ماهين شيخاني
“يوميات موظف” ستكون عبارة عن مجموعة قصص قصيرة متصلة بالمكان والزمان، لكنها لا تتبع حبكة واحدة، بل كل قصة ترصد موقفًا مختلفًا من الحياة اليومية لموظف بسيط يعمل بعيدًا عن مدينته، يتنقل بالحافلات، يعاني من تعب الطريق، يواجه مواقف اجتماعية متنوعة: (عنصرية، فقر، صداقة، غدر، بيروقراطية الوظائف، ذكريات حب قديم… الخ).
إهداء
إلى أولئك الذين حملوا حقائبهم وقلوبهم، ومضوا إلى القرى البعيدة…
إلى الموظفين البسطاء الذين كتبوا تفاصيل الحياة بعرقهم وصبرهم…
إلى القرى النائية، والوجوه الطيبة، والذكريات التي لا تغيب…
أُهدي هذه الصفحات.
المقدمة:
بين طرقات قرية نائية، ومكاتب دائرة مهملة، كانت الحياة تسير ببطء، ثقيلة كصهاريج الماء التي تصلنا، خفيفة كابتسامة صبية تتذرع بتصليح هاتف معطوب.
هنا، في هذه الزوايا المعتمة من الوطن، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الرتابة والتهديدات الجوفاء، كانت تنبض القصص الصغيرة — قصص لا تكتبها الجرائد، ولا تهتم بها نشرات الأخبار.
مجموعة “يوميات موظف” ليست مجرد تسجيل لحوادث عابرة، بل هي شهادات عن بشر حقيقيين، عن قلوب تنبض بين القهر والحب، وعن موظف غريب، جاء من بعيد ليترك بصمته في وجدان المكان… وفي ذاكرة القرية.
هذه القصص مهداة إلى كل موظف عاش الغربة في بلده، وإلى كل قلب حافظ على إنسانيته رغم قسوة الأيام.
حديث حامض في الحافلة
لم تكن الصباحات هناك تعرف الرفق بالقلوب المتعبة.
كنا نصحو قبيل الفجر، نتوضأ بالنعاس المتبقي على جفوننا، ثم نشق الطريق نحو الكراج الصغير قرب دكاكين السوق في تل تمر.
كراج ليس أكثر من ساحة ترابية على حافة الطريق العام المؤدي إلى حلب، تعج ببقايا أصوات ليلٍ رحل ووعود شمسٍ قادمة مترددة.
صعدنا الحافلة ــ أنا ورفاق الغربة اليومية ــ متوجهين نحو المناجير،
70 كيلومترًا من التعب والرجرجة والغبار تنتظرنا قبل أن نلتحق بأماكن أعمالنا.
كنت جالسًا قرب النافذة، أعدّ أنفاسي الثقيلة، محاولًا إقناع نفسي بأن هذا اليوم سيمر بسلام.
لولا أن مزاجي تعكر منذ اللحظة الأولى… ربما لسوء طالعي أو لسوء حظه.
أمامي جلس رجل بدين، ذو عقال فخم وعباءة نظيفة، بدا عليه ما يسمونه “النعمة”.
كان يحادث جاره بصوت مرتفع، بنبرة متهكمة لا تخلو من فظاظة.
شدني صوته رغم محاولتي تجاهله. حتى سمعت الكلمة التي أشعلت الدم في عروقي:
ــ هذا الكريدي…
ما إن وصلت العبارة إلى أذني، حتى شعرت بأن عرقاً دقيقًا في جبيني يتمدد، ينبض كطبل الحرب.
ارتفع الدم إلى رأسي، ومرّت بي لحظة خاطفة رأيت فيها عقاله يتطاير تحت قبضتي.
استغفرت الله لكبر سنه،
لكنني لم أستطع تجرع الإهانة.
استدرت نحوه بحدة،
نظرت في عينيه مباشرة، وقلت بصوت لم أسمعه مني من قبل:
ــ ماذا تقصد بالكريدي؟! ومن أنتم حتى تستصغروا قومية كاملة كأنهم عبيدٌ لكم؟!
