عبد الوهاب بيراني
كان دأب الإنسان ومنذ القدم حماية جسده من حر الصيف وقر الشتاء، وكان عليه أن يرتدي ما يستر جسده، وكانت مراحل تطور ثياب الإنسان تعبر عن فكره ووعيه، وتعبر عن علاقته ببيئته ومحاولته في التلاؤم معها، فقد ستر جسده بأوراق الشجر وجلود الحيوانات وصولاً لصناعة خيط القطن والصوف والكتان، وهذا يُعد مرحلة متطورة من مراحل إعداد الأزياء، وتطورت هذه الصناعة، والتي تعد جنباً إلى جنب مع التطور الغذائي من أقدم المهارات، التي لجأ إليها الإنسان القديم منذ العهد النيوليتي الحديث.
ومن خلال أنشطة الإنسان المختلفة وعبر مراحل متقدمة، بدأت الأزياء تأخذ أنماطاً مختلفة لكل منطقة من مناطق العالم، تبعاً للبيئة ومن هنا نجد تلك الفروقات بين أزياء سكان الغابات عن غيرهم من سكان الجبال إلى آخرين يقيمون على شطآن البحار، كما أن الأزياء تختلف حسب درجات الحرارة من إقليم الى آخر، ولم تكن الأزياء تعبر عن انتماءات دينية أو عرقية، ولم تكن تحمل رموز طقوسية وإشارات دينية أو تعبيرات عن الجنس والمكانة الاجتماعية أو الدينية، ولم تكن ثمة فروق كبيرة بين أزياء الرجل والمرأة، فأغلب الآثار الموجودة في متاحف العالم تمنحنا فرصة الاطلاع على طبيعة الأزياء، وأشكال الأثواب، التي ارتداها الإنسان قبل العصور التاريخية.
إن الآثار التي تم العثور عليها في الحضارات القديمة؛ تبين بوضوح الخطوط الدقيقة للأزياء وخاصة آثار السومريين في ميزوبوتاميا والفراعنة في حوض النيل وحضارة البيرو وحوض الكاريبي عند شعوب الآنكا، والأزتيك وأزياء شمال أمريكا وسكان الإسكيمو، جميعها تعكس تراث وحضارات شعوب كل منطقة، وبالتالي؛ فإنها تشكل قيماً ثقافية أصيلة مازالت مستمرة إلى اليوم، والتي يمكن من خلالها دراسة تاريخ المنطقة وتاريخ شعوبها.
وليس أمراً جديدا القول، إنه يمكن التعرف على الشعوب من خلال أزيائها، كما يمكن التعرف على كل مهنة أو طبقة من خلال الأزياء، فالجنود والمحاربون لهم نمط ما، وكذلك رجال الدين، حيث ثيابهم تدل على انتماءاتهم الدينية ومراتبهم ضمن الدين أو الطائفة، ولكل مهنة ثيابها كما لكل مرحلة عمرية ثيابها الخاصة، وأختلفت الأزياء لاحقاً بين المدينة والريف، وأختلفت ثياب الرعية عن ثياب الأمراء والملوك، وشكلت الأزياء تعبيراً ومنعكساً عن حالة الفقر أو الثراء وفي كل المجتمعات.
ولعل السمة الأبرز بين الأزياء هي تمايز ثياب الرجل عن المرأة، حيث ظهرت الفروقات واتجهت المرأة إلى تصاميم وألوان مختلفة، والمرأة التي اخترعت اللغة، هي التي اخترعت أيضا مفردات الطبخ، وأيضا هي من خاطت الثوب الأول، والتي هيمنت لفترة طويلة على صناعة الغذاء والملبس، وبذلك تفننت في تفصيل الأزياء الخاصة بها، والتي تعتبر تحفاً فنية، وذلك من خلال التصاميم والألوان والإكسسوارات من أخمص القدمين إلى غطاء الرأس.
كانت المرأة الكردية سباقة وعبر التاريخ إلى توافق أزيائها بما يلائم بيئتها وبيئة موطنها من حرارة وبرودة، وأيضاً تبعاً لحركتها وعملها، كما كانت أزياؤهن تعبيراً عن روح ثقافة الشعب الكردي وتراثه وحضارته، وبذلك ساهمت المرأة الكردية في منح العالم أنماطاً من الأزياء، والتي حافظت عليها منذ ظهور الحضارة السومرية إلى اليوم ولعل مقارنة بسيطة بين آثار المنطقة في الشرق الأوسط وميزوبوتاميا وخاصة المرحلة التاريخية من مملكة الميتانيين، والتي مازالت تحافظ على أسمائها المستمدة من تلك الفترة، فيطلق على الخفتان تسمية الخفتان الميتاني، كما أن تعبير ميدي أو الثوب الميدي، نسبة للإمبراطورية الميدية، التي شملت مناطق واسعة من كردستان الحالية إضافة لمناطق واسعة من الهضبة الإيرانية، وأذربيجان وسفوح زاغروس.
