(صيدنايا)

خالد إبراهيم 

رقم 7776، قف 

كان السجان قاسيًا، لكن صيدنايا كانت أشد قسوة. لا أحد يفهم قسوة هذا المكان إلا من مر به، ومن دخل إلى جحيمه. هذا المكان ليس مجرد زنزانة، بل هو وجود مشوه يعيد تشكيلك كل لحظة. كان السجان يقف هناك كجدارٍ لا يشعر، وعيناه حفرٌ عميقة تجسد الزمن الضائع، كما لو أن الأرض التي تحت قدمينا امتصت كُلّ شيء. كان صوته يأتي خافتًا، كزئير هادئ لعاصفة على بعد: “أتريد الهوية؟ الجنسية السورية؟ أم تريد الانفصال؟” لكن السؤال لم يكن سؤالًا. كان حصارًا آخر. في هذا المكان، لا قيمة للهوية. الجنسية لا تساوي شيئًا هنا. لا وطن يعترف بك، حتى وإن كنت تُدعى “سوريًّا”. لا شيء هنا سوى الأرقام، أرقام تُصهر البشر وتحولهم إلى كائنات بلا شكل. والرقم الذي يعنيني هو “7776”. هو كل ما تبقى لي. ترددتُ، ثم وقفت. كان الجسد يتأفف، وكان عقلي يصرخ. قمت بخطوة واحدة، كأنني أسحب قدميّ من مستنقعٍ لا ينتهي. تذكرت فجأة تلك الأيام التي كنت أركض فيها على تراب كردستان، حيث كانت الأرض تحت قدميّ تخبرني من أنا، لكنني هنا، في هذا الممر الضيق، أصبحت مجرد ظل يتحرك في مكانٍ آخر. قضيتُ لحظاتٍ من الزمن في هذا الممر الطويل الذي لا ينتهي. كان يشبه أمعاء وحشٍ خرافي، يبتلعك شيئًا فشيئًا، وفي كل زاوية، كان يلتهم جزءًا منك. كانت الجدران على الجانبين متسخة، متشققة، ومع كل خطوة كانت تُسمع أصواتٌ غير مرئية، كما لو أن كل زاوية كانت تحكي لي عن أرواحٍ سابقة عاشوا هنا وماتوا في صمت. دخلنا إلى غرفة صغيرة، تكاد تكون غرفة سجن في أحلام الجنائز. كان الجدران مغطاة بمستطيلات حجرية غير متناسقة، مثل حُلمٍ مهدم. لا نافذة، لا منفذ للهواء. فقط الظلال التي تتكسر على الأرض. قال السجان بنبرة جافة، لا يختلف عنها سوى الصمت الذي يملأ هذا المكان: “اجلس.” جلست، لكني كنت أرى نفسي في ذلك الحائط، في ذلك الزمان المتجمد. كنت أستطيع أن أشعر بأنني أذوب هناك. على الطاولة أمامي، كان هناك كيس بلاستيكي شفاف، يوحي لي بأنه يحمل شيئًا مهمًا، لكنه لا يزال غريبًا. “افتحه.” فتحت الكيس بيدين مهتزتين، كانتا تعكسان اضطرابي الذي لا يمكن أن يختفي. رائحة كريهة تنبعث منه، كأنها تشبه رائحة الموت، أو الحزن الذي لا ينتهي. داخل الكيس كانت خريطة. لكنها لم تكن خريطة عادية. كانت خريطةٍ منزوعة الروح، غير مكتملة، تائهة كالجثث التي ترسم حدودها. كانت حدودها ملامح حزينة، خطوط حمراء رسمها الدم، وكل تقاطع كان يبدو وكأنه ثغرة في الزمان، مكانٌ غائب عن الحياة. على أطراف الخريطة، كانت هناك كلمات تقطر باليأس، كلمات لم تجرؤ على أن تكون ملونة، بل كانت مكتوبة بحبر أسودٍ ملوث، تلاحقني على الورق: “خائن”، “منفى”، “لا وطن”. وعلى أطراف الخريطة، كانت الصور الملتوية لعظام وجماجم قديمة، مغسولة بالدماء وملفوفة بصمتٍ قاتل. وكأن هذه الجماجم هي أشباح ماضية لا تُحتسب في حسابات الجغرافيا. قال السجان بابتسامة باردة، خالية من الحياة: “هذه خريطة كردستان. هنا تبدأ النهاية.” تأملت الخريطة. كانت الجغرافيا كأنها نبض حزين، وكأن المكان الذي رسمت فيه لم يعد ينتمي إليك. خريطة لا تبني وطنًا، بل تشتت الآمال، وتمزق الحدود. شعرتُ أنني كنت جزءًا من هذه الخريطة، وأن كُلّ خطٍ فيها يمر عبر جسدي. لا مكان لي. لا مكان لنا. كأننا كنا مفقودين في هذا الزمن الذي لا يتوقف عن العدم. عدت إلى الزنزانة، وكانت كل خطوة مني في هذا الممر كأنها امتداد لشبحٍ لا يتوقف عن الهروب. كانت أصوات التعذيب تتناثر حولي، ولا أدري إذا كنت أسمعها أم أنني كنت جزءًا منها. أصوات الألم التي تُستباح في صمتٍ مميت، كأننا جميعًا كنا نصرخ في غير مكان، في غير زمان. “ربما أنا الآن في الخارج، أصرخ مكانهم،” فكرت. لكنني هنا، في الزنزانة، أواجه المجهول الذي لا يمكن أن يراه أحد. أواجه الخريطة، أواجه نفسي. في الزنزانة، وضعت الخريطة في الزاوية البعيدة. كانت تطاردني، تهمس لي كلما أغلقت عينيّ. “أين أنت؟” كانت ترددها لي الكلمات المكتوبة على أطرافها. كانت تسخر مني. تسألني إن كنت قد ضعت حقًا، وإن كان هناك من يعترف بي. في الصباح، خبأت الخريطة في زاوية الزنزانة. غطيتها بقطعة قماش كانت تغطي جسد صديقٍ رحل عني منذ أيام، دون أن يترك أي أثر. مات، ولم يأتِ أحد ليأخذه، فهكذا تموت الأشياء هنا، لا صوت يرافقها، ولا أثر يذكرها. وفي كل مرة يمر الحارس، كنت أصرّ على أنني وحدي. لكني لم أعد وحدي أبدًا. الخريطة في الزاوية تتحرك في صمتي، تنبض بأوجاعها. الجدران تحفظ صوتي كما تحفظ أسراري. والرقم 7776؟ هو أكثر من رقم. هو شبح كردي، ضاع في هذا المكان، يبحث عن وطن لا يعترف به أحد، وطن أضحى مجرد حلمٍ ضائع في الزمان والمكان. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غالب حداد

