شيفگر ميرزا الفنان الذي لم يأخذ حقه من الناحية الإعلامية رغم أنتاجه الفني الابداعي الغزير

صالح جانكو

‏فارس الأغنية البوتانية الجزيرية التراثية والفلكلورية الملحن الموسيقي والفنان الكردي ابن مدينة ديرك ، الديركاوي الأصيل شفكر ميرزا أو( شيفو محمدي صور) كما يسمى في الأوساط الشعبية في محيطه الاجتماعي كلقبٍ إرتبط به منذ طفولته وهو نوع من الإمالة ‏للأسماء في اللغة الكردية التي تستخدم للتحبب ‏واستسهال اللفظ.

‏هذا الفنان الأصيل الذي تشرب هذا الإرث من بيئته العائلية فهو ينحدر من عائلة كردية أصيلة تنتمي إلى عشيرة ايرس ‏التابعة إلى شرنخ ،

‏فهو حفيد سعيد أغا الجزراوي من جهة الأم .والشهير بأغنية:

( Ey Felek Felek ,sed cara Felek, kanî Kurdistan ew Birca belek ..)

‏وكذلك والده محمد ميرزا المعروف بـ (محمدي صور) الذي كان عازفا محترفا لآله الناي Bilûr

‏والذي كان بدوره محاطا بعدد من الفنانين الشعبيين ومن المحيط الاجتماعي الخاص بمدينة ديرك ، من أمثال أحمد فقه حسن والد الفنان عادل فقه، وأحمد علانه عازف الزرنه الشهير، وأخوه رشيد علانه احد رموز الأغنية التراثية الشعبية ، ‏وغيرهم.

‏في هذه البيئة الاجتماعية العائلية الذاخرة بانواع الفنون والغناء الفلكلوري الكردي الأصيل . تشبَّعت ذاكرة الطفل شفكر بالعديد من القصص التراثية والالحان الفلكلورية التي تسللت إلى لاوعيه والذي تحول فيما بعد إلى ذخيرةٍ متاصلة وجزء لا يتجزأ من ذاكرته المستمرة معه حتى الآن ، والتي لازال يستمد منها اغلب كلمات و الحان أغانيه، ‏كل هذا بالإضافة إلى استماعه المتواصل لصوت الإذاعة الكردية من بغداد ومن خلالها كان يستمع للفنانين الكبار من أمثال محمد عارف جزراوي وعيسى برواري ‏و كَويسْ أغا وتحسين طه و عائشة شان وغيرهم، وكذلك إذاعة يريفان .

‏شفكر ( شيفو محمدي صور ) ‏الذي أيقظني ذات اتصالٍ ، حيث تبادلنا اطراف الحديث وإذا بالذاكرة تعود بناء إلى ازقةِ مدينة ديرك مهد الطفولة والمغامرات البريئة على تخوم طفولتنا المهدورة ‏المتناثرة تفاصيلها بين ثنايا حدودها المحددة غربا بقرية كرزرك ‏ وهضابها و روابيها المزروعة بالحجارة البازلتية السوداء ‏والتي كانت تبدو مع المغيب وكأنها قطعان من الخراف لكثافتها.

‏ديرك المحددة جنوباً بنهرها الذي كان يستمد اسمه من الأماكن والقرى والبلدات التي يمر بها فقد كان يسمى نهر (كرزرك) نسبة إلى قرية (كرزرك) قبل وصوله إلى (ديرك) حيث يتغير اسمه إلى نهر (ديرك )حين وصوله إلى تخومها، ذلك النهر الذي كان يشكل حداً فاصلاً بين المدينة وكروم العنب جنوباً ‏و ويمتد ذلك النهر محولا مساره باتجاه الشمال ليكون له نصيب من حدود المدينة الشرقية أيضا وصولاً إلى (كانيا عسكرية ) ذلك النبع الذي كان جزءا من الثكنة العسكرية الفرنسية أيام الاحتلال الفرنسي و المعروفة شعبياً بـ (قشلة) وبرج بوابتها المهيب والذي كان يسمى بالمشنقة والذي كان ينسج عنه الكثير من الحكايا الغامضة لنا كأطفال ،والمليء بالأسرار الخفية وحكايا الجن والعفاريت والمجانين الذين كانوا يأوون اليه .

