” أبٌ على حافة الذاكرة “

ماهين شيخاني

الإهداء:

إلى الشاعر والباحث Konê Reş

إلى الأب الذي حمل حب زوجته بعد فراقها، إلى من زرع الوفاء في كل زاوية من قلبه،

إلى من عايش الألم وجعل منه قصيدته الأبدية، إلى زوجته التي رحلت في لحظة غادرة،

إلى الوفاء الذي لا يموت.

المقدمة:

في حياةٍ مليئة بالألم والذكريات، يسكن الوفاء مكانًا لا يليق إلا بأصفياء القلوب. رحلة الشاعر والباحث الذي عايش لحظات الحزن العميق بعد أن فقد زوجته في حادث أليم، وحمل مسؤولية تربية أطفاله بمفرده ، هي قصة عن الحب الذي لا يموت، وعن الوفاء الذي يبقى مع مرور الأيام. لا يتعلق الوفاء فقط بتقدير الحظ أو الظروف، بل هو التزام عميق يعكس روحًا لا تستسلم، حتى حين تتهدم كل الأشياء حولنا.

عبر هذا النص، نغوص في تفاصيل حياة هذا الأب، الذي حمل زوجته بعد وفاتها في قلبه، وفي كل خطوة سعى لإحياء ذكراها وفاءً. نرى في رحلته تضحياته، وتشتت قلبه بين الماضى والمستقبل، وبين غربة الذكريات وحنين اللقاء.

إنها ليست قصة فقدان فحسب، بل هي تجسيد للأمل الذي يولد في لحظات اليأس، والإيمان بأن الوفاء هو أسمى أشكال المحبة.

 

أبٌ على حافة الذاكرة

 

الفصل الأول: الحادث

قبل اثنين وثلاثين عامًا، انقلبت الدنيا على رأسه دون سابق إنذار. كان الليل بارداً، والسماء تتنفس من أنفاس الجبل، حين وصلت إليه المكالمة. لم يكن معهم في السيارة، تأخّر قليلًا بسبب محاضرة جامعية ألقيت عليه فجأة. قالت له عبر الهاتف: “سنسبقك قليلاً، الأطفال تعبوا، سنراك هناك.”

لم يرهم بعدها كما كانوا. سيارة العائلة انقلبت على طريق جبلي زلق، فقد فيها زوجته، أم أولاده الخمسة. ثلاث بنات وصبيان، كان أصغرهم لم يُفطم بعد.

وقف عند سريرها في المستشفى، جسدها ساكن كأنّه نام للأبد. لم يصرخ. لم يبكِ. لكن شيئًا في داخله تصدّع، إلى الأبد.

الفصل الثاني: سنوات الوفاء

ربّى أولاده وحده، ضمّهم كما تضمّ الروح الجسد، لم يسمح لأحد أن يشاركهم دفء البيت أو شقاءه. رفض كل محاولات الزواج من جديد. قال لأخته ذات مرة:

– كيف أستبدل امرأة نسجت نصف روحي؟

كان يصحو قبلهم، يعدّ الفطور، يجهّز ملابس المدرسة، يروي القصص في الليل، يدرّس الرياضيات، ويغني للبنات أغنية أمهم التي كانت تنشدها عند نومهم.

سجلّ كل تفاصيلهم في دفاتر صغيرة: “أول كلمة نطقتها هيلين”، “أول يوم في المدرسة لميرا”، “الحمى التي لم تنم فيها جيهان”، كأنه أراد أن يحتفظ بالزمن بين أوراقه.

الفصل الثالث: آخر وداع

مرت سنوات، ثم جاءت الحرب… لعينة الحرب.

ضاقت البلاد بأهلها. قررت ابنتاه الكبريان أن تغادرا إلى أوروبا. لم يكن موافقًا في البداية. قال لابنته الكبرى ميرا:

– لا أريد أن أخسركم مرة أخرى.

أجابته بنبرة مختلطة بالرجاء:

– أبي… نحن نريد حياة. أنت من علمنا أن الحياة لا تعاش في الظل.

 

في صباح السفر، وقف على معبر الحدود. لا يزال يتذكّر ذلك المشهد كما لو كان الآن.

حضن ابنته ميرا بقوة، همس في أذنها:

– انتبهي لأختك، وارسلي لي رسائل كما وعدتِني.

ثم التفت إلى جيهان، التي كانت تبكي:

– لا تبكي… أمك هناك، ستفرح برؤيتكما.

ضحكت جيهان بين دموعها:

– وهل تكتب رسائل إلى السماء؟

أجاب وهو يخفي الدمع:

– نعم يا صغيرتي، وأحيانًا تردّ علي.

غادرتا. وكانتا آخر ما غادر قلبه من بشر.

الفصل الرابع: ظلّ الانتظار

لم ترسلا أي رسالة.

في البداية، اتصلتا كل أسبوع. ثم كل شهر. ثم انقطعت الأخبار، سوى شذرات عبر معارف مشتركين: “انتقلتا إلى ألمانيا”، “إحداهن تزوّجت”، “ربما فقدتا أرقام الهواتف القديمة”.

