محمد فتيلينه يكتب سيرة الخضوع والتمرّد في “مزامير التجاني”

أصدرت منشورات رامينا في لندن رواية “مزامير التجانيّ” للجزائريّ محمد فتيلينه الذي يقدّم عملاً سردياً معقّداً وشاسعاً يتوزّع على خمسة أجزاء، تحمل عناوين دالّة: “مرزوق بن حمو، العتمة والنور، الزبد والبحر، الليل والنهار، عودٌ على بدء. “.

في رحلة البحث عن الملاذ وعن طريق الحرية، تتقاطع مصائر العديد من الشخوص الروائية داخل عوالم رواية “مزامير التجاني”، التي تمثل فصولها إيقاعات سردية متباينة من خلال حركة كثبان الصحراء وأمواج البحر ومطاردة الشخوص لقدرهم، هروبا من واقعهم المأزوم.

تشكّل الرواية ملحمة روحية واجتماعية، ترصد مصائر بشرٍ يتقاطعون بين التصوّف والسياسة والذاكرة المنفية، وتبدأ في قرية “لوزانغي” السنغالية، حيث يتّهم “حمو” بقتل عجوزٍ ستينية، وتُروى تفاصيل الواقعة بروح صوفية محايدة، تقود القارئ إلى التعاطف ثم الشكّ، فإلى تأمّل العدالة الموازية التي تمارسها الزوايا الروحية، التي تتجاوز سلطة الدولة، أو تحلّ محلّها في كثير من الأحيان.

مع دخول شخصية “سيدي عبد الله”، الشيخ الآتي من “بلاد الشمال”، تبدأ الرواية بانعطاف سردي لافت، ينتقل من المشهد الريفي المغلق إلى عوالم من الترحال والهجرة والمنفى، حيث ننتقل فجأة إلى مشهد على متن حاملة الطائرات الأمريكية “هاري ترومان”، حيث التعرف على جنرالات أمريكيين، وأصوات طائرات، ورادارات، وضحايا يتشبثون بالحياة وسط البحر.

يمثّل البحر الأبيض المتوسط في الرواية صورةً ملتبسة: هو مكان للهروب وللموت في آنٍ معاً. تظهر القوارب الغارقة، الرايات البيضاء، الصرخات، ثم يظهر “مرزوق” – الشخصية المركزية التي تمضي في الرواية من مجاز النجاة إلى فضاء الكتابة والتصوّف.

يرتكز سرد الرواية على لعبة مرايا زمنية، حيث نقرأ عن الجنرال الأمريكي الذي تطارده كوابيس الطفولة والتمييز العنصري، ونرى التوازي بين “مايك” الطفل الأسود في أمريكا و”مرزوق” الطفل السنغالي المتهم باللعنة. في هذه المرايا، يكشف الكاتب فصلاً من فصول المعاناة الكونية، من دون تسطيح أو مباشرة.

يعود السرد إلى الزاوية التي يُربّى فيها “مرزوق” بعد الحادثة، برفقة والدته “فطيمة” وزوجها “حمو”، حيث ينشأ صراع خفيّ بين الشخصيات، ويتكرّس الإقصاء والتمييز باسم البركة والخدمة.

الشخصية الأكثر استفزازاً في الرواية هي “دحمان”، ذلك الرجل المتسلّق، الذي يحتل مركز السلطة داخل الزاوية، ويتحكّم في مصائر الآخرين. من خلاله، يكشف النص كيف يمكن للسلطة الروحية أن تتحوّل إلى أداة قمع وتحرّش وتدجين.

الرواية مبنية على تنقّل صوت السارد بين “مرزوق” الراوي الشخصي، والراوي الخارجي، مما يمنح العمل دينامية سردية كثيفة، وتترك القارئ أمام أسئلة مؤرّقة: ما جدوى الخدمة الصوفية إن تحوّلت إلى عبودية؟ هل يمكن للبركة أن تعفي من العدالة؟ ما الذي يبقى من الإنسان إن ضاعت هويته بين بحرٍ وشيخٍ وحقيبةٍ غامضة؟

مما جاء في كلمة الغلاف:

توثّق “مزامير التجاني” الظروف الصعبة التي عاشها أهل السنغال في أواخر القرن العشرين، من فقر وجفاف وهجرة، وتعبّر عن الاضطرابات الناتجة عن تلك الظروف وكيفية تأثيرها على المجتمع.

تتقاطع التقاليد والروحانيّة مع واقع سياسيّ واجتماعيّ معقد في قرية “لوزانغي”، حيث تُلقي جثة دليلة المسنّة ظلالاً من الغموض والتوتّر. الحدث الأوليّ يُبرز دور شيخ الزاوية، سيدي لمبارك، كسلطة روحية وقضائية في مجتمع يواجه تعقيدات الحقيقة والعدالة.

