محمد شيخو
قبل تقديم الدراسة، لا بد من توضيح بعض الأمور:
– الدراسة النقدية تركز بالدرجة الأولى على الجوانب المهمة والملحة في الرواية، وتتجنّب الكثير من التفاصيل والجزئيات الصغيرة بغاية الابتعاد عن الإطالة.
– لا تعتمد الدراسة منهجاً نقدياً محدداً، لكنها تستعين بأدوات وأساليب أكثر من منهج حسب ما تفرضه الرواية وبناؤها وعناصرها، مضافة إليها الانطباعات التي خرجْتُ بها من قراءة الرواية.
– الدراسة لا تدّعي القول الفصل، ولا تدعي الإحاطة الشاملة بالرواية.
– الدراسة محاولة موضوعية جادة لدراسة هذا العمل الإبداعي، وبيان محاسنه ومساوئه وقيمته الفنية.
– تبتعد الدراسة – ما أمكن – عن المصطلحات النقدية الجافة، وتستبدل بذلك ما هو واضح جليّ للقرّاء.
الدراسة النقدية:
أولاً: التعريف بالروائي والرواية:
جان بابير، سادن الكلمة في معبد الأدب، لا فرق عنده بين الصلاة والكتابة؛ فكلتاهما عمل مقدّس يسبقه وضوء وطهارة، خشوع ودمع، وسكب للروح في الكلمات.
طالما أثار دهشتي ذلك الرجل البسيط الذي لم ينل شهادات عليا في تحصيله الدراسي، لكنه نال بالتأكيد شهادات إعجاب كثيرة من قرّائه، ليثبت للجميع أن المجهود الذاتي وحب الكلمة يصنعان من الإنسان أديباً بارعاً.
جان بابير، ابن مدينة كوباني، وابن تراب ارتوى بالدم مراراً وتكراراً وأحد أبطالها، وما من فرق بينه وبين ذلك المقاتل المجبول بحبها، فكلاهما يستميت في الدفاع عنها؛ المقاتل بالرصاص وجان بالكلمات. ومعلوم أن الأمم لا تواجه أعداءها بالسلاح وحده، ولكن بالكلمة أيضاً.
جان بابير، شاعر وروائي ومخرج سينمائي كردي، مواليد كوباني 1970م، يكتب باللغتين الكردية والعربية، من أهم أعماله الأدبية «شطحات في الجحيم»، «قرارات الخطيئة»، «الأوتاد»، «فوضى الفوضى»، «خيط واهن»، «هيمن تكنّسين ظلالك»، ومن أهم أعماله السينمائية: «الخطوة»، «نفرستان»، «الرمّان المحظوظ»، «الأغنية المتكسّرة»، «الحلم»، و«الذبح الحلال»…
هذه الرواية «هيمن تكنّسين ظلالك» رواية واقعية (693 صفحة و113 فصلاً، صادرة عن دار آفا للنشر والتوزيع، 2019م)، توثّق ما شهدتها كوباني من أحداث، بدءاً بما أسماه البعض الثورة السورية وانتهاء بليلة الغدر المعروفة. تسير فيها الأحداث متقاطعة مع حب مانو (الروائي) لهيمن، حتى يخلط القارئ أحياناً بين وصفه لهيمن ووصفه لكوباني، فكلتاهما حبيبة تسكنه ويسكنها، فتغدو هيمن كوباني تارة، وتصبح كوباني هيمن تارة أخرى.
جاء في الفصل الأول من الصفحة السابعة قول الروائي جان بابير:
«الذين أحبهم لا أودّ تدوينهم؛ لأنهم يفتقدون الكثير من نضج الملامح بين الفاصلة والاستفهام والتعجب. آهٍ سيدتي! أن أكتبَكِ يعني أن أخطّط لاغتيالك…!».
ثانياً: أحداث الرواية باختصار:
تبدأ الرواية بقصة تعرّف مانو (وهو نفسه الراوي) على هيمن أثناء ما أسموه بالثورة السورية، يوم كانت في السنة الأخيرة من كلية الصحافة، ثم وقوعهما في الحب رغم فارق السن الكبير بينهما.
يليها سرد لأبرز ما شهدته ساحة سوريا عموماً وكوباني بشكل خاص من أحداث، تتقاطع مع خلاف بوزان (وهو أخو مانو الأكبر) مع أحمو كنك (وهو أبو هيمن)، ورفضهما لتلك العلاقة التي ستبقى متحدية لكل العراقيل إلى نهاية الرواية. وبذلك تبرز رؤية الروائي للحياة، فالحب هو المنتصر في النهاية.