يا حاج… سمعت محدثك يناديك بالحاج، ألا تخشى الله الذي قال: (وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)؟
اتق الله، هؤلاء الذين تستصغرهم بشر مثلك، تشاركونهم السراء والضراء…
أترضى أن يقول لك أحد: هذا العريبي مثلاً؟!
ساد الحافلة صمت ثقيل.
كأن ركابها توقفوا عن التنفس.
أما هو، فقد تجمد مكانه، كأن الصفعة لم تكن صوتية فقط، بل أصابت روحه مباشرة.
رأيته يبلع ريقه بصعوبة، وتغير لونه حتى غدا أشبه بليمونة مصفرة ذابلة.
لم ينبس بكلمة.
بقي جامدًا، مطأطئ الرأس، وكأنما يصارع هزيمة غير مألوفة لديه.
وحين دنت الحافلة من قريته، نهض مذعورًا كمن لدغته أفعى، اندفع نحو الباب، وهبط قبل أن تلامس عجلات الحافلة الأرض تماماً.
خلفه، في المقعد الخلفي، ضحك شاب ملأه الفخر وقال بصوت عالٍ:
ــ والله ما قصرت معه، عفية عليك خال!
ابتسمت له بهدوء، وأدرت وجهي إلى النافذة.
كان الطريق يمتد أمامنا، طويلاً، متربًا، لا ينتهي…
تماماً كرحلة الكرامة في هذا العالم الحامض.
طريق الغبار
كان الصباح ثقيلاً كأن الليل لم يغادر بعد.
وصلت إلى الكراج الصغير في تل تمر، يملؤه الغبار وروائح الديزل، تنتظر الحافلات شبه المتهالكة زبائنها مثل صيادين كسالى في موسم جفاف.
جلست في الزاوية، أحتضن حقيبتي كأنها طفل رضيع، وأنظر للفراغ.
جاء السائق أخيراً وهو يمضغ علكة بنصف فم، أطلق زمور الحافلة بصوت يشبه فحيح أفعى خنقت قبل قليل.
ركبنا… بدأ السير…
لم نمضِ أكثر من خمسة كيلومترات حتى خرج صوت غريب من المحرك، تبعه سعال الحافلة كشيخ يحتضر. توقفت الحافلة في وسط طريق ترابي تحيطه الحقول اليابسة من كل الجهات.
خرج السائق وهو يحك رأسه بطريقة توحي أنه اعتاد الأعطال أكثر من سير الحافلة.
رفع غطاء المحرك، ثم عاد وقال بنبرة هادئة كأن الأمر لا يهمه:
ــ “يا جماعة، خليكم مرتاحين، بدها ساعة تصليح.”
- ساعة؟!
في صحراء الغبار هذه؟!
نزل البعض يبحث عن ظل وهمي تحت أشباح الأشجار. آخرون فتحوا حقائبهم وأخرجوا بقايا طعام فاسد.
أما أنا، جلست على حافة الطريق أراقب ذرات الغبار تتراقص مع الريح وكأنها تحكي حكايات الزمن الضائع.
مرت ساعة… وساعتان…
كانت الشمس قد نصبت خيمتها فوق رؤوسنا، والعرق يسيل من كل المسامات، والغبار يكسو ملابسنا كأننا قطع مهملة في متحف قديم.
مرّت شاحنة كبيرة، لوّحتُ لها بيدي… توقفت على مضض.
تسابقنا نحوها كالعصافير نحو بركة ماء.
وبينما أنا أتسلق الشاحنة، نظرت للخلف فرأيت الحافلة القديمة ما تزال مكانها، والسائق ينفخ في المحرك كما ينفخ راعٍ في ناي مكسور.
ضحكت، رغم كل الغضب.
ضحكت لأنني كنت أعلم…
هذا طريقنا كل يوم… طريق الغبار.
وجوه في الحافلة
صعدتُ إلى الحافلة كما أفعل كل صباح، برتابة لم تعد تفاجئني.
وجدتُ مقعدي المعتاد قرب النافذة، حيث لا شيء جديد سوى الطريق الذي يحفظني أكثر مما أحفظه.
كان الركاب يتوافدون واحداً تلو الآخر،
ومثل كل يوم، كانت الحافلة تمتلئ بوجوه يعرف بعضها بعضًا، لكنها لا تتبادل أكثر من تحية مقتضبة أو إيماءة باردة.
