غريب ملا زلال
فنان يلاحق الذات ويتمسك بها
العلاقة وطيدة بين الكتابة الأدبية والفن التشكيلي، وخاصة الشعر، الذي كان ومازال مرتبطا بالصورة أكثر من غيره من الأجناس الأدبية الأخرى. وأن يجمع فنان بين الكتابة الشعرية وعالم الصورة ممثلا في الفن التشكيلي لا يمكنه إلا أن يخلق تجربة فريدة من نوعها على غرار تجربة الشاعر والفنان السوري محمد بدر حمدان.
لا أعرف لماذا داهمني شعور قد لا يكون غريبا، وأنا مقبل على قراءة أعمال محمد بدر حمدان (اللاذقية 1960)، لكنه شعور غير عادي، شعور بأنني أمام شاعر أولا ثم يأتي الفنان لاحقا، أو أن كل فنان هو شاعر بالضرورة يسيطر عليه الخيال بتكويناته وتصويراته ونبضاته قبل أن يمد يده إلى ريشه، والعكس صحيح أيضا فكل شاعر هو فنان بكل تأكيد يسبقه خيال ينطح السحاب ويفتته حتى يمطر.
شعرت بأنني أمام دواوين شعرية تنبض باللون والخط، هي كذلك فعلا، فكل عمل هو قصيدة يمكن قراءته شعريا، وكأنه يذكرنا بتلك المقولة الشائعة للفيلسوف والمؤرخ اليوناني بلوتارخ أو بلوتارخس “الرسم شعر صامت، والشعر رسم متكلم”، وقد يكون سبب ذلك عمله الطويل مع دور النشر والمطبوعات الثقافية، ونشر تلك الأعمال كلوحات توضيحية ترافق النصوص، الأدبية منها على نحو خاص، والشعرية على نحو أخص، أو هي قريبة من الموتيفات التي تصلح لكل عمل إبداعي، تضيف عليه إبداعا آخر، وتزيده جمالا وتقربه من المتلقي حتى يسكن في قلبه.
صور غير مألوفة
الفنان يتعامل بشاعرية مع اللحظات التي يلتقطها والرموز التي يستقدمها من حكايا الأولين ومن التاريخ وأبجديته الخاصة
مع حمدان أنا أمام تجربة لم يسبق لي الوقوع فيها، تنتظرك اللوحة وقد تاهت في نصها النثري المرافق، عليك أن توجدها، عليك أن تكتبها فالعلاقة بينها وبين المفقود منها مبنية على الحركة القائمة بينهما بمستوياتها المختلفة، مدركا في عدم تغليب طرف على آخر.
قراءتي هنا في هذه المرة تدفعني إلى استعارة عيون كثيرة تعينني في التقاط الطرفين معا، بل الأطراف جميعا دون أن ندع شيئا ينفلت من شذرات مسعانا، حقا لقد أوحت لي لوحاته بأنها قصائد شعرية تحقق جمالياتها بكل إيقاعاتها، فهي محكومة بالموسيقى وبسبر مقاماتها، وبصور غير مألوفة، فحراكه المعماري ينتقل بمركز ثقله من خطوط اتصاله بالشعرية وما فيها من تجاوزات للمصادفة، متباينة في غالبية المواقف.
إن في مسألة استعادته لتفاصيل مؤثرة بها تحتفي ذاكرته وخصوبتها، أو القبض على اللحظات الهاربة وتوجيه الأضواء الكاشفة عليها، ويصبح حدث المواجهة عنده متقدا، امتثالا لدائرة الحلم حين يبلغ الرحاب، أو تسليما للتوسيع شعريا وكأنه يستمد بوصلته من هول الحياة لا محاكاة الموجود بل إعادة إنتاجه وفق طريقته هو، هنا هل حقا يحق لنا أن نقول إن اللوحة الفنية ضرب من الشعر، كما نقول إن الشعر لوحة فنية، هناك ما يسمو على العقل فلا يحتاج إلى تعليل بقدر حاجته إلى الأسئلة ورميها في العمل ذاته، قد تنهض الأجوبة فيها، ولكن ما أعرفه أن حمدان يكاد يلزم متلقيه بأجنحة لا حدود لتحليقها، فينجز عمله وما علينا كمتلقين إلا أن نكتب فيها أشعارا وقصائد، وهذا تسجل لحمدان بامتياز.
حمدان يحمل إرثا طويلا في فن حفر الغرافيك، ويكاد يختص في ذلك وهذا بدوره مده بنشاط إبداعي جعل مهمته غير بسيطة وليست عادية، فالأمر يحتاج إلى النفاذ إلى ما يقبع في صميم المشهد وإخراج لآلئه والارتقاء بها إلى تلك الذرى التي تستدعي التكثيف الدلالي ودفعه إلى ذروته، بل إلى تلك الذرى ليتوسع في رسم المشهد من الداخل بعمليات إسناد متتالية، وجعل الإيحاء مستترا بالاستمرارية، ومن الخارج وما يبتنيه من علاقات لأنماطها العليا، وبكيفيات توظيفه لرموز ترتقي بمشهده وما يحمل ماهيته من موضوعات ومدارات وتحولات تغني بدورها دائرة خلقه وتجعلها تدور لا على نفسها، بل على ما يتربص بها من رموز وتلاوين، من صور طافحة بالدلالات، تومئ في اللحظة ذاتها بحشود غزيرة من المدركات في علاقاتها النصية التي تسمح لها بإنتاج رغبة غير متعارف عليها، هي في قرار حمدان أشبه بصوت النغم، أو بالموسيقى وهي تنثال في شكل إشارات استفهام تكاد لا تنتهي.