يغوص جان بابير – وعلى مدار فصول عديدة – عميقاً في قصة حب مانو وهيمن، وكيف أثّر هذا الحب على كل منهما؛ فمثلاً تغيّرت هيمن بتأثير هذا الحب من امرأة محافظة متديّنة إلى متمرّدة ثائرة.
وتتتابع الأحداث في الرواية، فيضطر مانو إلى مغادرة دمشق عائداً إلى كوباني مسقط رأسه؛ بسبب مشاركته في المظاهرات المعادية للنظام وملاحقة القوى الأمنية له.
في كوباني يلتقي مانو بنشطاء كوبانيين في الثورة، ويحضر اجتماعاتهم، ويستلم مهمة الناطق الرسمي باسم التنسيقيات التي تتفق أخيراً على اسم واحد (ألند)، الأمر الذي يدفع ببوزان إلى معارضة مانو لانخراطه في صفوف الثورة.
تنقل عدسة الروائي بعد ذلك تنظيم التنسيقيات للمظاهرات المناوئة للنظام السوري في كوباني، وتصف تلك المظاهرات التي كانت تنادي بإسقاط النظام السوري، وما رافقها من اعتقال النظام لبعض الشباب الثائرين، ثم ظهور مظاهرات الخط الثالث، وما أعقب ذلك من انقسام كوباني بين نوعين من المظاهرات: نوع ضد النظام السوري (مؤيدو الثورة السورية)، نوع ضد السياسة التركية وأردوغان (الآبوجية).
يسلّط بابير الضوء بجرأة على ظاهرة إقبال الناس – في ظلّ الإدارة الذاتية – على استهلاك الحشيش في كوباني، في وقت يفرح فيه الكوبانيون بتحرر مدينتهم من النظام السوري مع اختلافهم في كيفية حصول ذلك التحرر بين مدّعٍ للمقاومة والثورة وبين مدّعٍ تسليمها من الفروع الأمنية.
يرصد الروائي تطور الأحداث في كوباني وسيطرة الآبوجية رويداً رويداً عليها، ثم قيامهم بقمع المظاهرات المؤيدة للثورة السورية؛ الأمر الذي أدى إلى محاربة الكردي للكردي في كوباني بالسياسة تارة وبالسلاح تارة أخرى.
يلمس القارئ في صفحات عديدة من الرواية تفشي ظاهرة زراعة الحشيش في كوباني، وبروز تجّار الحروب واحتكارهم للمواد الغذائية ومعاناة الكوبانيين منهم.
تقف الرواية بعد ذلك على حدث مهم؛ حدث تسلّح الثورة السورية وتأسلمها بعد أن كانت سلمية ووطنية تضم كافة أطياف الشعب، فيخيب أمل السوريين بها، ويعزف الناس في كوباني عن الخروج في المظاهرات، ويتدخل الروس والأمريكان والأتراك والإيرانيون في الثورة ويفرغونها من مضمونها خدمة لأجنداتهم، فتبدأ هجرة الشباب – بعد حالة اليأس وتدهور الأمور في كوباني – إلى أوربا أو تركيا أو إقليم كردستان العراق.
يعود الروائي إلى شخصياته بعد إضاءة موضوعية على الوضع السوري وتحولاته، يعود إلى حسو بالتحديد أحد أصدقاء مانو المقربين وأستاذ اللغة العربية، فيسرد قصة وقوعه في حب إحدى طالباته (زيلان) رغم أنه متزوج، وحيرته بين زوجته وزيلان، فهو يحب الاثنتين، ومعاناته من صراع داخلي بين المبدأ والحب، بين الواجب والعاطفة؛ واجبه نحو زوجته التي لا تستحق ضرة وحبه لزيلان.
تصف الرواية لقاءات سرية بين حسو وزيلان على غفلة من الناس ومن زوجته، إلى أن يُصاب حسو باكتئاب نفسي بعد فقدانه لأعز صديقين؛ أحدهما بالسرطان والثاني بسيف داعش. فيقرر حسو عندئذ وبعد تفكيرعميق أن يضحي بحبه انتصاراً للمبدأ والواجب، فيصارح زيلان بأن عليها أن تبحث عن رجل آخر. وهكذا يكون انفصالهما الذي يتزامن مع يوم هجوم داعش على كوباني (عام 2014م). ثم يهاجر حسو مع عائلته إلى أوروبا، وتتزوج زيلان من رجل آخر وتنجب منه أطفالاً.