هناك ذلك العجوز ذو الشارب الكثيف، الذي يجلس دائماً في الزاوية، عيناه نصف مغمضتين كأنه يختزن في رأسه حكايات من زمن لم يعد يهم أحدًا.
وفي الصف الخلفي، تجلس المرأة التي تحضن طفلها بشدة، كأنها تخشى أن يضيع منها في زحمة الأيام، أو ربما تخشى أن يأخذه الفقر منها يومًا ما.
ذلك الشاب النحيف الذي يحمل حقيبة جلدية ممزقة، يفتح كتاباً كل صباح لكنه لا يقرأه أبداً، فقط يحدق في الصفحات وكأنه يبحث فيها عن إجابة لم يكتبها أحد.
أمامهم جميعًا، يجلس السائق، يعبث بمسبحته، يضرب المقود بين الحين والآخر، ويطلق الشتائم على الطريق، السيارات، الحكومة، الطقس، وحتى الحظ السيئ الذي جعله سائقًا في هذه البقعة المنسية.
كل هؤلاء أراهم كل يوم، كأنهم مقاعد ثابتة في مسرحية يومية لا يتغير فيها السيناريو.
لكنني كنت أتساءل: ماذا لو قرر أحدهم ذات صباح أن لا يأتي؟
ماذا لو لم يظهر العجوز؟ أو المرأة؟ أو ذلك الشاب الذي يحدق في كتابه بلا معنى؟
هل سنلاحظ؟ هل سيختل توازن الحافلة؟ أم أن الأيام ستجرفنا، كما تفعل دائماً، دون أن نلتفت خلفنا؟
في المقعد المقابل، كان هناك وجه جديد اليوم، رجل غريب لم أره من قبل.
نظر إليّ لثوانٍ، ثم أدار وجهه نحو النافذة.
كأنه فهم اللعبة:
كلنا مجرد وجوه عابرة في حافلة تمضي… ولا تتوقف أبداً.
الإجازة المستحيلة
منذ أسابيع وأنا أفكر:
“يجب أن أطلب إجازة. يوم واحد فقط. أتنفس فيه الحياة بعيداً عن رائحة المكاتب والغبار والتقارير القديمة.”
دخلت إلى مكتب المدير، قلبتُ الكلمات في رأسي كما يقلب الطاهي حساءً قديماً ليبدو طازجاً.
قلت له بنبرة خجولة:
ــ “سيدي… أحتاج إلى إجازة قصيرة، فقط ليوم واحد.”
رفع رأسه ببطء، نظر إلي كأنني طلبتَ منه التنازل عن كرسيه، ثم ردّ ببرود:
ــ “الإجازة؟ في هذا الوقت الحساس؟! مستحيل.”
وقبل أن أفتح فمي، بدأ يسرد قائمة لا تنتهي من الأعذار:
“لدينا تفتيش قريب…”
“هناك نقص بالكوادر…”
“ربما ستمطر الأسبوع القادم، من يفتح المكتب إن غبت؟!”
(لا أعرف ما علاقة المطر بالإدارة، لكنني صمتُّ).
عدتُ إلى مكتبي كأنني جندي مهزوم.
جلست أرتب أوراقًا لا أحد يقرأها، وأوقع مستندات لا أحد يحتاجها، وأكتب تقارير ستنام إلى الأبد في أدراج مهملة.
نظرت من النافذة، رأيت طفلاً صغيرًا يركض تحت أشعة الشمس، يصرخ، يضحك، يسقط، يقوم،
قلت في نفسي:
“هو في إجازة دائمة من كل هذا الخراب.”
ابتسمت…
ثم عادت أصابعي تضرب على الآلة الكاتبة القديمة، كما يضرب العصفور رأسه بالحائط كل صباح… منتظراً معجزة لا تأتي.
الصبية وهاتفها المعطوب
في أحد الصباحات المبعثرة، كنت جالساً خلف طاولتي المعدنية الباهتة، أرتب بعض الملفات، حين دخلت علينا فجأة فتاة قروية صغيرة.
كان واضحًا من لهجتها وملابسها المطرزة أنها من قرية قريبة.
قالت بخجل:
ــ “عمو… الهاتف خربان، أبي قال تعالوا صلحوه.”