‏هكذا تبادلنا بعضاً من ذكريات ‏الطفولة وقصصها، حدثني عن آلات الطنبور التي كان يصنعها من علب الحلاوة أو السمنة وزندٍ خشبي يثبته بالمسامير مع العلبة وكان يستخدم أسلاكاً من قِطع كبل فرامل الدراجات الهوائية كأوتار قائلا كم كانت فرحة عظيمة حينما كنت أحصل على قطع الكابل المستعمل لفرامل الدراجات لأصنع منه أوتار الطنبور الخاص بي.

‏لكن نبرة صوته تغيرت حين سألته عن سبب تركه للمدرسة وهو في الصف الثالث الإعدادي ،حينها حدثني بنبرة فيها الكثير من الحزن المشوب بالغضب فأدركتُ حينها بأنني أيقظت فيه ذكرى اليمةٍ موجعةٍ لازالت توجعهُ كلما استيقظتْ، حين عاقبه موجِّه المدرسة بأن ألقاه على ظهره ورفع رجليه بمساعدة اثنين من زملائه الطلاب وبدأ بضربه (الفلقة) أمام زملائه وكل ذلك العقاب الهمجي كان على أثر خلاف بينه وبين أحد زملائه من معارف ذلك الموجه ، قائلا بعدها لم أقبل العودة إلى المدرسة رغم كل محاولات الأهل والأقارب بالتخفيف من وطأة ذلك الفعل القبيح الذي اقترفه ذلك الموجه بحقي ، وذلك حينما كان يسردون لي العديد من قصص الأطفال الذين تعرضوا لعقوباتٍ وإهاناتٍ أشد وأقسى من الاهانةِ التي تعرضتُ لها، لكنني لم اتمكن من تجاوز تلك الإهانة وتركت المدرسة على إثرها ،هكذا كان يحدثني بكل شفافية وبساطةٍ وتواضعٍ عن بداياته و طفولته التي تتقاطع مراحلها وملامحها في الكثير من هذه الملامح مع تلك الطفولة المنهوبة المهدورةِ في تلك البلاد المبتلاةِ بأنظمة القهر والهدر وما تنتجهُ من الجهل والفقر والمعاناة والخوف من كل ما هو رسمي، ذلك الهدر الذي يتجاوز حدود إنسانية الإنسان، وذلك من خلال سحبِ القيمة منها والتنكر لها مما يجعل الكيان الإنساني يفقد مكانتهُ ومَنَعَتَهُ وحُرمتهُ فيصبح الإنسانُ مُتاحاً مباحاً للتصرُّف به أو ممارسةِ مختلف ألوان التسخير والتحقير وإساءة الاستخدام بحقهِ كإنسان له وجود وكيان مستقل .

بعد تركهِ للمدرسة عمل كراعٍ لأغنام والدهِ الأمر الذي جعله أكثر قرباً وتفاعلاً مع مفردات الطبيعة و كائناتها واعطتهُ فسحةً كبيرة لقضاء الكثير من الوقت في التأملِ بين أحضان الطبيعة مُطلِقاً العنان لخياله الذي بدأ تنمو له أجنحةً تحلقُ به إلى عوالمَ أوسع وأرحب وأجمل ، مما دفعه إلى التفكير بالسفر إلى دمشق كمحاولةٍ منه للهروب من وطأة القهر والإحساس بالإنكسار الذي يعانيه جراء ما تعرض له من الإحساس بفقدان الأهمية وهدرٍ للكيان الذي يحدُّ من إمكاناتهِ وطاقاتهِ، والعجز عن المواجهة ، مما دفعه للهروب من واقعهِ هذا كآليةٍ دفاعيةٍ للحفاظ على كيانه النفسي وحمايته من وطأةِ الهدر ‏.

‏وفي دمشق عام (١٩٧٩ ) بدأت مرحلةٌ جديدة لحياته ، حيث بدأ بالبحث عن أي عملٍ ليعتاش منه، فعمل في المطاعم وكذلك في الأعمال التي تعتمد على الجهد العضلي كالعمل في وِرشِ البناء وكذلك في الأفران كعامل وهكذا كانت حياته كشابٍ يافعٍ في دمشق مُتنقلاً من عملٍ إلى عملٍ وكلُّ همهِ هو توفير بعض المال ليتمكن من شراء آلةٍ موسيقية ‏يمارسُ من خلالها هوايته المتجذرة في أعماق نفسه والتي اصبحت تمثل لهُ أمنية حياته ، لذلك كان يحاول ان يقلِّص قدر الإمكان من مصروفهِ لتوفير ما يمكن توفيره إلى أن تمكن أخيرا من شراء آلة ( الأوكورديون ) من سوق الحميدية في دمشق ، هذه الآلة التي استطاع تعلم العزف عليها في فترةٍ قصيرةٍ لدرجة الاحتراف ونظراً لإخلاصهِ لقوميتهِ دفعه حسه القومي إلى الاشتراك مع أخيهِ (هاشم ميرزا عازف الطنبور ) للانضمام و العمل في ( كوما نارين ) للرقص الفولكلوري والغناء والموسيقى الكردية، بقيادة السيد إبراهيم إبراهيم الملقب بـ( أبو مزكين ) والاشتراك في إحياءِ ( حفلات نوروز ) والأعياد والمناسبات القومية الكردية في دمشق .

