جوان سلو
“الرهان متواصل والخسارات أيضاً، فكل حركةٍ باستثناء الركض خلف الكرة، كانت تحمل له شيئاً من الخسارة”
الإدمان على الرهانات الخاسرة هو حالة تصف الشخص الذي يجد نفسه متورطًا في عادة الرهان بشكل متكرر ومستمر على أشياء مثل القمار أو الألعاب الرياضية أو أي نوع آخر من الرهانات، مع تكرار فشله في تحقيق الفوز أو تحقيق النتائج المرجوة. والذي يدمن ذلك يجد صعوبة في التوقف عن الرهان، حتى عندما يكون على علم بأن هذا السلوك يؤدي به إلى خسائر مادية واجتماعية وعاطفية كبيرة. وتراكمٍ للديون، وتدهورٍ في العلاقات الاجتماعية والعائلية والوظيفية، ومشاكل صحية نفسية مثل القلق والاكتئاب. مغموراً في دورة من السلوك الضار حيث يُعيد الرهان مراراً وتكراراً في محاولة لاستعادة الأموال التي فقدها، ولكن هذا يزيد فقط من مشاكله.
قبعة رامي..
و”رامي طويل”، روائي وقاص وسيناريست سوري، بدأ كتابة القصة القصيرة في عام 1989، ونشر عدداً من نتاجه القصصي في بعض الصحف العربية قبل أن تصدر مجموعته الأولى “الخاتم” في عام 2008، وكتب عدداً من السيناريوهات التلفزيونية والسينمائية القصيرة، نفذ منها عملان (الهروب)، و(صراع المال)، وتعتبر “رقصة الظل الأخيرة” روايته الأولى وصدرت عام 2013، كما صدر له “قبل أن تبرد القهوة”، و”حيوات ناقصة. والكاتب يناقش هذه المعاناة في روايته هذه عبر إطلاق “قبعة بيتهوفن” كتسمية للرواية التي جاءت في 156 صفحة من القطع المتوسط، من إصدارات دار الساقي عام 2021، وذلك كي يُظهر للقارئ مدى التشابه بين نفسية بطل لرواية وبين رمزية “قبعة بيتهوفن” التي تدل على العناد، وذلك استناداً إلى الحدث التاريخي الذي يوثق لقاء بيتهوفن مع الفيلسوف غوته، “ففي عام 1812 جاء بيتهوفن لقضاء بضعة أيام في تبليتز، حيث التقى للمرة الأولى غوته. قاما بنزهة معاً. وبينما كانا يسيران في إحدى الممرات، فجأة.. ظهرت أمامهما الإمبراطورة، ترافقها عائلتها ووزراؤها. توقف غوته الذي لمح الموكب، ولم يسمع ما قاله بيتهوفن، تنحّى جانباً ونزع قبعته. أمّا بيتهوفن، فقد مكّن قبعته فوق رأسه، قطّب حاجبيه الكثّين اللذين طالا بضعة سنتيمترات أخرى، وتوجّه نحو الأرستقراطيين دون تخفيف سرعة خطاه. هم الذين توقفوا، أفسحوا له لكي يمر. حيّوه. لم يلتفت إلا لاحقاً لكي ينتظر غوته. عندئذ قال له رأيه بسلوكه الذليل، وعنّفه كمدّع بليد صغير”.
العنوان زلزال القارئ..
من النظرة الأولى يضعنا الكاتب رامي أمام عنوان ملفت لروايته، يزلزل القارئ فيضعه في مأزق البحث عن ملجأ ليفهم المغزى، فالعنوان ما هو إلا حيز من الفضاء المرسوم على صفحات الرواية، وهو فضاء تحليلي، كما يعدّ نظاماً سيميائياً ذا أبعاد دلالية وأخرى رمزية تدفع القارئ إلى تتبع دلالاته ومحاولة فك شفراتها الرامزة، ويمثل مدخلاً أساسياً في قراءة النص الأدبي، البداية والإشارة الأولى والعلامة التي تطبع الكتاب.
