوف، وشاهدًا على أكثر المراحل ظلمة في حياة الكرد في سوريا. لم يبحث عن الأضواء، بل حمل قبس ضوئه في صدره، ووهبه للناس. وفي حين حاولت الأنظمة تكميم الأفواه، تكفّل هو ورعيل من الفنانين الكرد بإيصال صوت القضية من خلال أوتار الطنبور أو البزق والحنجرة. من خلال النغمة والمقام، والكلمة.

سمعت لأول مرة صوت وأغاني رمضان نجم أومري في بداية السبعينيات من القرن الماضي، ويبدو أنه كان في بداياته، إلا أن صوته كان مدويًا آنذاك، أشهر من نار على علم. إذ تحتفظ ذاكرتي وجيلي والأجيال التي سبقتني أو تلتني بحضور وحرمة وقدر لهذا الاسم المضيء، عبرريادة فنه، في ذلك الزمن الذي كانت فيه الأغنية بمثابة جزء من الجبهة المقاومة في سبيل مواجهة أدوات الزوال.

ولد رمضان، ابن قرية سيكرا التابعة للدرباسية، في عام 1941 في بيئة ريفية غنية بثقافة شفوية متوارثة، وتربّى على سماع القصص والأغاني الكردية القديمة. تعلّم مبكرًا أن الفن ليس للتسلية، بل ذاكرة وهوية. رحلته إلى حلب في خمسينيات القرن الماضي لم تكن نزهة، بل بداية اشتباك مع واقع أراد إلغاء وجوده الكردي من جذوره. هناك التقى الفنان نعيم دلال، وتعلم منه أصول العزف على العود، لتتحوّل تلك الآلة البسيطة إلى سلاحٍ مقاوم في يديه.

في السبعينيات، سافر أومري إلى بيروت، حيث عاش وسط حراك فني كردي نابض. شارك هناك في حفلات جمعت رموزًا كـ سعيد يوسف ومحمد شيخو ومحمود عزيز وغيرهم من الرادة المبدعين. لم تكن تلك مجرد مشاركات موسيقية، بل إعلان وجودٍ كرديٍ في وجه الطمس. ومن بيروت إلى بغداد، حيث سجّل أغانيه في إذاعة بغداد الكردية عام 1975، متحديًا الجغرافيا السياسية وقيود المنع المفروضة في بلده، مغنياً للثورة الكردية التي حطمت أسطورة الرعب، ولاتزال رؤاها دليلاً للكردي، للخلاص من أخطبوط المتاهة المحكمة!

عندما أصدر ألبومه الأول في حلب عام 1984، كان قد مرّ بسنوات طويلة من الترحال الفني، والتجارب، والملاحقة بأشكالها، ومنها: الفعلية والمعنوية. غنّى للكرد، للوطن، للحب، لكن الأغنية القومية كانت دائمًا خلف كل لحن، تنبض بقلب حر لا يعرف الانكسار. استمر بعده بإصدار ثلاثة ألبومات، ليصل أرشيفه الفني إلى قرابة 80 أغنية، كانت على مدى عقود صوتًا آخر للشارع الكردي، وحكايةً بديلة تروي ما لا تسمح به الكتب والمناهج المدرسية، كي تكون مادة في المنهاج البيتي، في موازاة المنهاج المدرسي. معلموه مناضلو الكرد: ساسة ومثقفين ومبدعين، وحملة الآلة الموسيقية ووي الحناجر الذهبية، وهو من بينهم، بلا منازع!

رمضان لم يكن وحده في معركته، بل كان جزءًا من طليعة ثقافية كردية تشكّلت في أقسى ظروف القمع. الفنانون الكرد في الجزيرة وكوباني وعفرين، في تلك المرحلة، لم يُنظر إليهم كـ “مطربين”، بل كحراس لذاكرة جماعية مهددة. أغانيهم كانت مختبرًا للوعي، وجسورًا تصل القرية بالمنفى، والتاريخ بالمستقبل.

كل من حمل العود أو الطنبور أو البزق أو الناي أو الدف، حتى كل من غنّى في الأعراس، فحسب، تعرض للمضايقة والمراقبة والتهديد. الأغنية الكردية كانت تُعامل كخطر أمني. لم يكن يُسمح ببثّها في الإذاعة، ولا عرضها على التلفزيون. حتى الأبجدية الكردية كانت محرّمة. وسط هذا الحصار، بقي رمضان في موقعه، لم يغادر سوريا حتى في أوج الحرب، بل بقي في الدرباسية حتى وفاته، وشهد سقوط “قلعة البعث” العنصري، كما وصفها الكثيرون من جيله، واعتبر بقاءه في الوطن تحديًا لا يقل أهمية عن الغناء نفسه.