يسرد الروائي بعد ذلك عمل مانو مراسلاً تلفزيونياً لإحدى القنوات، ثم تركه للعمل بسبب خلافه مع مدير القناة، الذي يقدّم المصلحة على الأمانة المهنية. وبهذا تظهر رؤية الروائي مرة أخرى، وهي رؤية وطنية مهنية تستبعد المصالح في العمل الصحفي.
يترك الروائي جان بابير قلبه يكتب، فيصف كوباني وصفاً شاعرياً جميلاً، يتداخل مع وصف هيمن، ويصف أيضاً غزو داعش لكوباني وسقوط قراها بأيديهم، وهروب الناس باتجاه تركيا، وما تلا ذلك من أحداث انتهت بقدوم البيشمركة بالتزامن مع دعم قوات التحالف الدولي للمقاومة الكوبانية البطولية.
ينقل الروائي أبرز مجريات الحرب في كوباني، فيصف العملية الانتحارية لآرين ميركان، وسقوط مشتنور بيد داعش، كما يصف مقاومة الأهالي الشجاعة والبطولية، وصولاً إلى تحرر كوباني بعد 120 يوماً من المقاومة، لكنه تحررمؤلم بسبب الخراب والدمار الهائل الذي حل بها.
بعد تحرر كوباني وانتهاء الحرب فيها يعود مانو إليها، ليتجول بين الخراب ويزور بيته المنهار، ويسترجع ذكرياته فيه، كما يزور قبر أمه التي ماتت تحت الأنقاض، فيرثيها رثاء حزيناً، مسترجعاً ذكرياته معها.
وفي ليلة الغدر المعروفة يعبر مانو وهيمن – قبيل وقوع المجزرة – إلى كوباني قادمين من تركيا، فيتجولان في شوارعها، وهما في حالة استغراب وذهول من خلوها من الناس، ليتفاجأا بعد ذلك برؤية جثث لجرحى وقتلى على الأرض وأصوات رصاص قادمة من كل حدب وصوب.
في الرواية وصف دقيق وبارع لليلة الغدر بأدق التفاصيل، وتوثيق كتابي ومصور من مانو وهيمن، اللذين يشعران فجأة بأنهما في أرض المعركة.
يرثي مانو ضحايا وقتلى ليلة الغدر رثاء مرّاً مؤثّراً مع الاستمرار في توثيق أحداثها، وكيفية دخولهما لمنازل القتلى والتقاط صورهم، وسط هذه الفجيعة يتفاجئ مانو وهيمن وهما في قلب المعركة بطفل يبكي، فيعرّضان حياتهما للخطر ويقومان بإنقاذه.
يستغرب مانو وهيمن والطفل في حوزتهما من غياب وحدات حماية الشعب مما حدث ويحدث، ويحمّلانها مع قوات الأسايش مسؤولية المجزرة. وأخيراً تنتهي ليلة الغدر بلقاء بين أفراد من وحدات حماية الشعب ومانو وهيمن والطفل، ونجاح مانو وهيمن في إخفاء الكاميرا ومهنتهم (الصحافة) عنهم.
يتوجه هيمن ومانو والطفل جانو برفقة قوات حماية الشعب إلى غربي المدينة حيث الشجر، ويسلّمون الطفل إلى خالته هناك، ثم يكون بدء دفن القتلى والضحايا في المقبرة، لتتفاجأ هيمن ومانو بأن من بين الضحايا أفراداً من عائلتها: أبوها وأمها وأخوها.
في الرواية سرد لقصص عائلات طالتها يد داعش بالذبح والقتل، من ذلك مثلاً مقتل بوزان كنجو وابنه مهران، ومقتل أخوي الأستاذ نجم الدين آتاش وزوجة أبيه، وهي شخصيات كوبانية معروفة. يلاحظ القارئ وهو يقرأ تلك القصص المفجعة شجاعة الكوبانيين في مواجهة داعش رغم معرفتهم بأنهم مقتولون لا محالة.
يعود جان بابير بعد هذه الفواجع المتتالية إلى الماضي، إلى ماضي مانو بطل الرواية، فيسرد قصة ولادته في إحدى قرى كوباني، وتسمية مجو صديق أبيه له باسم النبي ماني أو مانو، وينثر على صفحات الرواية مقتطفات من طفولته التي تزامنت مع حرب تشرين عام 1973م. كما يصف فترة شبابه، وحرص أمّه على تربيته على أساس الدين، وقصة ارتياده للمدرسة وعمله كمؤذّن في أحد المساجد، ثم قصة شكّه في الدين وتأثير الأستاذ حسين حمو لوري الشيوعي عليه.
