الملحمة الكردية في رواية «مائة عام من العزلة»

ميران أحمد
في عالم يموج بالصراعات، تصبح الحكايات مرآة تعكس آلام الإنسان وآماله. الأدب، بما يحمله من رمزية وعمق، لا يُخبرنا فقط عن الماضي أو الخيال، بل يفتح لنا نوافذ لفهم الحاضر. ففي رواية «مائة عام من العزلة»، للروائي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز نعيش في ماكوندو، حيث تذوب الحدود بين الواقعية والسحرية، وتتصارع الشخصيات مع الزمن واللعنات، وكأنها تجسّد صراعاً إنسانياً أبدياً ضد عبثية الحياة.
لكن، ماذا يحدث حين ننقل عدسة الأدب إلى واقع معاصر؟ إلى غربي كردستان، حيث يعيد الكرد كتابة حكايتهم الخاصة وسط حطام الحروب وتناقضات القوى الكبرى. هناك، تصبح العدالة قضية مصيرية، والمرأة حارسة للحرية ورمزاً للمقاومة، بينما تتحول الحياة اليومية إلى ملحمة تتخطى حدود الخيال.
 
الزمن كحلقة أبدية:
في رواية ماركيز «مائة عام من العزلة»، يتحرك الزمن في دوائر، حيث تبدو الشخصيات محكومة بتكرار أخطاء الأجيال السابقة، وكأنها عاجزة عن تحرير نفسها من إرث الماضي. كل جيل يحاول إعادة تعريف مصيره، لكن لعنة الزمن تجعل كل شيء يدور حول ذاته، مما يخلق شعوراً باليأس والتكرار الأبدي. الزمن في الرواية ليس خطاً مستقيماً يمتد نحو المستقبل، بل دوامة تُعيد إنتاج نفس الصراعات والمآسي، وكأن القدر يسخر من محاولات الإنسان للهرب منه.
الكرد السوريون يعيشون هذه الدائرة الزمنية بطريقة مختلفة لكنها متشابهة في جوهرها. فالنضال الكردي ليس جديداً، بل هو إرث يعاد خلقه في كل جيل. منذ سقوط الدولة العثمانية ومروراً باتفاقية سايكس بيكو، حيث ظل الكرد عالقين في لعبة القوى العظمى، بين وعود وهمية بالاستقلال ومحاولات التهميش المستمرة. وكأن الكرد السوريين، مثل ماكوندو، لا يستطيعون الهروب من هذه الدورة الزمنية المغلقة، حيث يصبح الماضي شبحاً يطارد الحاضر، ويظل المستقبل محجوباً خلف ستار من الضباب.
لكن في الوقت نفسه، هناك قوة في هذا التكرار. الزمن الذي يبدو كعدو يمكن أن يتحول إلى سلاح، إذ يعيد الشعب الكردي تعريف نضاله في كل دورة جديدة. في غربي كردستان، يُعاد تشكيل الحلم الكردي في كل جيل، ويظهر الإصرار على كسر اللعنة، ولو ببطء.
المرأة: حارسة النار المقدسة:
إن المرأة في «مائة عام من العزلة» ليست مجرد شخصية ثانوية، بل هي مركز العائلة والمجتمع، والحارس الحقيقي لذاكرة ماكوندو. أورسولا، مثلاً، تقود عائلة بوينديا عبر العقود، وتصبح رمزاً للاستمرارية في مواجهة الفوضى. النساء الأخريات يحملن عبء الألم والصراع، لكنهن دائماً يمثلن النواة الصلبة التي لا تنهار، حتى حين يسقط كل شيء من حولهن.
تلعب المرأة في غربي كردستان دوراً مشابهاً، لكنه يمتد إلى ما هو أبعد من الحماية. المرأة الكردية لم تعد مجرد حارسة للنار المقدسة، بل أصبحت هي النار ذاتها. من مقاتلات جسورات إلى قياديات سياسيات يقدن المجتمعات المحليات، تقف المرأة الكردية كرمز للكرامة والحرية. المرأة لا تحمل السلاح فقط للدفاع عن وطنها، بل تحمل معها إرثاً ثقافياً وهوية معرفية تمتزج فيه معاني النضال من أجل تحرير الذات والمجتمع والوطن.
إن دور المرأة الكردية يشكل رسالة عالمية تتجاوز حدود الجغرافيا، مفادها أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع، وأن الطريق إليها يتطلب مواجهة القوى التي تحاول تقييدها. يمكننا أن نتخيل شخصية مثل أورسولا في رواية «مائة عام من العزلة» وهي تقف بجانب مقاتلة كردية، يتشاركن نفس الهموم والصراعات، إذ أن كليهما يحارب الظلم بطريقتهما، الأولى عبر الصمود الداخلي، والثانية عبر المقاومة الميدانية.