تتنوع الأزياء وتصاميمها وألوانها، وتختلف بتنوع واختلاف الشعوب وثقافاتها، والشعب الكردي واحد من شعوب المنطقة والذي أثر على خطوط الموضة، وتأثر بغيره من شعوب المنطقة، ويتميز الزي الكردي عن غيره من أزياء الشعوب من حيث عدد القطع والألوان وأغطية الرأس والإكسسوار، فهي أزياء تعبر عن التقاليد والثقافة وتعبر عن احترام البيئة وملائمة المناخ، ومراعاة الحشمة وإبراز وقار المرأة الكردية ومكانتها ضمن الأسرة والمجتمع ككل.
عموما زي المرأة الكردية يتكون من ثوبين (Kiras, Binkiras) وسترة (Qutik) وسروال طويل (Deling)، والثوب يأخذ أنماطاً فضفاضة وأكماماً واسعة تنتهي بلواحق من ذات القماش Hoçik تتدلى على الجانبين مثل جناحين ، فالتصميم العام لزي المرأة الكردية مستمد من شكل الحمامة، وهو رمز قديم للسلام والجمال في الميثولوجيا الكردية، وهو رمز ميتاني أصيل كما كشف عن ذلك الكشوفات الأثرية.
والزي الكردي زي يسمح بالحركة والعمل وفي جميع فترات النهار والليل وجميع فصول السنة، ويتوزع الزي الكردي على عدة ألوان، وتصر المرأة الكردية على اختيار أقمشة ذات ألوان حارة وزاهية تشابه جمال الطبيعة وتنوع ألوان زهور الصيف والربيع، ونكاد لا نعثر على ألوان قاتمة رغم الشتاء القارص في المناطق الكردية، كما تلجأ المرأة الكردية إلى إضافة إكسسوارات معدنية من الذهب والفضة والتزيين بالخرز وتطريز الأثواب بخيوط ذهبية خاصة فيما يخص السترة Qutik والذي يتم ارتداؤه شتاءً لتبدد كآبة الشتاء، وهذه الخيوط والأحزمة من Gerden كردن و Şuhî شوحي تكون حسب درجة الثراء، فهناك من يستبدلن الأحزمة القماشية بحزام مزين بقطع من الفضة أو الذهب، كما يستعاض عن الذهب اختيار معادن مغموسة بماء الذهب، إضافة لمشد يحيط بخصر المرأة يسمى الـ كمر Kemer، ويتم تزينيه بإضافة مشغولات يدوية من الخيوط الملونة تتدلى من خصورهن، كإضافة جمالية للثوب.
ولكل منطقة تصاميم مختلفة وأسماء تختلف حسب لهجات اللغة الكردية، لكن جميعها تشترك بالطراز العام mûdêl والذي يعد هوية تراثية تختص بها المرأة الكردية دون سائر الشعوب المجاورة إلى جانب بعض الاختلافات البسيطة التي تتوضح لطريقة تصميم أغطية الرأس عند المرأة الكردية، والذي يأخذ أشكالا متعددة، وقطع متعددة ،فإنه في مناطق معينة يتألف من قطعتين أو ثلاثة من الهباري والكتان الابيض إضافة إلى الـ xavik ويتم اختيار الوان نيلية، وتأخذ الزخرفة وتناسب الألوان ونوعية النسيج دوراً في إبراز جماليته وانعكاس ذاك الجمال على جمال الازياء عموماً، وغطاء الرأس علامة هامة ومنه يستدل على جغرافية وانتماء المرأة لإقليم ما ومكانتها، وتندرج الأزياء الكردية من مناطق روج آفا إلى مناطق شنگال وصولاً إلى مناطق ديركا جاي مازي، كما أن المناطق الكردية في سوريا تشهد اختلافات في تصاميم الأزياء، فالزي العفريني يختلف عن الزي الكوباني، واللذان بدورهما يختلفان عن زي المرأة الكردية في الجزيرة، وهذا التنوع ليس نقيصة، وإنما هو مصدر جمالي وإثراء لإشكال التصاميم الفنية للأزياء الخاصة بالمرأة أو الرجل والأطفال أيضاً، فمن خلاله يتم التعرف على منطقتها وأيضا الاستدلال على مكانتها ضمن العائلة، وانتمائها العشائري، وهو أمر في غاية الأهمية، باختلاف المناطق، وإن اتفقت التقاليد تبعا لعمرها ومكانتها، فيمكن معرفة المرأة الكردية من مناطق الكيكان عن مثيلاتها من الملان، وهكذا عن الكوجريات ،وهذا يعكس طبيعة المجتمع الكردي وتقاليده وتنوعه، فلكل منطقة لون مختلف ، فهناك اللون الأسود المنقط بالأبيض والأحمر ويختلف حجم قطعة القماش وطريقة لفه حسب رفعة ومكانة المرأة، التي ترتديها، وهناك عدة طرق لارتدائها منها: طريقة اللف وطريقة “كونيكي” والتي تشبه منقار طائر القمري.