وهكذا تتغير شخصية مانو، فيقوم بالانتقام لنفسه عندما ينهال ضرباً على أحد أبناء ويسكي ماكو الذين كانوا يعترضون طريقه دوماً ويسلبون منه أقلامه، وبذلك يتحول مانو من ولد بائس جبان إلى شقي مشاكس ومن مؤمن إلى شيوعي (تطوّر الشخصية). ثم يصف الروائي هجرة الكوبانيين ومعاناتهم مع المهربين والبلم، وهجرة مانو إلى أوروبا، ووصف معاناته ومعاناة مَن يهاجرون وصعوبات الطريق وجشع المهربين، حتى وصوله إلى النمسا كلاجئ.
يوضح الروائي بعد ذلك اختمار فكرة روايته هذه في نفس مانو، وبدئه بكتابتها في وقت يشتاق فيه إلى هيمن، ثم زواجه منها بعد قدومها إلى النمسا، ومشاركتها في كتابة الرواية.
ثالثاً: أبرز الخصائص الفنّية في الرواية:
1 – الرؤية:
لعلّ أكثر ما يلفت النظر في الرواية هو رؤية بابير للوقائع، وأقصد بذلك التوازن بين وجهات النظر المختلفة وعرضها بموضوعية، وهذا بلا شك من سمات التميّز في الأعمال الأدبية والفنية عموماً. والرؤية تقف على الطرف النقيض من الإيدولوجية الضيقة المتحاملة على الحقائق، فهي تتيح للمتلقي مساحة أكبر للتفاعل والقراءة التي تغني العمل. من ذلك مثلاً صدقه الواقعي في عرضه لآراء الشارع الكوباني فيمن ينضم لوحدات حماية الشعب الواردة في الصفحة (395)، من خلال حوار بين سوار ومانو:
- انظر يا مانو مَن ينضم إليهم؟ الأميون والجهلة والذين لا يملكون عشيرة.
- كلهم أبناؤنا وهناك مثقفون أيضاً.
وكذلك واقعيته وموضوعيته في معالجة أحداث ليلة الغدر وتقديمه للأدلة، ومن ذلك حوار مانو وهيمن (الصفحتان: 387 – 388):
- أشم رائحة الخيانة.
- لا بدّ من وجود جواسيس بين قوات الأساييش.
- عناصر ترتدي زيّ وحدات الحماية.
- يتحدثون الكردية بإتقان.
وبالمجمل يمكننا القول: إن رؤية جان بابير رؤية وطنية تندمج فيها الذات بالوطن، حب هيمن بحب كردستان، وما أشبه حصار محتلي كردستان بحصار بوزان وأحمو كنك لمانو وهيمن!
«قدر هذه المدينة أن تنشطر بحدود دولتين وعلمين ولغتين، لا تمتّان إلينا بصلة، بسكة قطار برلين بغداد، إحداهما أهدت البشرية النازية والأخرى لوّثت رئتي عصرنا بأبشع دكتاتور كيماوي مؤنفل، تنقسم بين الهضبة والسهل، بين نبعين (كانيا عربان) و (كانيا مرشده)، بين بوزان في الشمال وأحمو كنك في الجنوب، كأنه حصار الدول الكبرى لدولة مارقة على القوانين، يا له من قرار تعسّفي! وكنّا أنا وهيمن بين حجري الرحى». الصفحة: (135).
2 – هوية البيئة الكوبانية:
عندما يمضي القارئ بين صفحات الرواية فإنه يجدها شديدة الالتصاق ببيئة كوباني، ففيها عادات الكوبانيين وطقوسم، وأمثالهم وحكمهم، وظواهرهم الاجتماعية، وهذا ما جعل الرواية أكثر واقعية. من ذلك مثلاً:
* ظاهرة سلق القمح في كوباني. الصفحة (143).
* رثاء هيمن لعائلتها ونواحها في المقبرة طقس كوباني معروف. من الصفحة (415) إلى الصفحة (417).
* المواليد الجدد. الصفحة (502):
«يوم ولادته كان فرحة كبيرة لأمه، أشعلوا البخور، كان مهده مزيناً بالتمائم وقرآن صغير وحجاب معلق بإبرة مغلقة على مشد قماطه يحفظه من الموت، وخرزة زرقاء للحسد…».