العدالة: سراب أم حقيقة؟
العدالة في رواية ماركيز هي مفهوم يظل بعيداً عن متناول الشخصيات، وكأنه حلم يراودها لكنه دائماً يهرب منها. في ماكوندو، تتكرر الأخطاء نفسها، ويظل الظلم قائماً، وكأن العالم مصمم ليكون مكاناً غير عادل. العدالة هنا ليست مجرد غياب للظلم، بل هي الحلم الذي يحفز الشخصيات على الاستمرار، رغم علمها أن الطريق إليها محفوف بالعوائق.
في غربي كردستان، العدالة تأخذ شكلاً مختلفاً، لكنها تحمل نفس المأساوية. الشعب الكردي يبحث عمن يعترف بحقه في الوجود، يعترف بموطنه الحقيقي والتاريخي والجغرافي، وعن حق تقرير المصير الذي يُنكر عليه باستمرار. العدالة بالنسبة للكرد ليست مفهوماً قانونياً فحسب، بل هي صراع وجودي يعكس توازن القوى في العالم.
ما يجعل هذا البحث أكثر تعقيداً هو أن العدالة ليست فقط ما يسعى الكرد لتحقيقه، بل هي أيضاً ما يتم التلاعب به من قبل القوى الكبرى. العدالة تصبح أداة في أيدي من يملكون القوة، تُباع وتشترى حسب المصالح. ومع ذلك، يظل الشعب الكردي، مثل عائلة بوينديا، يواصل النضال، لأن مجرد السعي نحو العدالة هو فعل مقاومة ضد الظلم.
واقعية سحرية أم واقع مأساوي؟
ما يميز رواية «مائة عام من العزلة» هو أسلوب الواقعية السحرية، الذي يمزج بين الخيال والحقيقة، ليخلق عالماً يبدو مألوفاً وغريباً في الوقت ذاته. في ماكوندو، تُصبح الأحداث الخارقة للطبيعة جزءاً طبيعياً من الحياة اليومية، مما يجعل الحدود بين الخيال والواقع غير واضحة.
وفي غربي كردستان لا تحتاج الواقعية إلى السحر لتبدو خيالية. الواقع نفسه، بما يحمله من تناقضات وأحداث تفوق الخيال، هو ما يجعل هذه المنطقة أشبه بحكاية أسطورية. كيف يمكن لشعب، وسط الحروب والضغوط الدولية، أن يبني نموذجاً للحكم الذاتي، ويحافظ على ثقافته وهويته؟ يبدو هذا السؤال أشبه بسؤال عن معجزة، لكنه واقع حقيقي في جغرافية الكرد.
الحرية: إرث الألم والمقاومة:
في نهاية المطاف، «مائة عام من العزلة» ليست رواية عن الفشل بقدر ما هي رواية عن الأمل الذي يستمر رغم كل شيء. عائلة بوينديا، رغم كل أخطائها ولعناتها، تظل تحاول إعادة تعريف نفسها. الحرية، في هذا السياق، ليست انتصاراً نهائياً، بل هي فعل مستمر من المقاومة.
والكرد يمثلون هذا النوع من الحرية. إنها ليست أرضاً محررة بالكامل، وليست قضية انتهت بحلٍّ واضح. لكنها رمز للمقاومة المستمرة، لشعب يرفض الاستسلام، ويعيد بناء هويته في وجه كل محاولات الطمس. الحرية الكردية هي إرث من الألم، لكنها أيضاً وعد بمستقبل أفضل، مكتوب بدماء الشهداء وصمود الأحياء.
حكاية بلا نهاية:
مثلما تختتم رواية «مائة عام من العزلة» بجملة تربط النهاية بالبداية، فإن قصة الكرد تظل غير مكتملة. إنها ليست مجرد مكان أو شعب، بل هي فكرة أزلية عن المقاومة ضد الظلم، وعن الإنسان الذي يرفض أن يكون مجرد رقم في لعبة الكبار. الأدب قد لا يغير الواقع، لكنه يجعلنا نفهمه، ويحفظ لنا حكايات الذين عاشوا وماتوا في سبيل الحرية.
ويظل الكرد، مثل ماكوندو، رمزاً للحكايات التي لا تموت، وللأصوات التي لا يمكن إسكاتها، مهما طال الزمن، ومهما كثر المستبدون.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