ثمة من يلاحظ أن ما يتيحه الفنان من قيم جمالية من خلال خلقه لمشاهده البصرية التي تغدو مفجرات إبداعية خاضعة لتلك الحساسيات والرهافة الجمالية اللافتة في مدرجات الأبيض والأسود، وعلى نحو أخص حين يقارب جملة الجماليات التي لا تزال تحققها تلك المشاهد في مسارها الخاضع لنطاق آخر من الإشكالات المحتملة تجدر أن يلتفت إليها، هي تفاصيل يلتقطها حمدان متسائلا إن كان يتطابق فيها زمن الالتقاط مع زمن السرد، ولعله مما يمتلك دلالته في هذا الخصوص أنه يتوج دائما لانطلاقة موجاته الجديدة، متأملا فيها.
الكشف في أعمال الفنان متاح وإن تدريجيا، وبإضاءات منه يعمق فهمنا لطبائعها بترقب وانتظار، والمغزى عميق ومهم، ينطلق بها في تداعيات مؤثرة تمنح سرده حيوية وقيما تعبيرية وجمالية تنمو بالاتجاه الذي خطط له حمدان، ويحافظ في مشهده على التوليفة الخاصة به والقائمة في صلب عملية وعيه ولاوعيه بوصفها رصدا لتجربته في مستوياتها المختلفة، مؤكدا تصعيدها حتى لا تفقد بهجة حلمها وحياتها، فحقول الاحتضار دائما تكون قريبة.
الفنان والإنسان
محمد بدر حمدان الفنان هو ذاته الإنسان فهو لا يكاد ينفصل عن لوحته ولا هي قادرة أن تبتعد عنه
حمدان ينتشل نفسه من مسايرة الواقع ويبتني رموزه الحاضنة لشعريته، والتي أمنت بقاءه وضمنت استمراره ومقدرته على الفعل في متلقيه، قد لا يكفيه أنه يحوله إلى شاعر أو إلى كاتب أو إلى عاشق على أقل تقدير، فالفنان الذي يشغل متلقيه إلى هذا الحد ويمضي به وبقراءته إلى عالم الإبداع، فلا يتركه أن يبقى متلقيا فقط، بل يجعله مشاركا في إنجاز اللوحة بنص مواز يخص المتلقي، هذا الإرجاع وهذا التأثير لا يمكن أن يخلقه إلا من كان فنانا حقيقيا قادرا أن ينتشل الواقع من خرابه لحظة انفتاحه على الحضور المستتر في صميم الخطاب المعاصر.
الراجح أن كيفية تعامل حمدان مع تلك اللحظات وتلك الرموز التي استقدمها من حكايا الأولين، ومن التاريخ وأبجديته، هي التي جعلت عملية تلقي نصه كنص معاصر، فنصه يتحرك في رحاب بعيدة ليس من السهل علينا كمتلقين أن تطالها مداركنا، فهي مأخوذة بأسئلة الشعر، ومسكونة بفكرة المغايرة، فيستشرف الممكن والمحتمل لا لزعزعة الأساسات التي تنهض عليها دروب الممكنات، ولا ليجتث محنة تلك الأسئلة ويرمى بها خارجا، بل للارتقاء إلى مستوى الشروع بالخروج والابتداء، ولإنجاز تغييرات في بنية العمل الفني وما أحدثه من تصدعات في بنية الوعي الجمالي، فيشد الذات ويتمسك بها، ومنها يستلهم ذلك الأثر الذي يقتفيه.
حمدان الفنان هو ذاته حمدان الإنسان، ومن القلائل الذين يهدون تلك الجسور بينهما، فهو لا يكاد ينفصل عن لوحته، ولا لوحته بقادرة أن تبتعد عنه، كل منهما يعيش في الآخر في حالة من الهيام التام، حتى أنه قالها كثيرا “لوحتي تمثلني شخصيا وتنطق عني دائما وتحمل قسطا من همومي، وهي أيضا رسالتي المفتوحة إلى الإنسانية وتشاركني انفعالاتي وهمومي في درب اهتمامي بالثقافة البشرية والإنسان”، فهذا الانصهار بينهما إذا جاز لنا أن نقول ذلك لا نجده إلا عند الفنان الحقيقي الذي يتنفس عمله الفني، وعمله الفني يتنفس به، كل منهما موغل في الآخر بطريقة لائذة بالصمت ويواصل فعله بمتلقيه،حتى يتلقفه ويلون رؤياه بالجمال الذي ينبض فيه.