خالد ابراهيم
يبتلعُ الخطى التائهة، ويحفرُ بأنيابهِ في عظامِ الغريبِ أسماءَ المنفى، كأنَّهُ لا يعرفُ سوى اقتياتِ الدموعِ والخراب، يكدّسُ الأوجاعَ فوقَ الأوجاع، ويجعلُ من الجماجمِ سلّماً لعرشِ الوهم. هنا، تتلاشى الأحلامُ كفقاعاتِ السراب، تجفُّ الأزمنةُ على شفاهِ الأمل، وتموتُ الحكاياتُ قبل أن تولد، كأنَّ الريحَ لا تحفظُ سوى صدى البكاء، كأنَّ الدروبَ حفرتْ قبورها مسبقاً، وما عادَ للراحلينَ غيرُ ظلالهم تلوّحُ للعدم. يا سيدي الرئيس، يا سيدَ الخراءِ المنتشرِ كالسرطان، اعقلْ وتوكلْ وانظرْ، أترى المداخنَ تلفظُ أسماءَنا مع الدخان؟ أترى الأرصفةَ تغصُّ بجثثٍ لم تجدْ منفى؟ أترى المدنَ تمضغُ أبناءَها، ثمَّ تبصقُهم في مجاريرِ النسيان؟ أترى البيوتَ المُطفأة، والنوافذَ العمياء، أترى الوجوهَ الشاحبة، والخطواتِ الثقيلة، أترى ما فعلَتهُ يدُك القذرةُ في هذه الأرض؟ أنتَ من ساهمتَ بإطالةِ عمرِ نظامِ الأسد، زرعتَ سُمَّكَ في عروقِ الثورة، قتلتَ الجيشَ الحرَّ وبعثرتَ أحياءَه، أطفأتَ شعلتَه، ومزَّقتَ راياتِه، جعلتَ الدمَ سلعةً، والكرامةَ ورقةً تُفاوضُ عليها، وبعدَ أن انتهيتَ، بعتَ الوطنَ رخيصًا، وبقيتَ أنتَ على العرشِ، تمضغُ العفنَ، وتوزّعُ على الأتباعِ فتاتَ الخيانة. لا ينقصنا سوى أن تُعلنَ تركيا كلَّ محافظةٍ في سوريانا والي لها، فتصبحُ خريطةُ الألمِ رسمًا جديدًا، وتتمُّ الصفقةُ الكبرى: أن تباعَ الأوطانُ للأعداءِ قبل أن تُباعَ للأبناء. اعقلْ وتوكلْ وانظرْ، الطرقاتُ تئنُّ من خطى المُنهكين، المشانقُ تتدلّى من عيونِ العاطلين، والحناجرُ المثقوبةُ باليأسِ تهمسُ: إلى أين؟ أطفالٌ يولدونَ ليكبروا غرباء، وشيوخٌ ينتظرونَ النهايةَ وهم يحصونَ أيامَ الخيبة، والجدرانُ تنصتُ لصدى الأنين، لكنَّك تصمُّ أذنيكَ بصخبِ الكذبِ والخطبِ الرخيصة. هذه البلادُ ليست أمًّا، بل جلادٌ يُحسنُ الجلد، يدٌ خشنةٌ تدفعُ أبناءَها إلى المجهول، وحينَ يعودونَ بأكفانِ الغياب، تفرشُ لهم حجارةَ النسيانِ وسادةً أخيرة، ثمَّ تسألُ: لِمَ الرحيل؟ الرحيلُ هو الجوابُ الوحيد، حينَ تصبحُ الأوطانُ مقابرَ مفتوحة، حينَ تتحوَّلُ البيوتُ إلى أقفاص، حينَ تصبحُ الشمسُ سوطاً، والقمرُ عيناً تراقبُ المنفيين، حينَ تُولدُ الأحلامُ ميّتة، ويصبحُ الهواءُ ثقيلًا برائحةِ الخوفِ والغدر. فإلى أينَ المفرّ؟ والأرضُ كلها قيد، والسماءُ لم تفتحْ بعدُ بابَها الأخير!