عطستْ عشبة في نومها
فتنبهتْ لها صخرة في أقاصي الأرض
ترددَ صداها في قرن أيل متوَّج بسهله
حدث زلزالٌ في رقعة نائية عن صخب العالم
صرخ المحيط القطبي: ماذا سيجري بعد ؟

* * * *

غازل يعسوبٌ يعسوبته
أغميَ على صوفيّ مخضرم في الجوار
شهق ورق على وشك نفاد أنفاسه الأخيرة
اشتعل فحمٌ حجري على مبعدة كافية
أطلق نمر فتي لساناً دفيئاً لاحتضان…

إبراهيم محمود

يمارس الشّعر حضوره الفعلي ضد الذاكرة، فالذاكرة صنمية، والشعر ناسف الصنمية، رغم أن الذاكرة هذه مسكنها، لكن بمثابة ” حديقة الحيوان ” التي تزعم أنها تحمي حيوانها من الانقراض، سوى أن جغرافيتها المكانية، ومساحتها المسوَّرة، وكيفية التعامل معها، تعريض تدريجي لها للانقراض، وهو إجراء غبي يترجم مدى أهلية الإنسان للتدجين ونسيان أنه أصلاً كائن…

ابراهيم البليهي

المعضلة البشرية الأشد استعصاء وصلابةً والأقوى هيمنة والأكثر استيلاء على العقول والعواطف هي الأنساق الثقافية التي تتوارثها الأمم إنها تملك ولا تُملك وتمارس هيمنتها المطلقة على العقول بمنتهى التلقائية والخفاء والانسياب حيث تتبرمج كل الأجيال من كل الأمم بما تبرمج به أسلافها إن التطبُّع بالأنساق الثقافية المتوارثة ينساب تلقائيا وبشكل حتمي من كل جيل…

عبدالرزاق عبدالرحمن

الجهاتُ مبهمة،
لا شيء واضحٌ سوى أنَّ الوقت شتاء.
البردُ إبرٌ توخز وجهَك المصفر،
ولا أحدَ فوق هذا الجسرِ الموحش سواك،
وأوراقُ شجرٍ متناثرة كأفكارك هنا وهناك.

لا رفيقَ لكَ في هذا الدربِ الطويل
سوى تبغِك المبللِ وهذا الحملِ الثقيل.
الجهاتُ مبهمة،
ولا شيء واضحٌ سوى أنَّ الوقت مساء.

إلى أين أنت ذاهبٌ، أيها الكردي؟
ستضيع.
لا شيء يلوحُ بخيرٍ في الأفق،
فعدْ بحقيبةِ خيباتِك مهما…