في النقد وتحطيم المواهب

خالد جميل محمد

كلّ يوم أُوْهِمُ نفسي بأن تطورًا ما لا بدّ يحدث غدًا، وأنَّ الذين يَكبَرون في السِّنِّ يُفترَض أن يكونوا قد استفادوا من تجاربهم وخبراتهم وأخطائهم في الحياة و(الكتابة والإبداع)، لكني أفاجَأ دائمًا بما يدحض توقّعاتي المثالية ويردّها ويقنعني بأني غريق في الأوهامِ حين آمل تغييرًا ممّن أصرَّ على اتخاذ الجمود صفة ثابتة تلازمه أبدًا، وأقسم إنه لن يبذل جهدًا في تَعَلُّم أبسط مبادئ الحياة الجميلة والكتابة وقواعدها الرئيسة… من أمثلة ذلك أن كاتبًا شهيرًا كان قد عرض عليَّ قبل ثلاثين عامًا بعضَ نصوصه الضعيفة لغةً والغنية بأخطاء إملائية ونحْوية وأسلوبية، وحينها دُهِشْتُ من الموقف ومنه، وأنا مَن كنتُ أظنّه نموذجًا يمكن أن يُحتذى به في تلك العوالم البديعة، لكنه خيّب أملي وجعلني أعيد النظر في تقييمه وإعلاء شأنه بدافع العاطفة القومية والوطنية والاجتماعية وبدافع الحرص على موهبته وتشجيعها، ثم رجوتُه أن يعيد النظر في مستواه الإملائي والنحْوي والأسلوبيّ والثقافي، ويترفّع عن حضيضِ المستهلَك من التعابير المكرورة والكلمات المستهجَنة والمعلومات الضعيفة، ببذل الجهد بالقراءة الزائدة وتعلُّم أصول الكتابة السليمة وترويض الذائقة لتكون أكثر سُمُوًّا ورفعةً، احترامًا للكتابة الجادّة والإبداع الحقيقيّ، وللقُرّاء.

اليوم، بعد ثلاثين عامًا كافيًا لتعلُّم عشرات اللغات، أرى الأخطاءَ اللغويةَ ذاتَها مكرورةً، وقد زاد عليها صاحبُها ما يطيب له من أخطاء جديدة أشدّ إساءة إلى اللغة والأذواق السليمة وأكثر تشويهًا للكتابة والإبداع، وهو واثق من براعته وروعة (إبداعه)، معاهدًا الأذواق السقيمة أن يبقى على نهجه الثابت في التدمير والتخريب اللغويين، في إطار الموهبة عينِها كما كانت قبل ثلاثة عقود، وأرى الكاتبَ نفسَه، والشخصيةَ المتخشّبة نفسَها غيرَ قادرةٍ على التغيُّر والتطور والانفتاح على ما ينفع موهبته، بل تفتقر إلى إرادة الانتقال من الهُزال إلى القوة، ثم ينعت سلوك من ينقده بأنه (تحطيم للمواهب).

هذه التجربة تزيدني يقينًا بأن قسمًا ممن يصنّفون أنفسَهم (كُتّابًا ومبدعين) أو يصنّفهم أمثالهم، لا يكترثون للنقد والتوجيهِ الشافيَينِ، وليس لديهم نيّةٌ، أيُّ نيَّةٍ، لإحداث أيِّ تغيير في الاعوجاج الذي يتخذونه منهجًا ومسلكًا لا يبرحونه، بل يستحيل أن يتزحزحوا عنه، وهمُ عاجزون عن نشر مدوّنة محدودة الكلمات بلغة سليمةٍ من الآفات، مشحونةٍ بعبارات مُهَلهَلَةٍ. ولا يعني هذا الكلامُ أن يكون الكاتبُ حَــبْرًا في علوم اللغة أو بَحرًا في تفاصيلها ومتاهاتها، لكنه يرجو أن يشرب الكاتبُ جرعة من بعض جداولها وأن يلفَحَه بعضُ لَهِيبِها ليهنأ القرّاء بكتابة سليمة.

هنا قد يظهر أيضًا من يتهم هذا الموقف بأنه (تحطيم للمواهب)، وهو غافل عمّا يُحدِثه أولئك (الموهوبون!) من كوارث تستوجبُ تفعيلَ النقد في وجهِ (كتاباتهم وإبداعاتهم)، وتنبيهَهم بأنهم ليسوا مبدعين كما يزعمون أو يتوهَّمون أو كما يصفّق لهم المصفِّقون. والطّامّة الكبرى في هذا المقام هي أن المقصودين من هذا الكلام، ومن بينهم المثال المذكور أعلاه، سيؤكدون على أن في واقعنا الفاسد، مَن أصدروا كتبًا ومؤلَّفاتٍ، وَهُمُ جاهلون بأبسط قواعد اللغة والكتابة والإبداع، متناسين أنهم في طليعة قائمة الذين يشار إليهم في هذا المجال.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…