قدر رمضان أنه ولد في بيئة تكاد لا تعترف بدور مبدعيها ومناضليها، إلا متأخرًا، بعد فوات الأوان، وهو ما لم يثبط همته، ولم يُطفئ جذوة إبداعه، في زمن توقدها. زمن التحدي الكبير، فهو لم ينتظر التكريمات أو الجوائز، ولم يُغنِ طلبًا للشهرة. كان يرى في فنه رسالة، وفي صوته وعدًا، وفي جمهوره امتدادًا للروح الكردية التي لا تموت مهما اشتد القمع.

صبيحة الخميس 17 نيسان 2025، أُسدل الستار على حياة رمضان نجم أومري بعد معاناة طويلة مع المرض. توفي عن 84 عامًا، بهدوء يشبه بداياته، لكنه خلّف وراءه ما لا يمكن دفنه. موسيقاه ستبقى حاضرة، كما بقيت أغاني من سبقه، وكما ستبقى أصوات من سار على دربه.

رمضان نجم أومري لا يحتاج تمثالًا لتخليده، بل يحتاج أن تُروى قصته، وتُدرّس تجربته، ويُعاد الاعتبار لأمثاله من فنانين حملوا عبء المرحلة، وفتحوا للجيل الجديد طريقًا من نور عبر عتمة المنع والخوف.
من حق الفنان أومري ومجايليه الذين رحلوا ويرحلون واحداص تلو آخر أن نكتب عنهم، من واجبنا أن نحفظ  أسماءهم، ومن الضروري أن نرى في  مناسبات رحيلهم فرصة لإعادة فتح دفاتر منسيّة لفنانين عاشوا الكفاح ولم يذوقوا طعم التكريم، إلا جماهيرياً، وخارج الأطر الرسمية، غير الموجودة، في ظل حالة انعدام الدولة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ينظم اتحاد الكتّاب الكُرد في سوريا الدورة العاشرة من مهرجان القصة الكردية القصيرة، وذلك في مدينة قامشلو خلال الفترة الممتدة من 13 حتى 17 حزيران 2025.

يفتح باب المشاركة في المهرجان وفق الشروط التالية:

أن تكون القصة مكتوبة باللغة الكردية.
يجب أن يتراوح عدد كلمات القصة بين 500 و2000 كلمة.
ألا تكون القصة منشورة سابقاً أو…

نظّمت لجنة الأنشطة في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، بالتعاون مع ممثلية اتحاد كتاب كردستان سوريا، ندوة ثقافية في مدينة إيسن، استضافت خلالها الباحث والمترجم والشاعر د. حسين حبش للحديث عن ترجمته لـ”جاثات زردشت” من لغة الأفستا إلى الكردية.

أدار الندوة الكاتب مروان مصطفى، وحضرها نخبة من الأدباء والشعراء والإعلاميين ومتابعي الشأن الثقافي. تناول…

خالد حسو

 

الوطن ليس جغرافيا محفوظة في دفاتر المدرسة،

ولا نشيدًا نردّده قبل أن نغفو على مقاعد الانتظار.

الوطن… أمنٌ يتسلّل إلى نومك دون حراسة،

كرامةٌ لا تُنتزع، ولا يُساوم عليها،

محبةٌ لا يُشترط لها لون أو طائفة أو حدود.

 

الوطن هو هويتك حين تُمحى الأسماء،

حريتك حين تُقيد الأصوات،

وسلامك حين يتحوّل العالم منفى كبير.

 

وإن غاب،

إن سقط من صدرك كما تسقط…

ماهين شيخاني

الإهداء:

إلى الشاعر والباحث Konê Reş

إلى الأب الذي حمل حب زوجته بعد فراقها، إلى من زرع الوفاء في كل زاوية من قلبه،

إلى من عايش الألم وجعل منه قصيدته الأبدية، إلى زوجته التي رحلت في لحظة غادرة،

إلى الوفاء الذي لا يموت.

المقدمة:

في حياةٍ مليئة بالألم والذكريات، يسكن الوفاء مكانًا لا يليق إلا بأصفياء القلوب. رحلة الشاعر والباحث…