* ظاهرة (كوستك) عندما يبدأ الطفل بالمشي. الصفحة (503):
«حينما خطا خطواته الأولى، ربطوا إبهامي قدميه بخيط واهٍ… ووضعوا كيساً فيه السكاكر والفستق… ثم تراكض الصبية خلف بعضهم…».
* غلاء المهور في كوباني. الصفحة (610):
«سبعة آلاف دولار ومئة غرام ذهباً»، عندما طلب مانو هيمن للزواج.
ومن الأمثال الكوبانية المعروفة التي ترجمها جان إلى العربية:
* إن الخالة تأتي منها رائحة الأم. الصفحة (155).
* يا رائحة أمي (مخاطباً خالته وهبة). الصفحة (157).
* السلوقي الذي يُجبر على الصيد لن يجلب الطريدة. الصفحة (531).
* انكشفت الأمور كفرج العنزة. الصفحة (145).
ولم يفت جان أن يصور وببراعة تناقضات المجتمع الكوباني كما هو في الواقع بعيداً عن المثالية الزائفة، الصفحة (350):
«ينبعث من صوت المؤذن الإيمان والصلوات، ومن عند العم بشير رائحة الخمرة والشتائم والأغاني، وكثيراً ما كنا نتصادف حيث المؤمنون يدخلون إلى الجامع ونحن سكارى نخرج من عند العم بشير؛ من كان يتعكز على ثمالته، والآخر على جذوة الإيمان في داخله».
3 – اللغة والأسلوب:
كذلك يلفت نظر القارئ وهو يقرأ الرواية اللغة الشعرية الغنية بالصور والإيحاءات والرموز، فيها يطلق جان العنان لخياله ومشاعره المرهفة، فيرسم بالكلمات، ويجدد في الصور، ويستنطق الجماد، فيغدو له لسان.
يبرع جان في الوصف، ومن ذلك وصفه لولادة هيمن على يدي الداية عيشانه في الفصل الثاني من الرواية، إذ يلمس القارئ إبداعه في وصف أدق تفاصيل الولادة، وكأن الروائي حضر عشرات الولادات، مما يدل على اهتمامه بالأحداث وحرصه على نقل صورة دقيقة عن الواقع يوم كانت الولادات تتم على أيدي الدايات لا الأطباء.
ويصف دمار كوباني بعد غزو داعش لها وصفاً وجدانياً، عندما عاد إليها بعد الحرب، فيقول في الصفحة (269):
«أعلم أنني أزور جثة مدينة وأشلاء بيت… البيوت صرعى كجنود بعد معركة طاحنة… قتلوا الماشية والشجر والبشر والأغاني… لقد توزّع الظلم على كل بيت وحيّ بعدالة إلهية».
أما الحوار فكثيراً ما كانت لغته شعرية راقية، نذكر على سبيل المثال لا الحصر ما دار بين مانو وهيمن في الصفحة (34 – 35):
- رجل ينكسر باسمكِ المبجل، ويترمم بضحكتك ثانية، ويقايض كل سعادة العالم بحزنك.
- لنكسو أيامنا العارية لباساً، ونملأ أطباق وقت جوعنا طعاماً.
ويبتكر جان في الصور ويبدع، وقلّما يلجأ إلى التقليد، ومن صوره مثلاً:
«حنظل الانتظار ص 8، يتسكع حنينك فيّ ص 32، الليل مثلي وحيد يدون سلالة مجد العتمة ص 41، احترقت قناعاتها الكستنائية على جمر أفكاري ص 44، كانت تحدق بي كمن يدقق نصاً بتوتر ص 53، لقاء ما زال يتعتق في دنان الانتظار ص 125، احدودب الوقت في التيه ص 127، لقد سقط النصيف عن عورة القيم أمام مرآة الفاجعة ص 239، منذ نشأتها كوباني كانت ابنة لقيطة من أم عاهرة تسمى الجغرافيا وأب داعر يسمى التاريخ ص 252).