وبعد عودته إلى ديرك من الشام محملا بآلةٍ غريبةٍ جديدة على الموسيقى الكردية حينها وهي ( الأوكورديون ) التي يعتبر هو أول من أدخلها إلى مدينةِ ديرك .

هكذا ونظرا لكونه العازف الوحيد لهذه الآلة الغربية الغريبة عن الأجواء الموسيقية لفناني المنطقة وفرَقهم الفولكلورية الكردية والموسيقية لإحياء حفلات الأعراس لذلك توافد عليه أغلب الفنانين يدعوه كلٍ منهم ليكون أحد أعضاء فرقته الموسيقيةِ، لكنه اختار أن ينضم إلى فرقة الفنان الراحل جمال سعدون الأمر الذي كان سببا في إضفاء القيمة على الفرقة وشهرتها وبذلك توطدت العلاقة بينه وبين الفنان جمال سعدون ، حيث ساعده شفكر لتسجيل شريط غنائي له من كلمات والحان الشاعر الراحل ( محمد علي تلداري ). و من هنا بدأت مسيرته الفنية في تأليف الأغاني وتلحينها مستوحياً مواضيع أغانيه من الفلكلور والتراث الكرديين ، حيث لا تكاد أغنية من أغانيهِ تخلوا من الحب الذي يقدمه مغلفاً بنكهة التاريخ مدمجاً صفات الحبيبة بصفاتٍ مستوحاةٍ من سحر وجمالِ طبيعة كردستان الغنية بكل مفردات الجمال من سهول وهضاب وجبال وأنهار وطيور بشتى أشكالها وانواعها و أصواتها ، وكان للفنان جمال سعدون نصيب الاسد من هذه الأغاني .

فقد غنى له الكثير من هذه الأغاني التي من تأليفه وتلحينه، وبذلك ذاع صيته في الأوساط الفنية وخاصة بين الفنانين والفرق الموسيقية مما دفع أغلبهم للتواصل والعمل معه وغناء أغانيه التي من تأليفه وتلحينه.

‏فقط غنى له على سبيل المثال لا الحصر كل من الفنانين :

‏هوزان برادر _ عبد القهار زاخولي _ كلستان _ إسلام زاخولي _ بزاف زا خولي _ اسماعيل جمعة _ جمال سعدون _ آزاد فقه _ عادل فقه نارين فقه _ هاشم ميرزا _وحيد مراد _ رشيد ديركي _ خبات دهوكي _ حكمت حاجي _ كيوان أحمد _ سودان شيخي _لورنس عامودي _ والكثير من أغاني ( كوما براتي ) التي أسسها ‏مع كل من الفنانين ( نهاد حج دياب _ رضوان خرسي وفرحان صبري )

لم يتوقف فنه على تلحين أشعار فقط ، بل قام تلحين الكثير من قصائد الشعراء الآخرين مثل الشاعر( بدرخان سندي )

والشاعر (ريبر كوباني ) الذي تعرف عليه أثناء تأدية الخدمة العسكرية في الفترة بين عام( ١٩٨٣ حتى العام ١٩٨٦ ) خلال هذه الفترة وعلى الرغم من كل المخاطر الأمنية على حياته ظل متابعاً على مواصلة فنه في تلحين أشعاره وبعض أشعار الشاعر ريبر كوباني .

بعد انهائه للخدمة العسكرية عاد مرةً أخرى إلى مدينة ديرك ليتابع موهبته الفنية في مجال التأليف والتلحين والعمل مع الفرق الموسيقية الفلكلورية الكردية كفرقة آهين و آزادي و كذلك الفرق الموسيقية لإحياء الحفلات أمثال فرقة جمال سعدون لغاية عام

كل ما سبق جعل منه نبعا لا ينضب للأغنية الفلكلورية التراثية الاصيلة لرفد وإغناء مكتبة الموسيقى والغناء الكردي إلى ان وصل عدد أغانيه إلى اكثر من مئتي أغنية ، بذلك استطاع هذا الفنان الذي تشرَّب الكردايتي من بيئته الطافحة بالتراث والغناء والفلكلور الكردي أن يدخل إلى كل بيت وتتسلل أغانيه و كلماته إلى ذاكرة و وجدان الناس الذين أحبوا هذه الأغاني ليدندنوا بها في سهراتهم ولحظاتهم الوجدانية .

