إبراهيم اليوسف
الكتابة مسؤولية كبرى لا تقبل التهاون، فهي مرآة للواقع وعدسة تُبرز الحقائق وتؤطرها برؤية فكرية تسعى لتفسير الأحداث واستشراف ما وراءها. ومع ذلك، قد يكون من الصعب على الكاتب، لا سيما في زمن الحروب والفوضى، وتحديداً: لحظة اندلاعها، أن يمتلك رؤية متكاملة واضحة لما يجري حوله، إلا إذا كان كاتباً سلطانياً. إذ إنه في ظل التحولات العاصفة والطوفانات السياسية والاجتماعية التي لا يمكن التنبؤ بمآلاتها، يصبح التساؤل حول دور الكتابة وأهميتها أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
بين الغموض والرصد: الكتابة كفعل مقاومة
الحروب لا تأتي وحدها، بل تجر وراءها مجموعة من التحولات والمفاجآت غير المخطط لها، وقبل كل ذلك قوافل من الضحايا وسلسلة من الانتهاكات والقضايا التي تحتاج إلى عين مراقبة وقلم شجاع. إذ إنه حين تضيع البوصلة، ويغيب اليقين، تظل الكتابة الوسيلة الوحيدة لرصد ما يجري. كما إن تعليق الكتابة بحجة انتظار الوضوح هو مجافاة للواقع نفسه. فالرصد الآني ليس مجرد تسجيل للأحداث، بل هو محاولة لفهمها وتوثيقها، حتى وإن بدا الفهم ناقصاً غير مكتمل أو مشوشاً. فمن دون الكتابة، تتحول الفوضى إلى صمت، والصمت إلى فقدان للذاكرة.
منصات التواصل: انفجار الإعلام الفردي
لقد أصبح في عصرنا الرقمي، لكل فرد منبره الإعلامي. فوسائل التواصل الاجتماعي جعلت من كل شخصٍ، مهما كانت ضحالة خلفيته الثقافية، صحفياً ومفكراً وفيلسوفاً في آن واحد. المنبر الذي كان يوماً حكراً على مؤسسات إعلامية ضخمة أصبح متاحاً لا”الجميع” من دون أية تكلفة تُذكر. اليوم، يستطيع أميٌّ يمتلك حساباً على “فيسبوك” أن يخلق دائرة تأثير قد تنافس فضائيات رصدت لها الملايين من الدولارات. هذا التحول قد يبدو في ظاهره ديمقراطياً، لكنه في جوهره يهدد القيم الفكرية العميقة ويُسهم في تشويه الحقيقة.
الخوف من الكتابة: بين الخطأ والمجازفة؟!
لا يمكن إنكار أن الخوف بات عقبة رئيسة أمام الكتابة الصريحة في أزمنة القمع والصراعات. حيث كثيرون يخشون الإشارة إلى القاتل أو تسميته، لأن زمام الأمور قد تكون في يده، والخطأ في قراءة الواقع قد يدفع الكاتب إلى تبعات لا تُحمد عقباها. ومع ذلك، فإن الكتابة الشجاعة لا تعني غياب الأخطاء، بل تعني مواجهة هذه الأخطاء بشجاعة الاعتذار والتصحيح، فيما لو تمت، ضمن إطار ضيق لطالما أن بوصلة الرؤى العميقة متواجدة وهي لا تخطأ على نحو كبير. الخطأ في الكتابة ليس عيباً، لكن التمسك به خوفاً من النقد أو الظهور بمظهر ضعيف هو التخاذل بعينه.
إسقاط الأقنعة: الثورة بين النقاء والابتذال
ليس كل ما يُرفع تحت راية الثورة هو ثورة حقيقية. هناك مشاريع تنطلق من رماد الإرهاب وتُمنح ظلماً تيجان الثورة. هذه المشاريع قد تكون مدفوعة بأجندات تتضاد مع كل ما تمثله الثورة من قيم التحرر والعدالة. قد يسوغ بعضنا دعم هذه المشاريع بأنها تسعى للإطاحة بديكتاتور، لكن الثمن غالباً ما يكون من خلال تدمير كل مقومات الثورة الحقيقية. على الكاتب أن يتساءل: هل يمكن لأي مشروع تقسيمي أو تدميري أن يتحقق دون إراقة الدماء؟ أم أن هناك دوماً من يتم تكليفهم بدفع هذا الثمن الفادح لصالح مخططات لا تعنيهم ولا تخدم قضيتهم، ليكونوا مجرد قرابين أو حطب لنارها المستعرة، وهذا ما عرفناه خلال ما يقارب عقداً ونصف العقد من الحرب السورية؟
الكتابة في مواجهة التعقيد
الوضع السوري يقدم نموذجاً معقداً يكاد يعجز عن استيعابه حتى أكثر العقول تمرساً في التحليل السياسي والاجتماعي. لا أحد يستطيع أن يتنبأ بمآلات المخططات التي تُحاك في الظل. ومع ذلك، يبقى للكاتب دور أساسي في توثيق اللحظة، وطرح الأسئلة، والتجرؤ على قول ما لا يُقال. قد تكون الكتابة مغامرة، لكنها مغامرة تستحق المخاطرة، لأن البديل عنها هو الصمت، والصمت تواطؤ مع الجهل والظلم، تواطؤ ضد الذات والرسالة والآخر!
الكتابة فعل شجاعة
إن الكتابة، مهما كانت محفوفة بالمخاطر، تظل فعلاً شجاعاً يحتاج إلى توازن بين الجرأة والتواضع. الكاتب ليس نبياً ولا متنبئاً، لكنه شاهد على عصره. شجاعة الكتابة تكمن في القدرة على الاعتراف بالخطأ، وفي الاستمرار بالرصد والتحليل دون خوف من العواقب. في زمن الفوضى، حيث يُصبح كل شيء ضبابياً، تظل الكلمة هي الشعلة التي تنير الطريق وسط العتمة، والمرآة التي تعكس الحقيقة، مهما كانت مُرة أو مخيفة.