رابعاً: هفوات وعثرات:
1 – اللغة الشعرية:
كما كانت نقطة قوة في بعض المواضع من الرواية، فقد أمست عكس ذلك في مواضع أخرى، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمانو وهيمن، إذ جاء الحوار بين هيمن ومانو في الأغلب شاعرياً ضبابياً غامضاً؛ بسبب كثرة الصور والمجاز، الأمر الذي عطلّ السرد وتطور الحوادث ووقف عائقاً أمامها ، وأخرج القارئ من عالم الأحداث. من ذلك ما ورد في الصفحة (598):
- مبارك أنتَ منذ التدنيسة الأولى لسفر الخلق… أرأيت نطفة الحرام كيف تغدو أكثر طهارة على الإطلاق؟
- ومَن قال: إني ابن حرام، ذاك الرحم الذي أنجبك كعبتي التي أحج إليها، مرة أخرى أؤدي مناسكي إلى رحم أمك، وأحمل الطرقات على ظهري وأمضي، أشكره على نعمة وجودك المقتبس مني.
وكذلك في الصفحة (295):
- ألدك مني في برهة الظل المعاق، منذا الذي رأى جنين القلب مغطى بدمعة؟ منذا وجد الإله باكياً؟ وبنواحه استيقظ الموتى وصاروا يرقصون على المقبرة متعثرين باليقظة؟
- لملمي الأصداف والعظام عن جسد يومي العاري بك، من ذاك الذي قرأ التلقين على جثة أحلامه؟
لقد عاب لغة الرواية في كثير من مواضعها استرسال جان الشاعري والاستسلام لصوت الذات في مواضع تتطلب الاهتمام برسم البيئة (انظر مثلاً بدايات الرواية).
وفي الفصل الخامس والأربعين مثلاً يرى القارئ انغماس جان في ذاته وفي وصف هيمن بصور شعرية مكثفة عطلت السرد والحبكة في مقام يتطلب وصف الحرب ومعاناة الكوبانيين. ومن ذلك أيضاً حوار مانو وهيمن في الفصل السابع والخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر وفي فصول أخرى، ففيه لغة شعرية ضبابية، واسترسال وإسهاب وإطالة مملة على حساب البناء الروائي.
2 – الجنس:
وقد بالغ جان وأكثر في فصول عديدة من الرواية من وصف العلاقات الجنسية، بين مانو وهيمن، بين مانو ومعلمته أمل، بين مانو ونساء أخريات (نشتمان وكلستان)، الأمر الذي يلاحظه معظم قرّاء جان.
ولربما كشف جان نفسه موقف القراء من أدبه في بدايات الرواية، وذلك عندما سرد ما جرى في أمسية أدبية من نقاش للحضور حول موقف الناس من أدبه وإبداعاته (أدب مانو وإبداعاته)، فينقل بموضوعية مآخذ القرّاء على ما يكتبه من أدب؛ فمثلاً يرى الأستاذ نجم وهو أحد الحاضرين أن أدب مانو هابط سطحي يفتقر إلى العمق الروحي، وفيه إباحية جنسية تخدش الحياء العام، وتفسد أخلاق الشباب. يقابله دفاع مانو عن أدبه واتجاهه الأدبي.
إني أدرك أن الجنس جزء من حياة الإنسان وحاجة أساسية له، وأن من الطبيعي أن يتطرق له الأدباء، لكني أعيب على جان إسرافه ومبالغته في وصف المغامرات الجنسية على حساب العمل الروائي نفسه.
3 – الحبكة الروائية:
أعاقها في الفصل الأول والرابع انغماس الروائي في الذات، مما أثر على البيئة التي بدت غير مكتملة الملامح. وتكرار اللقاءات بين مانو وهيمن في الفصول 26 إلى 32، دون جديد ودون دفع بالأحداث إلى الأمام، فيه نوع من الملل والفتور. ومن الفصل 49 إلى 56 لقاءات متكررة ومكالمات هاتفية بين مانو وهيمن أخرجت القارئ من الرواية والحدث الأهم (غزو داعش لكوباني).
4 – البداية:
عاب البداية إقحام القصة الخلفية (فلاش باك) فيها، وقد جاءت في غير موضعها، إذ لم يثبت القارئ أقدامه بعد في الحاضر، حتى حمله جان إلى الماضي.
وأخيراً فإن هذه الدراسة النقدية جاءت بعد قراءة عميقة للرواية، وهي لا تدعي القول الفصل فيما قالته، لكنها محاولة جادة للوقوف على هذا العمل الفني الجميل، محاولة تؤمن بأن النقد ممارسة لا تقل أهمية عن الأدب، وتدرك أن أكثر ما يقتل الإبداع مقابلته بالصمت في زمن يشهد غياب الكلمة الجميلة والنقد البنّاء.