أومأتُ برأسي، أخذتُ الهاتف منها. كان جهازًا قديماً بالكاد يمكنه إجراء مكالمة قصيرة دون أن يئن.
فحصته بسرعة، تظاهرت بالتفقد، ثم أخبرتها:
ــ “يبدو أن البطارية انتهت. لا بأس سأحاول إصلاحه لاحقاً.”
ابتسمت ابتسامة صغيرة، وقفت مترددة قرب الباب كأنها لا تريد المغادرة.
سألتها بلطف:
ــ “اسمكِ؟”
ردّت همساً:
ــ ” سعدة ”
ومضت.
تكرر المشهد في الأيام التالية.
كل مرة بحجة جديدة:
ــ “أبي قال الشاحن لا يشحن.”
ــ “قالوا الشبكة ضعيفة.”
ــ “الجهاز يسخن بسرعة.”
كنت أبتسم بيني وبين نفسي.
الهاتف لا عيب فيه، ولكن يبدو أن قلبها الصغير هو الذي كان يبحث عن شيء آخر…
ربما عن حديث صغير، أو نظرة اهتمام في هذا العالم البعيد الذي لا يزورهم فيه الغرباء كثيرًا.
ذات مرة، جاءت وجلست طويلاً دون أن تجد عذراً واضحًا.
كانت تعبث بأطراف منديلها المرتبك، وأنا أصطنع الانشغال كي لا أحرجها.
قالت فجأة:
ــ “عمو… أنت ترجع على مدينتك بعدين؟”
أجبتها ضاحكاً:
ــ “ربما.”
سكتت قليلاً، ثم ودعتني بخجل وذهبت.
لم تأتِ بعدها.
ربما انتهت الأعذار…
أو ربما فهم والدها السرَّ البريء.
لكنني كلما جلستُ إلى طاولتي المعدنية تلك، كنت ألمح من النافذة ظلاً صغيراً يمرّ أحياناً قرب المركز…
كأن الهاتف العتيق ما زال يعاني عطلاً…
أو كأن القلب الصغير ما زال ينتظر إصلاحه.
ملف مفقود
في ذلك اليوم الكالح، طُلب مني أن أُحضِر “الملف الأزرق” المتعلق بمشروع قديم عمره أكثر من خمس سنوات.
بكل براءة فتحت الدرج الأول… ثم الثاني… ثم الثالث…
لم أجده.
أحضرت سلّة الأوراق المهملة، قلبتها رأساً على عقب، كأنني أبحث عن مفتاح بوابة السماء.
ولا أثر.
جاءني رئيس القسم غاضباً:
ــ “أين الملف؟ أنت مسؤول عنه!”
كتمت غيظي وقلت بأدب مصطنع:
ــ “الملف لم يكن بحوزتي من الأساس، ربما…”
قاطعني بجلافة:
ــ “لا أعذار! ابحث عنه!”
بدأتُ أفتش بين الخزائن، الرفوف، الصناديق القديمة، الملفات المتربة…
اكتشفت أن هناك ملفات لم يمسها بشر منذ عهد الطوفان.
كان كل من يمرّ بي يعلق تعليقاً مسموماً:
ــ “الملف مع الأرواح الطيبة!”
ــ “ربما تبخّر مع أحلامنا بالترقية!”
حتى عامل التنظيف ألقى مزحة وهو يلمّ الغبار:
ــ “إن وجدت الملف، قد تجد نفسك أيضاً!”
بعد ساعات من البحث العبثي، وفي لحظة استسلام، جلستُ أتنفس الغبار كما يتنفس الغريق ماء البحر.
وإذا بزميل قديم يأتي حاملاً بيده الملف الأزرق المطلوب.
قال ببساطة وكأن شيئاً لم يحدث:
ــ “آه، آسف… كان عندي على الطاولة بالخطأ.”
نظرت إليه، ثم نظرت إلى يدي المغبرتين وثيابي الملطخة بالغبار،
ضحكت ضحكة مريرة…
ورميت نفسي على الكرسي منهاراً، أردد في سرّي:
ــ “مَن قال إن العمل يُنهك الجسد؟ إنّه ينهك الروح أيضاً.”