بعد ان تدهورت الأوضاع الأمنية في سوريا هاجر مع عائلته إلى اقليم كردستان منذ العام ٢٠١١ ولازال مقيماً هناك حتى الآن مستمراً مثابراً على ممارسة عشقه الأبدي في تأليف وتلحين الأغاني .

‏هذه كانت بعض السطور المختصرة جداً والتي قمت بتسليط الضوء من خلالها على سيرة فنان لم يأخذ حقه من التعريف به في الساحة الثقافية وإقلام الكُتّاب ،لذلك أتمنى من كل الجهات والمؤسسات الثقافية والإعلامية المعنية أن تقوم بتسليط الضوء عليه وعلى فنه وتكريمه بما يليق به من الجوائز الفنية .

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ا. د. قاسم المندلاوي

 

الفنان الراحل (صابر كوردستاني) واسمه الكامل “صابر محمد احمد كوردستاني” ولد سنة 1955 في مدينة كركوك منذ الصغر فقد عينيه واصبح ضريرا .. ولكن الله خالقنا العظيم وهبه صوتا جميلا وقدرة مميزة في الموسيقى والغناء ” فلكلور كوردي “، و اصبح معروفا في عموم كوردستان .. ومنذ بداية السبعينيات القرن الماضي…

فراس حج محمد| فلسطين

-1-

لا تعدّوا الوردْ

فما زالتِ الطريقُ طويلةً

لا نحن تعبنا

ولا هم يسأمون…

-2-

ثمّةَ أُناسٌ طيّبونَ ههنا

يغرّدونَ بما أوتوا من الوحيِ، السذاجةِ، الحبِّ الجميلْ

ويندمجون في المشهدْ

ويقاومون…

ويعترفون: الليلُ أجملُ ما فيه أنّ الجوّ باردْ

-3-

مع التغريدِ في صباحٍ أو مساءْ

عصرنة النداءْ

يقولُ الحرفُ أشياءً

ويُخفي

وتُخْتَصَرُ الحكايةُ كالهواءْ

يظلّ الملعبُ الكرويُّ

مدّاً

تُدَحْرِجُهُ الغِوايَةُ في العراءْ…

-4-

مهاجرٌ؛ لاجئٌ من هناك

التقيته صدفة هنا

مررتُ به عابراً في…

عبد الستار نورعلي

(بمناسبة عيد المرأة)

 

حين تكون المرأةُ الأحلامْ

تنسدلُ الستائرُ الحريرْ،

فلا نرى أبعدَ من أنوفنا،

وخافقٌ يضربُ في صدورنا،

فكلّ نبض امرأةٍ هديرْ

والمطر الغزيرْ،

 

نفتحُ حينها عقولَنا

أم نسرجُ الخيولْ

والسيفَ والرمحَ

وصوتَ الحلمِ الغريرْ؟

 

في حلمٍ

يُبرعمُ الربيعُ فوقَ صدرِها،

ينتظراللحظةَ كي يدخلَ في الفؤادْ،

يُعطّرُ الروحَ بدفء روحها،

يقتطفُ العشقَ

ويبدأ الحصادْ،

 

في كتبِ الروايةِ الأولى:

غزالةٌ تسلَقتْ تفاحةَ البقاءْ،

وانتزعتْ تفاحةً لتقضمَ الغرامَ

واللعنةَ، والدهاءْ،

 

امرأةُ العزيزِ راودَتْ فتاها

عنْ…

عبدالجابر حبيب

 

دور المسرح في المجتمع

المسرح ليس مجرد وسيلة ترفيه، بل هو فن يحمل رسالة، يعكس قضايا الناس، ويشكّل وعياً جمعياً. منذ نشأته، كان المسرح مساحةً للحوار، يسلط الضوء على المآسي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويجسد الأحلام والآمال. فهو “مرآة تُعرض عليها الفضائل والرذائل”، كما وصفه الكاتب المسرحي شكسبير.

يقول جان فيلار: “المسرح مدرسة الشعب”، وهذه المقولة…