والهبرية كانت تصنع من الحرير الطبيعي في مناطق مختلفة من كردستان، ومنذ زمن بعيد، واشتهرت مدينة الموصل بهذه الصناعة، ولذلك تسمى بالهباري الموصلية، وبقيت الموصل أهم مكان لصناعة ونسج خيوط الحرير وصناعة الهباري إلى أن تم قصف المعمل عام ١٩٨٠ من قبل إيران، أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وتم نقل صناعة الهباري إلى مناطق مختلفة مثل حلب وآمد وغيرها.
ويتألف غطاء الرأس من هبريتين ملونتين، واحدة لتغطية الرأس والثانية تتدلى على الصدر وإلى الخلف، أما الصبايا ، فإنهن يغطين رؤوسهن بمناديل حريرية دون تحزيم الرأس أفقيا على مستوى فوق الجبهة وربطه بعقدة من الخلف أو تصميمه ضمن اللفات المتعددة، وإما أن تتخذ من الكتان الأبيض النقي أو المائل للزرقة النيلية، والمشغول بالخرز على مجمل محيط الكتان لمنحه الثقل لمقاومة حركة الريح.
والهبرية لا تشبه الحجاب الديني الذي يغطي كامل شعر المرأة، وإنما هي قطعة قماش ملونة من الحرير الطبيعي أو الصناعي تظهر سوالف، أو “كذلة pêş enîk -بيش عنيك” أو لتغطية التسريحة التي تعتمد الشعر الممشط والمبروم، والمتصل بجديلتين تتدليان على كل جانب من الصدر.
ويتخذ غطاء الرأس أسماء عدة هي “كلاو”، و”تبله”، و”وشكي”، و”بوشيه”.
وللهباري أنواع عدة ومنها :Kulîlîkê Mûssil,qirka kebukê,hina belakirî,deq hinê,ومن الوانها الأحمر، والأزرق، والمرقع بالأسود والأحمر، أو الأسود والأبيض، والأبيض والأسود والأحمر المسمّى (وارد)، وألوان الهباري تختلف حسب سنّ المرأة من الأحمر الفاقع والأصفر المائل للون البرتقالي الذهبي على مساحة سوداء، إلى الأسود، أو الأزرق.
باتت الهباري اليوم من التراث والفلكلور، ومازالت النساء الكبيرات في السن ترتديها في مناطق متنوعة من كردستان، وشهدت السنوات الماضية عودة للزي الكردي ككل وبالتالي عادت الهباري تيجانا تزين رأس الفتيات الكرديات، ونشاهد الهبرية على رؤوس المقاتلات في صفوف القوات العسكرية كما أن مقدمات البرامج في القنوات الكردية يظهرن مرتديات أزياء كردية، ويشكل ذلك إرسال رسالة جميلة عن جمال المرأة الكردية وجمال ثيابها إلى العالم، كما تشهد احتفالات عيد نوروز والمناسبات القومية وحفلات الزفاف العديد من التصاميم الحديثة المستمدة من التصاميم التراثية، وتواظب دور الأزياء على تقديم تصاميم جديدة وخاصة في مراكز المدن مثل قامشلو، وهولير، والسليمانية وآمد ومناطق سنندج، والتي تدل على أصالة التراث وأهميته وضرورة الحفاظ على كل ما يتعلق بالأزياء الكردية سواء للمرأة الكردية أو الرجل وصولاً للأطفال والفتيات.