1. مقدمة: استكشاف “العالم الجميل الموجود”

تُقدّم مجموعة القاص والشاعر الكردي السوري عبد الرحمن عفيف، “جمال العالم الموجود”، نفسها كعمل أدبي ذي كثافة شعرية فريدة، يرسم ملامح مجتمع مهمش، ويحول تفاصيل حياته اليومية إلى مادة للتأمل الفني والوجودي. ويأتي تحليل هذه المجموعة، التي تمثل تطورا لافتا في مشروع عفيف الأدبي الذي تجلت ملامحه…

مصطفى عبدالملك الصميدي| اليمن

باحث أكاديمي

هي صنعاء القديمة، مدينة التاريخ والإنسان والمكان. من يعبر أزِقَّتها ويلمس بنايتها، يجد التاريخ هواءً يُتَنفَّس في أرجائها، يجد “سام بن نوح” منقوشاً على كل حجر، يجد العمارة رسماً مُبهِراً لأول ما شُيِّد على كوكب الأرض منذ الطوفان.

وأنتَ تمُرُّ في أزقتها، يهمس لك الزمان أنّ الله بدأ برفع السماء من هنا،…

أُجريت صباح اليوم عمليةٌ جراحيةٌ دقيقة للفنان الشاعر خوشناف سليمان، في أحد مشافي هيرنه في ألمانيا، وذلك استكمالًا لمتابعاتٍ طبيةٍ أعقبت عمليةَ قلبٍ مفتوح أُجريت له قبل أشهر.

وقد تكللت العمليةُ بالنجاح، ولله الحمد.

حمدا لله على سلامتك أبا راوند العزيز

متمنّين لك تمام العافية وعودةً قريبةً إلى الحياة والإبداع.

المكتب الاجتماعي في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في…

د. فاضل محمود

رنّ هاتفي، وعلى الطرف الآخر كانت فتاة. من نبرة صوتها أدركتُ أنها في مقتبل العمر. كانت تتحدث، وأنفاسها تتقطّع بين كلمةٍ وأخرى، وكان ارتباكها واضحًا.

من خلال حديثها الخجول، كان الخوف والتردّد يخترقان كلماتها، وكأن كل كلمة تختنق في حنجرتها، وكلُّ حرفٍ يكاد أن يتحطّم قبل أن يكتمل، لدرجةٍ خُيِّلَ إليَّ أنها…