جهاز التنفس والوفاء الخفي
في تلك الأيام، كانت أنفاسنا نحن الموظفين ضيقة كحال رواتبنا، لكن أنفاس والد رئيس المركز كانت أضيق بكثير.
سقط الرجل فجأة، يحتاج إلى جهاز تنفس اصطناعي بشكل عاجل.
تلفّت الجميع حولهم ، لا جهاز… لا فرصة للشراء السريع…
اليأس بدأ يرسم ملامحه على وجه رئيسنا الذي طالما بدا متغطرسًا فوق همومنا.
وبينما كان يهمّ بالخروج إلى قريته بعينين زائغتين، أوقفتُه بهدوء وقلت:
ــ “هناك جهاز تنفس لدينا كان للوالد… لم يعد لي به حاجة.”, سأبحث عنه وإن حصلت عليه غداً سيكون عندكم .
نظر إليّ بدهشة، كمن يتلقى صفعة من فرح لا يُصدق.
في اليم الثاني شرحت له:
ــ “كنتُ قد جلبته لوالدي رحمه الله… لكنه رحل قبل أن يستخدمه.”
صمت الرجل لحظة، وهو لا يعرف إن كان يواسي أم يشكر.
أومأت له أن يأخذه بلا حرج.
تلعثم بكلمات شكر لا تكاد تخرج من شفتيه، ثم حمل الجهاز بلهفة وركض كمن يحمل مصيره كله بين يديه.
جلست بعدها على حافة مكتبي، أتأمل الفراغ الذي تركه الجهاز، وأبتسم بحزن:
ــ “رحل والدي… لكن جهازه ربما سينقذ حياة والد آخر.”
وفي زوايا هذا المبنى العتيق، عرفت لأول مرة أن بعض الأجهزة لا تباع ولا تُشترى،
إنما تهبها الأقدار للقلوب التي تعرف كيف تتنفس الإنسانية.
دوام العيد
لم تكن السماء زرقاء ذلك الصباح، ولا الشوارع مزدحمة كعادتها…
كانت صامتة، ثقيلة، مبللة برائحة الخبز والورد وأصوات الأطفال بثيابهم الجديدة.
أنا فقط كنتُ في طريقي إلى المركز،
مكلفٌ بدوام العيد،
مثل جنديٍ نسيه قائده في آخر الخنادق.
فتحت الباب الحديدي، أصدر صريرًا يشبه بكاء قديم.
مررت بالممرات الفارغة، وحييت المكاتب الخاوية وكأنها بشر غادروا إلى عالم آخر.
جلست خلف مكتبي أعدّ الدقائق، أراقب أشعة الشمس وهي تتسلل عبر النافذة كعجوز خجولة.
لا مراجعين.
لا زملاء.
لا حركة سوى أنفاسي الثقيلة.
عند الظهيرة، جلب لي حارس المركز كأس شاي بارد،
وقال مواسياً:
ــ “عيدك مبارك يا أستاذ… والله ما يسوى شغلكم هذا.”
ابتسمتُ له شاكراً، وقبل أن أرتشف الشاي، خطر لي:
ــ “العيد الحقيقي ليس اليوم…
العيد الحقيقي سيكون حين نفرح مع من نحب دون أن تقيدنا الورق أو الأختام أو الجداول الباردة.”
أغمضت عينيّ،
وحلمت بعيد قادم… لا دوام فيه… ولا مكاتب وحيدة.
حلم أبيض في عيادة الأسنان
وصل إلى قريتنا طبيب أسنان شاب، خريج روسيا، أنشأ عيادة صغيرة قرب مركزنا الوظيفي.
كان من بني جلدتي، فسرعان ما جمعتنا الألفة.
صار كلما فرغ من مرضاه، يأتي إلى دائرتنا، يجلس معي مطولًا، ويفتح قلبه على مصراعيه.
في ظهيرة دافئة قال لي وهو يبتسم كطفلٍ يحتفظ بسر خطير:
ــ “عمي… تعرف ليش أجيك بهالوقت تحديداً؟”
نظرت إليه وأنا أحتسي الشاي:
ــ “خبرني.”