وهو بقي هنا، بين مكتبته، وأوراقه، وصورهما المعلّقة على الجدران.

صار عجوزًا، لكن عينه لم تشخ، ولا قلبه. حين سُئل إن كان نادمًا على وفائه الطويل، قال:

– لم يكن وفاءً، بل حبًّا مستمرًا… كأنها لم ترحل.

الفصل الخامس: اللقاء المؤجل

بعد سنوات طويلة، سمع طرقًا على الباب. فتح، فوجد جيهان واقفة، نحيلة، بشعر رمادي، تبتسم خجلاً.

– أبي… أنا عدتُ، فقط لأراك.

ثم جاءت ميرا بعد أيام، تحمل هدية بسيطة وصورة لطفلتها. جلسوا جميعًا كأن لا سنوات قد مرت.

قالت له ميرا:

– سامحنا يا أبي… الحياة هناك تبتلع القلوب.

أجابها وهو ينظر إليهما بعين دامعة:

– لا بأس… المهم أنني رأيتكم، قبل أن أغادر.

الفصل السادس: على حافة الصباح

في هذا الصباح، كان جالسًا بين كتبه، يكتب في دفتـره الأخير:

“اليوم، غادرتا بناتي مرة أخرى… لم أرهما منذ الحرب، وإحداهن منذ سنوات قبلها. رأيتهنّ، نعم، رأيتهنّ قبل أن أموت.”

كان يشير إلى رؤيتهنّ وكأنه في الحلم، أو ربما في لحظة صدق داخل ذاته المتعبة.

غمره شعور بالهدوء. الشاعر، الباحث، الأب، العاشق… لم يخسر كل شيء، بل احتفظ بجوهره.

فمن وفى، لا يموت فارغًا.

  • ماهين شيخاني.

12-5-2025

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

أرسل له صديقه، المحامي والمزارع، إيصالًا ماليًا، وطلب منه أن يسلّمه لزميل قديم يعمل في المصرف الزراعي وسط المدينة.

وصل الرجل إلى المصرف، وتوجه مباشرة نحو زميله الموظف قائلاً:

– “هذا وصل مالي من صديقي المحامي، قال لي: سلمه إلى فلان الفلاني، وها أنا قد جئت.”

أجابه الموظف بود:

– “حسنًا، من فضلك اذهب إلى المدير ليوقّع عليه،…

شيرزاد هواري

 

في أكنافِ الزمنِ الموحشِ،

حيثُ الحكاياتُ تنسجُها الأقدارُ بالخيطِ الشائكْ،

خرجتَ، يا عفرينيَّ، من صمتِ الجراحِ،

كالسنديانِ، سامقاً، لا تلينُ لهُ السواككْ.

 

لم تكنْ عابراً في الدروبِ،

بل كنتَ درباً، ونوراً، وسيراً على شوكِ الحقيقةِ،

زرعتَ في تربةِ الوجعِ حلماً،

وسقيتَهُ من نزفكَ صبرَ العتيقةِ.

 

فُصلتَ من الخدمةِ، لا من الكرامةِ،

طوردتَ كأنكَ تُشهرُ وجهاً من نورٍ على الظلمةِ،

سُجنتَ، فازدادتْ روحُك اتساعاً،

كأن الزنزانةَ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

ٱه يا قَلْبي كَم جَرَحَتْكَ القُلُوب

كَمْ لَقَيٍتَ السِهَامَ مَنْ كُنْتَ تَظِنَه ُمَحْبُوب

ٱه يا قَلْبي ظِلْم وَقَسْوَة

رَهَنُوا حُبًكَ بِقَالِبٍ مَقلُوب

ظَنَنتَ حُبَهُم نَقَاء

بَلْ كَانَ وَهْم مُرْمِي عَلى الدُرُوب

تَهْدِيدٌ وَجَهْلٌ وَخٌرَافَات

غَرُوا بِالمَظْهَرِ وَنَسُوا الجَوْهَر مَغْلُوب

********

ٱه يا قَلبْي سَلَبُوا فَرْحَتكَ

نَبْضكَ إحْسَاسكَ بِالنَظَرَات

كَانُوا وُعُوداً كَاذِبَةً

كَالرِيْح تَمُر في ظِلِ النَزَوَات

كَانُوا يَهِبُون السُمَ في الشَهْدِ

يَصْنَعُون البَرَاءَة في المَلَذَات

لَيْسَ العَيْب فِيْنا…

بهزاد عجمو

قبل أربعين عاماً حيث لم يكن قد أخترع الهاتف الجوال والأنترنيت كانت هناك عادة في المناسبات يرسل الناس لبعضهم البعض كرت معايدة وهي عبارة عن صورة بحجم الكف ويكتب المرسل للمرسل إليه خلف هذا الكرت بعض العبارات وفي تلك الفترة كنت في المرحلة الجامعية في حلب بينما أخي شيرزاد كان في المرحلة الابتدائية في…