تلعب الزاوية دوراً محورياً كمركز دينيّ واجتماعيّ وثقافيّ، وتعكس الطريقة التجانية القيم الروحيّة التي تحاول موازنة التحدّيات التي تواجهها من شخصيات مثل دحمان. هذا الصراع يعكس التوتّر بين الأصالة والانحراف، بين ما هو ثابت وما يحاول اختراق النسيج الاجتماعيّ.

يكشف محمد فتيلينه عن صراع أبديّ بين الخير والشرّ وهشاشة الإنسان أمام القدر، ويتجاوز سرد الحكاية ليتأمّل في الإنسانيّة ذاتها، حيث تصارع شخصيّات روايته، ليس فقط قوى خارجية، بل صراعاتها الداخليّة التي تعيد بلورة فهم مختلف للعدالة والروحانية والوجود في عالمٍ مضطرب.

تعجّ الرواية بالرموز التي تفتح أبواب التأويل للقارئ، وتُظهر كيف يمكن للتقاليد أن تكون قيداً أو سنداً، وكيف يؤثر الماضي في تشكيل الحاضر والمستقبل، وتثير أسئلة عميقة عن الروحانية والعدالة، منها: هل يمكن للإنسان أن يوازن بين أصالة الماضي ومتطلبات الحاضر، دون أن يفقد روحه في خضم الصراع؟ كيف تؤثّر التقاليد في تشكيل مستقبل المجتمع؟ وهل يمكن أن يكون الإيمان بوّابة لتحقيق العدالة، أم أنّه أحياناً يتحوّل إلى قيد يحول دونها؟ 

تعريف بالمؤلف:

محمّد فتيلينه: كاتب وروائيّ جزائريّ، نال الدكتوراه بجامعة الأغواط بأطروحة: “الموضوعاتيّة في الرواية الجزائريّة، رواية نجمة أنموذجاً” 2021. نشر العديد من المقالات النقديّة عن الرواية العربيّة، والترجمات وعلاقة النقد بالأدب. من رواياته: “بحيرة الملائكة”، “أحلام شهريار”، “غبار المدينة”، “تيمو القاهرة”، “كافي ريش”، “رُعاة أركاديا”، “خيام المنفى”. نال جائزة الطاهر وطار للرواية العربيّة (2019) عن روايته “ترائب، رحلة التيه والحبّ”. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شكري شيخ نبي

 

يا ليل أما أضناك هرج السمار

وانت تشيح مرودك عن الإصباح

 

أما آن للياسمين المعرش على

لسان اللظى أن يغفو عن البواح

 

أنا وانت و قنديل البدر ساه

وهزار يشدو الشجى كأنه المزاح

 

صاح يا نديم الصفا والليالي

لا تحرم شفاه الأقداح من الراح

 

دع الكؤوس تدنو للأقدار بنا

فلا إنفكاك هرم ولا لجم السراح

 

أراني والراحلين في مطي…

خالد إبراهيم

نيسان: الممرُّ بين وجهين، بين صراخٍ وتوابيت

نيسانُ ليس شهرًا، بل شقٌّ في زمنٍ يُجيدُ الانهيارَ على مهل.

كأنّ اللهَ، وقد أرهقه التوازنُ، قرّر أن يُفلت الزمامَ في هذا الشهرِ وحده، فجعلني بابًا تُطرَقه الحياةُ برِضيعٍ يشبهني، وتدخلهُ الوفاةُ بأمٍّ كنتُ أُشبهها… ثم انكسرتُ.

نيسان…

أأنتَ بابُ الولادةِ أم نعشُها؟

أأنتَ طَرقٌ سماويٌّ على نافذةٍ كنتُ نائمًا فيها، أم…

علي شمدين

– 1 –

يعد صدور العدد الأول من جريدة (KURDISTAN )، الذي أصدره الأمير مقداد مدحت بدرخان في القاهرة في (22 نيسان 1898)، بمثابة البداية الحقيقية لإنطلاقة مسيرة الصحافة الكردية التي أخذت على عاتقها خلال أكثر من قرن من الزمن- وبإمكاناتها المتواضعة- مهمة إيقاظ الجماهير الكردية وتعريفها بقضيتها القومية والمساهمة الفعلية في بلورة وعيها القومي…

عن منشورات رامينا في لندن، صدرت حديثاً رواية “الباستيل الصغير” للكاتب الكردي السوري عبد القادر سعيد، في عمل سرديّ يمزج بين التخييل الروائي والتوثيق التاريخي، حيث يغوص في أعماق التجربة الكردية مع القمع، السجون، والخذلان الوطني، عبر بناء سردي محكم يذكّر بسجون الباستيل الفرنسية، لكن بلغة محلية تنبض بالألم السوري والكردي.

تتناول الرواية، الصادرة في طبعتها…