تنحنح بخجل، ثم قال:
ــ “أنتظر خروج الآنسات من المدرسة القريبة… بصراحة، عيني وقعت على واحدة منهن، شفتها كم مرة لما كانت تجي للعيادة، تعجبني كثير… وأفكر بالزواج منها.”
ابتسمت، وقلت له مشجعًا:
ــ “طيب، ليش لا؟ احكي معها، اسألها إذا كانت مخطوبة أو لا… الصراحة مفتاح كل شيء.”
هزّ رأسه وقال بنبرة أكثر جدية:
ــ “عمي… المشكلة ليست هي… المشكلة إنه هي من ديانة ثانية… وأنا… هم ما يقبلون تزويج بناتهم لغير ملتهم.”
ثم أردف بإصرار صادق:
ــ “بس أنا… ما عندي مشكلة. خليها على دينها وأنا على ديني… ماذا يعني؟ الحب أكبر من هيك حواجز.”
نظرت إلى عينيه، ورأيت فيهما حيرة وأمل، كما لو كان يحمل قلبه بيدٍ وكبرياءه باليد الأخرى.
صمتُّ قليلاً ثم قلت له بما يشبه الدعاء:
ــ “القلوب لا تعرف ديناً ولا قومية… يا بني، إن كان لك فيها نصيب، سيذلل القدر كل العقبات… وإن لم يكن، فالله يحفظ قلبك من الانكسار.”
في تلك اللحظة، أدركت أن العيادة الصغيرة قرب مركزنا، لم تكن مجرد مكان لخلع الأضراس،
بل مسرحاً سرياً لأحلام شاب يحلم بحب أبيض كابتسامة صحية.
الراتب الغائب
كان من عادة البريد أن يجلب إلينا رواتبنا بداية كل شهر.
ننتظر “الختم الأحمر” على المغلفات وكأننا ننتظر الفرج من السماء.
ذلك الشهر، طال الانتظار…
مرّت أيام وأيام، ولا أثر للبريد، ولا رواتب، ولا حتى اعتذار.
في البداية، ابتلعنا التأخير كمن يبتلع حبّة مرّة على أمل الشفاء.
لكن الجيوب بدأت تفرغ، والوجوه شحبت، وبدأت الهمسات تنتشر بين الموظفين:
ــ “يبدو أن البريد تعرض للسرقة!”
ــ “أو أن الحارس هرب بالرواتب!”
ــ “ربما نسونا هناك في المديرية…!”
وفي صباحٍ غائم، دخل علينا ساعي البريد مشياً، وجهه أشبه بورقة ذابلة،
يحمل بيده كيساً صغيراً، كأنما يحمل اعتذاراً أكثر مما يحمل رواتب.
اقترب مني قائلاً وهمس كأنه يسرد جريمة:
ــ “والله يا أستاذ… لم يرسلوا إلا قسم من الرواتب… قالوا الأزمة خانقة، والباقي لما يفرجها الله!”
نظرت إلى المظروف الخفيف الذي لا يكاد يغطي حاجتي لأسبوع.
ابتسمت بحزن، وقلت له وأنا أوقع بالاستلام:
ــ “سلم لي على الأزمة… وقل لها: نحن من زمان أيتامها.”
أخذت مظروفي، ومضيت مع زملائي، نعدّ قروشَنا في الطريق كمن يحصي أنفاسه الأخيرة.
مكالمة التهديد وكرامة الموظف
كانت الدائرة تغطّ في صمت منتصف النهار، حين رنّ الهاتف فجأة بنغمة فوضوية مزعجة.
رفعت السماعة:
ــ “من معي…؟”
جاءني صوت أجش مليء بالعجرفة:
ــ “أنت مين؟ اعطني رئيس المركز فوراً.”
أجبت بهدوء:
ــ “رئيس المركز غير موجود، لديه جولة ميدانية مع العمال.”
صرخ بنبرة لا تخلو من التهديد:
ــ “ومن أنت لتنوب عنه؟”
ابتسمت ساخرًا دون أن يراني أحد:
ــ “هذا ليس من شأنك، وأعيد لك رئيس المركز غير موجود.”
لم يهدأ، بل ارتفعت نبرة صوته:
ــ “هل تعلم مع من تتكلم؟ لدي ولدان في أمن الدولة… سترى مصيرك قريباً!”
