التائهة

يسرى زبير
في عالمٍ منسي، مُنسوج من ذكريات الماضي، ترقد في الذاكرة أطياف أرواحٍ أبت أن تعيش دون البراءة.
جلست أفيندا تهزّ المهد، والدموع تنهمر على وجنتيها. كانت عيناها مسمّرتين في الأفق، حيث تتجلى أمامها مشاهد العذاب الذي عاشته. تخيلت نفسها مقيدةً، معذّبةً بكل الوسائل. تلعثمت كلماتها وهي تحاول النطق، وكأن لسانها المقطوع أخذ معها حريتها وصوتها إلى الأبد.
تراقصت الآلام أمام عينيها العسليتين، بينما كان جسدها المهزول يتربع في مكانٍ لا تعرفه، في منزلٍ لا تعرف أصحابه. كان الجو شتويًا قارسًا، وأوراق الأشجار الميتة تتطاير في الهواء، حاملةً معها الغبار الذي تراكم على المهد، كأنه يحجب البراءة عنه.
تنهدت أفيندا، وعيناها تشعّان حزناً عميقًا، وهي تستحضر مشاهد التعذيب التي تعرضت لها. تردد في ذاكرتها كلماتها الأخيرة قبل أن تفقد لسانها:
أريد أن أعيش في وطن يحفظ كرامة شعبه وحقوقه.
مرّت كوابيسها كأطياف سراب، تجسد أمام عينيها صور بشعة، حيث تم ربطها من قدميها وألقوها مقلوبةً، كجسد مذبوح على مشرحة. كانت أصواتهم القاسية تعلو. يتسابقون على السخرية منها، إذ كانوا يضحكون على صرخاتها الممزوجة بالوجع:
لسانكِ عبءٌ عليكِ، سنخلصكِ منه لتعيشي بسلام.
اختلطت ضحكاتهم بصدى صرخاتها، وهم يرددون بسخرية:
تريدين أن تعيشي بكرامة، يا…
تمنّت أفيندا لو كانت صماء وعمياء، كي لا ترى أو تسمع كلماتهم وأفعالهم. ذكرياتها بدأت تتداعى ككابوسٍ لا ينتهي، حاولت أن تعبّر عن معاناتها بحركات يديها المرتجفة، وكأنها تبحث عن مخرج من عتمة الألم.
كان كل شيء صامتًا، إلا أن تلك اللحظات كانت تسيطر على مخيلتها وتثير في نفسها الرعب، فهي لا تزال تتذكر:
تدلى جسدي وانهارت قواي. بعد ثلاثة أيام من التعذيب، لم أرَ سوى أشباحٍ بهيئة وحوش، يحملون سكاكين كبيرة.
توسلت أفيندا إلى الله بصمت، للخلاص من عذابها، لكنها لم تجد سوى يد قذرة تمتد إلى فمها. تذكرت همساتهم الخبيثة:
هل نفقأ عينيها أم نقطع لسانها؟
كانت حنجرتها تحترق، والوجع يخترق أوصالها ويتسلل في كل عضوٍ من جسدها. نزف الدم بغزارة من فمها، حتى فقدت الوعي من شدة المعاناة والجوع. وعندما استعادت وعيها، وجدت نفسها مرمية على الأرض في زنزانة مظلمة، حيث كانت الأيام تمضي ببطء، كأنها دهور.
مرت الشهور والسنوات، وأفيندا ما زالت عالقة بين  العذاب واللاوعي. تمسكت بأمل ضعيف للخلاص. حتى جاء ذلك اليوم الذي سمعت فيه صوتًا يقول: أنتم أحرار… لقد سقط الأسد.
في تلك اللحظة، أدركت أفيندا حجم مأساتها. ورغم الحرية التي نالتها، بقي لسانها مقطوعًا  وظلت خرساء. خمس سنوات من الظلام تركتها عاجزة عن النطق، وهي تهمس في أعماقها:
من أنا؟

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالرزاق محمود عبدالرحمن

كان في صدري شرفة تطل على سماوات بعيدة،
أعلق عليها أمنياتي كفوانيس صغيرة،
حتى وإن كانت الحياة ضيقة، كنت أزيّنها بخيوط من الأمل،
أجمع فتات الفرح، وأصنع منه أحلامًا تكفيني لأبتسم.
كنت أعيش على فكرة التغيير، أتنفسها كل صباح،
وأخطط، وأتخيل، وأصدق أن الغد قد يجيء أجمل.

أما الآن…
فالنوافذ مغلقة، والستائر مثقلة بغبار الخيبات،
وألواني باهتة، وفرشاتي صارت ثقيلة بين…

عِصْمَتْ شَاهِينْ اَلدُّوسَكِي

وَدَعَتُ فِي نَفْسِي ضِيقَ الْحَيَاة

وَأَلَمَّ الْأحْزْانِ والْجِرَاحَات

أَذْرُفُ الدُّمُوعَ بِصَمْتٍ

كَأَنِّي أَعْرِفُ وَجَعَ الْعَبَرَات

أُصِيغُ مِنْ الْغُرْبَةِ وَحْدَتِي

بَيْنَ الْجُدْرَانِ أَرْسُمُ الْغُرْبَات

 

**********

يَا حِرمَاني الْمُكَوَّرِ فِي ظَلَامي

يَا حُلُمي التَّائِهِ فِي الْحَيَاة

كَمْ أشْتَاقُ إلَيْكَ وَالشَّوْقُ يُعَذِّبُنِي

آَهٍ مِنْ شَوْقٍ فِيه عَذَابَات

لَا تَلَّومْ عَاشِقَاً أَمْضَى بَيْن سَرَابٍ

وَتَرَكَ وَرَاءَهُ أَجْمَلَ الذِّكْرَيَات

**********

أَنَا الْمَلِكُ بِلَا تَاجٍ

أَنَا الرَّاهِبُ بِلَا بَلَاطٍ

أَنَا الْأَرْضُ بِلَا سَمَوَات

وَجَعِي مَدُّ الْبَحْرِ…

ميران أحمد

أصدرت دار ماشكي للطباعة والنشر والتوزيع مؤخراً المجموعة الشعرية الأولى، للشاعر الإيزيدي سرمد سليم، التي حملت عنوان: «ملاحظات من الصفحة 28»، وجاءت في 88 صفحة من القطع المتوسط.

تأتي هذه المجموعة بوصفها التجربة الأولى للشاعر، لتفتح باباً على صوت جديد من شنكال، يكتب من هوامش الألم والذاكرة الممزقة، بلغة جريئة تشبه اعترافاً مفتوحاً على الحياة…

حاوره: إدريس سالم

تنهض جميع نصوصي الروائية دون استثناء على أرضية واقعية، أعيشها حقيقة كسيرة حياة، إلا إن أسلوب الواقعية السحرية والكوابيس والهلوسات وأحلام اليقظة، هو ما ينقلها من واقعيتها ووثائقيتها المباشرة، إلى نصوص عبثية هلامية، تبدو كأنها منفصلة عن أصولها. لم أكتب في أيّ مرّة أبداً نصّاً متخيّلاً؛ فما يمدّني به الواقع هو أكبر من…