خسارة الرهان وألم الإدمان..
تبدأ الرواية بصوت السارد العارف للأمور والواعي للأحداث ولمصائر الشخصيات، أي أن أغلب الرواية متوّجة من خلال الضمائر الغائبة، لتحكي قصة حياة رجل يفضل الرهانات الخاسرة، يبحث فيها عن نكهة الحياة والتشويق. ما يمنحه شعوراً بالسيطرة، وهذا السلوك ينعكس في رهاناته على الأصدقاء والعلاقات العاطفية، مما يؤدي إلى فقدانه للأحباء والمقربين. حتى رهاناته على الزمن لم تكن استثناءً، حيث فقد معنى حياته. فهو كشخص يبحث عن سبل للهروب، حتى وإن كان ذلك سيتسبب له في خسارة المزيد من الجوانب الحياتية.
لقد قسّم الكاتب فصول روايته إلى لوحات رسمٍ موسيقيّ لنوتات السيمفونيّة الخامسة لبيتهوفن، تماثل التحولات التي سبغت البطل على مدار سنواته الخمسين، فالرواية تبدأ بحياة شخص ينهار بلا مبالاة “مالياً وصحياً ونفسياً” نتيجة خساراته المتعددة في عالم المراهنات “لم يكن يفكّر بالأموال التي خسرها ولا بالمرأة التي شتمته على مرأى ومسمع زبائن المقهى”، لتكبر بعدها دائرة المأساة وتبلغ الذروة حين هجرته المرأة التي شتمته بشدة. “لم توفّر المرأة نعتاً أو شتيمة تعرفها. وصفته بأنه كذّاب، مخادع، جبان… كانت الحروف إذ تلفظها تبدو خارجة من أمعائها “، ليكون هذا التعنيف أساساً لعودة السارد إلى الماضي الحاشد بالنكسات والمآسي والانتقالات التي ولّدتها الحرب السوريّة على مدى سنوات عدة. “إنها الحرب. إمّا أن تطحننا وإمّا أن نجعلها فرصتنا”.
في البدء كان القمع..
لقد نشأ في بيت أبٍ عسكريّ يقمع أفراد أسرته بالضرب والتجريح، لينتقل بعدها البطل إلى مواجهة المتنمّرين نتيجة جرأته المعرفية وحبّ التزوّد بالمعلومات. “كانت الثناءات وإيماءات الدهشة والإعجاب تحفّزه على حفظ المزيد من المعلومات”، إضافة إلى ذلك الحديث عن مرحلة التعذيب في الخدمة العسكرية والاختطاف والنكبات الرومنسية بدءاً بعلاقته بجلنار وصولاً إلى علاقته الضبابية بنجوى التي شتمته وصولاً إلى انتكاسته الصحية وإدمانه المقامرة والخمر والبؤس الاجتماعي.
تتأزم حياة البطل أكثر حينما يُضعه الرهان على بلده “سوريا”، الذي يعصف به الحرب، في موقف صعب. فخيبة الأمل تتسارع بفقدان الرهان، مما يزيد من تفاقم الأوضاع ويضيف له عبء إضافي من الصعوبات والضغوط. ثم تتعمق معاناته حينما يراهن على الاعتصامات والمظاهرات ضد الحكومة، لكن يفاجأ بخيبة أمل عميقة حين يخذله الثوار ويتجهون نحو البيع والتخلي عن الثورة.
تختزل الرواية رحلة البطل في فضاء الانعزال والارتباط بالمكان، رحلة العبء والعصيان ضد الواقع ورفض الحاضر، فهو أخيراً يقرر بيع دكانه وبيته لسداد الديون، حينها يصل إلى ذروة اليأس، وفي النهاية يقرر الانتحار، كقرار أخير يخلصه من الرهانات، ردّ فعل عن الخسائر التي طالته ولم يُظفر بشيء.