أطلقت ضحكة قصيرة وقلت له ببرود:
ــ “لا تهددني، ولا أخاف إلا من ربي… افهمها جيداً: وعلى أعلى ما بخيلك اركبه.”
ثم أغلقت السماعة دون تردد.
بعد قليل، عاد رئيس المركز إلى الدائرة.
قصصت عليه ما جرى دون تحوير.
نظر إليّ مصدوماً وقال:
ــ “لك يا رجل! غضبت أبو علي؟! هذا عنده أولاد بأجهزة الأمن… ما حدا بيسترجي يزعلوا!”
ابتسمت بهدوء وقلت بثقة:
ــ “لا تخف يا أستاذ… أنا مسؤول عن كلامي.”
لم تمض دقائق حتى دخل “أبو علي” بنفسه، ينفث الغضب من أنفه وأذنيه.
ملأ صوته أرجاء الدائرة:
ــ “مين هاد اللي رد عليّ قبل شوي؟!”
نهضت من مكاني، وقفت أمامه بثبات، وقلت بابتسامة لم تفارقه:
ــ “أنا… ماذا هناك، ولماذا هذا الهجوم والصوت العالي؟”
اقترب مني مزمجراً:
ــ “بتعرف مين أنا؟!”
أجبته ببرود:
ــ “اعرف، وعرفت أكثر لما هددتني بالتليفون… الآن أقول لك: اخرج من الدائرة، وإلا لن يعجبك ما سأفعله.”
صُدم الرجل للحظة، تراجع، ثم استدار غاضباً وخرج مطأطئ الرأس،
يجرّ خيبته خلفه كما يجرّ قاطع طريق فاشل بندقيته الصدئة.
خزان المياه وصيحة الجمعة
خزان الماء وخطبة الجمعة
كانت الشمس تلفح الوجوه ونحن نتحمل أيام القيظ بصبر المتصوفين، في ذلك المبنى المتهالك الذي يطلقون عليه ظلماً اسم “الدائرة”.
كنا نشرب الماء المجلوب من صهاريج مهترئة، يدفع كل خزان منها عشرين ليرة، رغم أنه لا يصلح حتى لسقاية البهائم!
ومع ذلك، لم نملك إلا أن نعبّه كدواء مر، نحن وأهالي القرية على السواء.
ذات صباح، تعطّل خزان الدائرة تماماً. لا ماء للوضوء، ولا للشرب، ولا حتى لرش الأرضية الساخنة لتلطيف الجو.
رئيس المركز، بطريقته الشهيرة في التهرب، قال:
ـ “مافي ميزانية! عيشوا بلا ماء… مثل باقي العالم.”
في يوم جمعة قائظ ، غاب إمام المسجد لمرضه، فتطوعت أنا ـ الموظف الغريب ـ لإلقاء الخطبة.
وقفْتُ أمام الجمع المتصبب عرقاً، وبدلاً من خطبة دينية تقليدية، أطلقت صرخة الحق:
ـ “أيها المؤمنون، الماء أصل الحياة… ومن حُرم الماء، حُرم الطهارة، والصلاة، والحياة! أين حق الموظف في شربة ماء؟ أين حق الإنسان في كرامته؟!”
ضج المسجد بالضحكات الخافتة، وتبادل الناس النظرات، وكأنهم لأول مرة يسمعون خطبة تخاطب معاناتهم اليومية.
بعد الصلاة، جاء أحد كبار القرية، وهو يمسح دموع ضحكته الخبيئة، وقال مبتسماً:
ـ “يا ولدي، تستحقون خزان ماء جديد!”
وفي اليوم التالي، تبرع بصهريج ماء نظيف للدائرة، مع وعد بتكرار التوريد “مجاناً” كل أسبوع.
وهكذا… انتصر الماء في حربه مع العطش، بفضل خطبة جمعة خارجة عن المألوف!
وأنا استدعيت للتحقيق بين السين والجيم والتهديد بالسجن لو قمت بتكرار هذا الفعل أو فتحت فمي ..؟.
رجل المهام الصعبة
في صباح اليوم الأول لدوامي في الدائرة الريفية النائية، لم يخطر ببالي أن في القرى الصغيرة أيضًا رجال مخابرات مفروزين داخل مؤسسات الدولة.
دخل علينا رجل قصير القامة، حليق الذقن، ذو صلعة خفيفة، يرتدي بنطال جينز وقميصاً بسيطاً، يبتسم بلطف ولباقة مريبة.
قدّمه زملائي لي على أنه أبو عادل، رجل الأمن المسؤول عن المنطقة.
بادرني بالحديث عن الوطن وخدمته قائلاً:
ــ مجتمعنا هنا فسيفساء جميلة: عرب وكورد ومسيحيون آشوريون، وأنا علوي… ونحن إخوة.
كان ودوداً بشكل مبالغ فيه.
وذات يوم، تأخرت عن حضور مجلس عزاء لإحدى العائلات القروية، فبادرني قائلاً:
ــ هل ترافقني إلى العزاء؟ واجب اجتماعي… وأنا أعرف الناس والمكان.
لم أشأ أن أرفض، فترافقنا.
ومرّةً أخرى، وأنا أقف عند مفترق الطريق أنتظر الحافلة، توقف فجأة بدراجته النارية وعرض أن يوصلني إلى “سري كانيه” (رأس العين).
ركبت خلفه، وتسلل إلي شعور متناقض من الامتنان والريبة.
مرت الأيام.
وفي بداية الحرب التي اندلعت في البلاد، كان أبو معين ضمن دورية أمنية على حاجز قريب.
أوقفوا سيارة مريبة…
تبين لاحقاً أنها تعود لمجموعة من الشبيحة، وكانت محملة بالأسلحة.
دون سابق إنذار، انطلقت السيارة مخترقة الحاجز، مطلقة الرصاص على الدورية.
أصيب أبو معين إصابة بالغة في عموده الفقري، ونُقل إلى المشفى.
التاج فوق الرأس
مع اشتداد أتون الحرب، وبعد محاولات متكررة وضغط من معارف وأصدقاء، تمكنتُ أخيراً من الانتقال من المركز البعيد إلى مركز آخر، أقرب قليلاً إلى المدينة، وإن لم يكن بمنأى عن الخطر.
تركت خلفي وجوهاً ألفتها… وأخرى خشيت بطشها.
ولكن بقي في القلب غصّة، حين علمتُ بمقتل أحد الموظفين الطيبين في الدائرة القريبة التي كنت أعمل بجوارها سابقاً.
ذاك الشاب اللطيف، المتواضع، الذي كان دائم الابتسام، والذي لم تفارقه زوجته المعلمة؛ ترافقه يومياً إلى مدرستها الصغيرة، جالسة خلفه على دراجته النارية.
كان حديثه عذباً، وروحه شفافة.
وكنت قد سألته مرة، ممازحاً:
ــ لماذا تصرّ على البقاء هنا؟ لمَ لا تنتقل إلى المدينة؟
ابتسم بحزن خفيف وقال:
ــ أستطيع… لكن زوجتي لا يمكن نقلها من مدرستها هنا. بقيتُ لأجلها.
ثم أردف قائلاً:
ــ نحن في ديننا لا نتزوج إلا امرأة واحدة… ولهذا نضعهن تاجاً على رؤوسنا ونفديهن بأرواحنا.
لكن رصاص الحقد لم يفهم معنى الوفاء ولا قدسية الحب.
قتل الشاب المسكين أثناء هجوم للفصائل المسلحة وبعض المتعاونين من أهل القرية الذين باعوا ضمائرهم.
ورحل الشاب، بينما بقيت قصته عالقة في الذاكرة كوشمٍ لا يُمحى: تاج فوق الرأس… وسهم غدر في القلب.
كلمة ختامية
في زمن اختلطت فيه الأصوات، واهتزت فيه الأوطان تحت وطأة الحرب، بقي الإنسان البسيط يدوّن حكايته بشرفه، وتضحياته، وأحلامه الصغيرة.
يوميات موظف… ليست حكاية شخصٍ واحد فقط، بل قصة جيلٍ كامل عرف كيف يحب رغم القسوة، وكيف ينهض رغم التعب، وكيف يحلم رغم الغبار.
شكراً لكل من كان بطلاً صغيراً في زاوية منسية… شكراً لكل من مرّ وترك أثراً.
- ماهين شيخاني
29-4-2025